الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الحياة تبدأ بعد الخمسين أحيانا

الصيد «مالوش سن».. و«الميّه تكذب الغطّاس»!

أصعب ما فى الطرق هو بدايتها، تنقضى نصف الرحلة فقط بمجرد أن تستقل الحافلة. مهما تقدمت بك الحياة لن تُحرَم الاختيار، ستكبر وتهرم ويصيبك العجز فقط حين تقرر أنت هذا.



ربما يشبه هذا كلام التنمية البشرية الذى قد لا يقنع البعض لكن «المياه تكذب الغطَّاس»، وستقتنع تمام الاقتناع إذا قررت يومًا قضاء الإجازة على شاطئ البحر الأحمر والتقيت د. علاء الدين أو م. مازن على دراجاتهم النارية ولاحظت خصلات شعرهم البيضاء تتقاذفها الرياح.

أو لو قادتك خطواتك لإحدى الجامعات لتقع نظراتك على أ. سحر تجلس بين الطلاب ثم تسرع إلى المنزل لترعى أبناءها.

وربما تلتقى أ. وفاء فى حفل تخرج ابنتك وترى امرأة بعمر زوجتك ترتدى عباءة التخرج. ماذا إذا استقللت القطار لمحافظة أخرى ولاحظت أ. رضا وهو يجوب المحروسة بسنارة ونظَّارة للقراءة.

أمَّا إذا لم تكن محظوظًا كفاية لترى ما رأينا فإن صباح الخير تصحبك فى جولة بعد الخمسين، إحدى تلك الجولات التى لا يمكن أن تخرج منها كما دخلت.

اجتاحت قصة وفاء صفوان مواقع التواصل بين ليلة وضحاها بعد انتشار صور لها بصحبة أبنائها الأربعة وهى تحتفل بحصولها على ليسانس الحقوق من جامعة الإسكندرية، كان المتابعون مهتمين للغاية بالتحدى الصعب الذى خاضته وفاء بعد انقطاع عن التعليم لأكثر من عشرين عامًا، انفصلت عن زوجها منذ عشر سنوات لتصاب بحالة من الاكتئاب خرجت منها سعيًا لتحقيق حلم الشهادة بتشجيع من أبنائها الأربعة. 

هى مصرية نشأت بسوريا وتعلمت بها حتى أُرغِمت على ترك الدراسة وفقًا للعادات آنذاك، تزوجت واستقرت فى مصر وظل الحلم قيد الإيقاف بعبارة «مينفعش أنت خلاص اتجوزتى ومعاكى ولاد».

الأولاد كبروا والزواج انتهى هنا تعود وفاء تلميذة بالثانوية، تحضر الدروس وتحفظ المذكرات وسط تشكك المدرسين فى نجاحها.

تقول وفاء: «كان مدرس الجغرافيا يشك فى قدرتى على مواصلة الدراسة حتى إنه لم يتقاض أجر الدروس، كنت واثقة من حبى للدراسة وقلت له (هشرفك).

وبالفعل كانت فرحته لا تصدق حين وجد درجتى 57 من 60».

انتهت المرحلة الثانوية بمجموع 82 % لتختار الالتحاق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وبدا الحلم أقرب مما تتخيل.

 

 

تقول وفاء: «كنت أمر بمجمع الكليات بالشاطبى ليداعب حلم المحاماة خيالى وأتخيل نفسى مستشارًا بإحدى الشركات الدولية. قررت دخول الكلية كما يقول الكتاب، أجلس على البنش وأقضى الاستراحات فى الكافتيريا وأذهب فى نزهات مع أصدقائى من الدفعة والذين لم يكونوا يشعرون بفرق السن، كنت أشعر أننى أعيش سن العشرين من جديد وهكذا شعر أبنائى أيضًا».

