الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«رد قلبى» بين السباعى و«طه حسين»!

حكايات صحفية

«رد قلبى» بين السباعى و«طه حسين»!

أظن أنك شاهدت فيلم «رد قلبي» - عشرات المرات مع كل احتفال لثورة 23 يوليو 1952، وأنت حفظت مشاهدها وحوارها عن ظهر قلب، والفيلم كما تعرف عن رواية الأديب الكبير «يوسف السباعي» وإخراج العبقرى «عزالدين ذوالفقار» وبطولة النجوم شكرى سرحان ومريم فخرالدين وصلاح ذوالفقار وحسين رياض وهند رستم وجاء تاريخ عرضه الأول فى ديسمبر سنة 1957.



وأظنك لا تعرف أن د.طه حسين عميد الأدب العربى كان هو من دعا إلى تحويل الرواية إلى فيلم سينمائى وذلك فى مقاله الشهير «المطولة رد قلبي» والمنشور ضمن كتابه «نقد وإصلاح» الصادر عام 1956 أى قبل الفيلم بعام!!

مقال د.طه حسين استعرض 12 صفحة من كتابه البديع وسأكتفى هنا بعرض أبرز ما قاله طه حسين عن يوسف السباعى وروايته حيث كتب يقول:

«هذه هى القصة التى أهداها إليّ الأستاذ «يوسف السباعي» منذ أسابيع والتى أنفقت فى قراءتها وقتًا ليس أقل منها طولًا، فهى لاتقرأ فى يومين ولا فى أيام قليلة وإنما تقرأ فى الأيام الكثيرة، وفى الليالى الكثيرة أيضًا لأنها أطول من شهر الصوم الذى انقضى أخيرًا. ولا أشبهها بليالى الشتاء، ففى ليالى الشتاء طول ممل، وليس فى قصة الأستاذ «السباعي» على إغراقها فى الطول ما يمل أو يغرى على الملل، ولكنها تمضى فى طريقها هادئة حينا وعنيفة حينًا آخر، فلا يكاد هدوؤها يغريك بالملل حتى تعنف فجأة وترد عنك الملل ردًا وتشغلك بأحداثها وأوصافها وتغريك بالقراءة والإمعان فيها حتى تبلغ من العلم بهذه الأحداث والأوصاف ما تريد ثم تردك مرة أخرى إلى الهدوء!

وهى لا تكاد تمضى مستقيمة مطردة حتى تلتوى بك إلى اليمين مرة وإلى الشمال مرة أخرى، فتريحك من هذه الاستقامة التى كادت تشق عليك ثم تردك إليها بعد أن كاد الالتواء يرهقك من أمرك عسرًا!

ويمضى د.طه حسين فى قراءته للرواية فيقول:

ويكفى أن نعلم أن صفحات القصة تتجاوز الألف ثم تتجاوز المائتين بعد الألف وأنها تقدم إليك مرة واحدة لا مرات يتبع بعضها بعضًا، فإذا رأيت أمامك هذين المجلدين الضخمين أخذك شيء من الروع ثم لم تلبث أن تحس شيئا من فتور الهمة والإشفاق من أن تبدأها ثم تصرفك الصوارف عن إتمامها، وأشهد أنى رضيت عن نفسى حين رأيتنى أفرغ من قراءة الصفحة الحادية عشرة بعد المائتين والألف وكنت أقدر أننى لن أبلغها!

وأشهد كذلك أن الأستاذ السباعى نفسه قد أخذه شيء من الدهش حين أنبأته بأنى قرأت قصته هذه إلى آخرها، كما أن بعض الأصدقاء أصابهم مثل هذا الدهش واعترفوا بأنهم حين قرأوا القصة لم يحاولوا الأخذ فى قراءتها لأنهم يئسوا من إتمام هذه القراءة، وأنا بعد ذلك لا آسى على ما أنفقت فى قراءتها من الأيام والليالى بعد أن سعدت بهذه القراءة، كل السعادة واغتبطت بها أعظم الاغتباط!

فالقصة جديرة أن تقرأ حقًا وأن تقرأ فى أناة، ومهل لا فى سرعة وعجل وعسى أن تكون من خير ما أهدى الأستاذ السباعى إلى قرائه، إن لم تكن خير ما أهدى إليهم لولا هنّات سيكون الإلمام بها بعدحين!

فأنت واجد فى هذه القصة حين تقرأها ألوانًا كثيرة مختلفة من تصوير الحياة المصرية فى ربع القرن الأخير، تجد فيها السياسة وتجد فيها الإسراف فى البؤس والإسراف فى الثراء والإسراف فى هذا التفاوت لا بين أبناء الوطن الواحد ولا بين أبناء المدينة الواحدة، بل بين أبناء الحى الواحد أو الجزء الضئيل من هذا الحي!

وأنت واجد فى القصة إلى جانب التصوير للحياة السياسية والاجتماعية تصويرًا آخر أعمق منه عمقًا وأروع منه روعة وأشد منه إمعانًا فى الجدة والطرافة والغرابة جميعًا وأريد به الحب الذى يلغى الفروق ولايحفل بالسياسة ولايحفل بالحياة الاجتماعية وإنما يمضى فى طريقه كما تمضى القصة، يهدأ حينًا ويعنف حينًا آخر، ويستقيم مرة ويلتوى مرة أخرى حتى ينتهى إلى غاية بعد خطوب أى خطوب!

وبعد عبث بالقلوب وتعذيب للنفوس وإرهاق للأعصاب وامتحان لقدرة الإنسان على الصبر والمطاولة وعلى الجهاد والكفاح وعلى النفوذ من المشكلات والتغلب على الخطوب حين يركب بعضها بعضًا، وحين تجعل حياة الناس جحيمًا لا يطاق.