بعد حصولها على الليسانس كرمها المجلس القومى للمرأة واحتفت بها عائلتها، بالنسبة لوفاء لم يقف المشوار عند هذا الحد، لذلك هى تسعى لاستكمال الدراسات العليا معتبرة أن الليسانس بداية طريق لن ينتهى حتى الدكتوراة.

تتشابه قصة وفاء مع سحر عبد السميع ذات الـ 45 عامًا، صعيدية أجبرت على ترك الدراسة بعد الإعدادية للزواج، توفى زوجها وتخطى ابنها وابنتها سن الطفولة.

تقول: «أنا أم عاملة وبذلت مجهودًا كبيرًا فى التوفيق بين وقتى بين الأولاد والشغل والدراسة».

تكمل: بدأت الدراسة من أولى ثانوى وكان أولادى مشجعين للدرجة التى دفعتنى للاستمرار، حتى أن بعض ليالى الامتحانات كانت ابنتى تذاكر معى وكأن الأدوار معكوسة.

فى 2012 تحققت أولى خطواتى وأنهيت الدراسة الثانوية ثم التحقت بكلية التجارة وتخرجت فى قسم إدارة الأعمال 2020، بعد أن كان الكثيرون يبادرون بجمل مثل (يعنى اللى خدوا الشهادة عملوا بيها إيه؟) قالوا بعد الشهادة (برافو، عملتيها)، وأصبحوا يشجعوننى لاستكمال الماجستير».

التوفيق بين العمل والدراسة كان من أصعب ما مرت به، سحر، أمّا السنة الأخيرة بالكلية فكانت فى بداية هجمة الكورونا.

الشهادة لم تكن مجرد ورقة كانت تغييرًا جذريًا فى حياة سحر، حتى فى علاقتها مع أولادها وهو ما عبرت عنه قائلة: «التعليم جعلنى أكثر فهمًا ووعيًا وقربنى أكثر من أولادي، حتى نظرة الأولاد تغيرت. الشهادة كانت علشان نفسى قبل أى شيء، كانت حلمًا سُرِق من طفلة واستعادته وهى امرأة».

د. أحمد علاء الدين 71 سنة، هو أحد أعضاء فريق لقيادة الدراجات.. يقول: «أقود الدراجات النارية منذ أكثر من 15 عامًا حين كنت أعمل كطبيب استشارى بمستشفى بالرياض، كانت نوعًا من التنفيس عن ضغط العمل والاستمتاع بصحبة الآخرين، حيث كان يجمعنا جروب riders». 

استمرت الهواية بعد عودته إلى مصر، بحث عن جروب لقائدى الدراجات يرافقه فى رحلاته بدلًا من القيادة وحيدًا قال: «نقوم بتنظيم رحلات بعيدة للسويس والسخنة بعيدا عن زحام القاهرة. جميعنا نقود دراجات رحالة تزن أكثر من 350 كيلو جرام ونرتدى زى الحماية الكامل».

دراجتك ستحملك إلى حيث تشاء دون أن تلقى بالًا إلى شعرك أو سنك، حتى رفاق الطريق لم يشعروا معه بفارق السن فالجميع يسيرون على خط واحد وبسرعة واحدة حسب قواعد متعارف عليها.

بشكل عام تمر معظم الرحلات بسلاسة وهدوء لكنها أحيانًا لا تخلو من المضايقات يقول د. أحمد: «بعض الناس ليس لديهم ثقافة احترام قائدى الدراجات، البعض يلقى التعليقات الساخرة وبعضهم يعلق على السن (آه يا عم الشيخ) (بابا نويل)، لكن آخرون يقومون بتشجيعى ويشيرون إلينا من سياراتهم». وأضاف: «هناك أشخاص فى سنى يتسلقون إيفرست ويقفزون بالمظلات، الهواية ليس لها سنًا معينة، بشرط اتخاذ معايير الأمان والحفاظ على الصحة».

 

 

أمَّا م. أحمد مازن 59 عاما فقد بدأ رحلته على الطريق مع فريق الدراجات منذ عامين ونصف، الدراجات النارية حلمه الذى لم يتمكن من تحقيقه إلا بعد الخمسين قال: «بعد أن كبر أولادى اشتريت الدراجة وبدأت أتعلم القيادة، ثم اشتركت فى جروب من 25 هاويًا من مختلف الأعمار يقودون الدراجات لنقوم برحلات جماعية».

يقود مازن دراجته إلى مارينا والسخنة والفيوم وغيرها دون أن يلقى بالًا لعمره، بل على العكس يشعر أنه عاد شابًا.

تحقيق الحلم لم يكن بسهولة فقد قوبلت الفكرة بالمعارضة الشديدة من أسرته وأبنائه خوفًا من خطورة قيادة موتوسيكل، لكن رأيهم تغير بعدما لاحظ الجميع التأثير الإيجابى لتلك الهواية على صحته النفسية والبدنية.

يقول مازن: تعاملى مع شباب الجروب جعلتنى أكثر قربًا من أبنائى ومتفهمًا لأفكارهم. وتابع: «أعضاء الجروب من الشباب يتصورون أن سنى قريبًا من سنهم فى حين أن أكبر أبنائى فى مثل عمرهم، وبعضهم من الآباء الجدد يطلبون منى النصائح فى التربية ويتعاملون معى كأخ كبير وصديق، وهو أكثر ما جعلنى أشعر بالشباب حتى بدأت أهتم بهوايات أخرى مثل الرماية والتصوير».

أما رضا رمضان صاحب الـ 67 عامًا فهو وكيل مدرسة متقاعد، وهو غاوى صيد بكل أنواعه وأدواته، لم يمنعه تقدم السن من هوايته التى يجوب فى سبيلها شواطئ المتوسط بين القاهرة وليبيا، وتحدث عنها لصباح الخير: «الصيد لا يعرف كبيرًا ولا صغيرًا، مجرد أن تتملكك الهواية لن تقاومها، وهو ما حدث معى منذ صغرى حتى كبرت معى وأصبحت لدى الجرأة والخبرة لأصطاد فى أى بحر وأى ظروف مناخية قاسية. جربت الصيد فى معظم شواطئ مصر وبعض شواطئ ليبيا وأكثرهم بلطيم ورأس البر والإسكندرية، بكافة الأدوات والطعوم الحية والصناعية حتى أصبحت على دراية بمعظم أنواع الأسماك وما يناسبها من أدوات». ولع رضا بالصيد يجعله ينفق الكثير على أدواته، بمجرد أن يمر على محل صيد حتى يخرج منه محمَّلًا بأحدث الأدوات، فعلى حد وصفه الصيد متعة لا يعرفها إلا الصيَّاد.

وسع رضا نطاق علاقاته ليلتقى بالعديد من هواة الصيد فى كل بحر يصطاد منه، لكن الأمر الذى لم يسلم من المواقف الغريبة كما قال: «كنت فى إحدى رحلات الصيد بطرابلس مع زميلَين، نام أحدهما أثناء الصيد أما الآخر عاد إلى منزله، وحين استيقظ زميلنا النائم لم يجد ماكينة الصيد خاصته فنشب شجار كبير بينه وبين الآخر وانتهت دون معرفة أين ذهبت مكنة الصيد، بعد بضعة أيام اصطدت سمكة ثعبان من مكان أبعد عن مكان الشجار ووجدت ذيلها مربوطًا بخيط سنارة أخذت أجذبه حتى وصلت للماكينة وتبين أنها تعود لصديقنا النائم مفتعل الشجار».

يرى رضا أن هواية الصيد تعلم إلى جانب الصبر الاعتماد على النفس والفراسة، كما أتاحت له الفرصة للتفكير وتحسين المزاج وتفريغ ضغوطات الحياة، ناهيك عن نسيم البحر العليل، كل هذا جعله يشجع أقاربه على الصيد ويتمسك به ويجوب خلفه الشُطآن ولم يسمح للسن بإيقافه.