وأنت واجد بعد ذلك كله فنونًا من تحليل الأنفس الإنسانية وأهوائها وعواطفها وآلامها وآمالها ودخائلها الملتوية المعقدة وأسرارها التى تكاد تخفى حتى الضمير نفسه والتى تدفع الناس إلى أن يعملوا ويأملوا دون أن يعرفوا لم يأملون ويعملون! ثم أنت متنقل أثناء هذه القراءة بين بيئات مختلفة متفاوتة أشد التفاوت، فأنت فى هذه الضيعة بين القصر الشامخ الضخم والبيت المتواضع الفقير، ثم أنت فى بيئة أخرى تخالفها أشد المخالفة بيئة المدرسة الحربية على ما لأساتذتها وطلابها وضباطها من تقاليد وعادات، وأنت فى القاهرة ثم أنت فى الإسكندرية، ثم أنت على ساحل البحر مما يلى الصحراء ثم أنت فى أعماق الصحراء.. و.. و.

ويستكمل د.طه حسين وصفه وقراءته للرواية قائلا:

«أشياء كثيرة أخرى تجدها فى قراءة هذه القصة، ولست أريد أن أمضى فى الحديث عنها لأنى لا أريد أن أطيل كما أطال الأستاذ السباعى، ولو حاولت لما رضى قراء هذه الفصول، فهم إلى وقتهم أشد حاجة وهم عليه أعظم حرصًا من إضاعته فى قراءة الأحاديث المطولة، وخير لهم أن ينقوه فى قراءة القصة نفسها فسيجدون فيها من المتعة ما هو أقوى وأقوم مما يجدونه حين يقرأون هذا الحديث، ولا ينسى د.طه حسين تلخيص وقائع الرواية التي تنقسم فى رأيه إلي ثلاثة أقسام حيث توقف بالتحديد والتأمل إلى القسم الثالث، حيث كتب يقول عنه:

هو أقوم هذه الأقسام كلها وأعظمها حظًا من الإمتاع للقلب والعقل والذوق جميعًا وهو تصوير هذا الحب بين هذين الصبيين وكيف نما وكيف تطور وكيف عبث به البعد والقرب جميعًا، وكيف أثر فيه اختلاف الطبقة وتفاوت المنزلة وكيف أتيح له آخر الأمر أن ينتصر ويفوز!

فى هذا القسم استطاع الأستاذ «السباعي» أن يكون كاتبًا ماهرًا حقًا فهو قد عرف كيف يحلل نفوس طائفة من الناس يتفاوتون فى الطبقة والمنزلة وفى الذكاء والغباء، وفى العلم والجهل، وفى التواضع والكبرياء، وفى الثقة بالنفس والشك فيها، وفيه أيضًا أتقن الأستاذ السباعى أيضًا تصوير الطموح الذى يستأثر بنفوس الطبقات الفقيرة، ويدفعها إلى الجد والكد ويعرضها للإخفاق مرة وللنجاح مرة أخرى ويخرجها على كل حال من طورها الضئيل المتواضع إلى طور الطبقة الوسطى التى لا حد لمطامعها!

وفيه كذلك صوّر الأستاذ «السباعي» أدق تصوير وأصدقه عبث الشباب وافتتنانهم بما يتعرضون له من المغريات، ومضّى هذا العبث إلى غايته مرة وتحوله مرة أخرى إلى الحب القوى العنيف الذى يذهل صاحبه عن كل شيء!

ولو شئت لمضيت فى تصوير ما تمتاز به قصة الحب والمحبين وما يحيط بها ويكتنفها من المشكلات والخطوب، ولكن هذا القسم الثالث وحده جدير أن يكلفك قراءة القصة على طولها وعلى إسرافها فى إنبائك بما تعرفه من أنباء السياسة وخطوبها، وأنا أعترف بأنى كنت أتعرض للملل فى قراءة هذا التاريخ السياسى الطويل لأنى لا أجد فيه جديدًا فلا ينقذنى من الملل إلا مهارة الكاتب فى الرجوع بنا إلى قصة الحب قبل أن يصرفنا الملل عن القراءة!

وأخيرًا ينتقل د.طه حسين إلى ملاحظاته النقدية عن الرواية فيقول:

ملاحظتان اثنتان كنت أتمنى ألا أضطر إليهما، فأما أولاهما فتتصل باللغة وهى لا تخلو من طرافة، فقد خيل إليّ حين أخذت فى قراءة القصة أن الكاتب قد عاد إلى الحق ورجع إلى الصواب وآمن باللغة العربية الفصحى وإعرابها، ولكنى لم أكد أمضى فى قراءة القصة مائتى صفحة حتى راعنى ما فيها من استخفاف بالفصحى. وازدراء للأعراب وإعراض عن أيسر أولياته وتورط فى فنون من الهجن لا تخطر لكاتب ولا لقارئ على بال، وكأن القصة طالت على الكاتب نفسه فعنى باللغة فى أولها ثم أدركه السأم فأرسل قلمه بغير حساب، وكأنه قد اطمأن إلى أن مثلى من الذين يتحرجون فى اللغة لن يقرأوا هذه القصة إلى آخرها، فأطلق نفسه على سجيتها وكتب غير حافل بخطأ أو صواب، وربما لم يحفل هو بمثل هذه الملاحظة لأنه لا يهتم للإعراب ويريد أن يشاركه الناس فى الإعراض عنه والازدراء له، ولكنى أؤكد له ناصحًا أن هذا الإهمال يشين قصته حقًا ويسىء إليها فى غير استحقاق منها لهذه الإساءة.

أما الملاحظة الثانية فتتصل بآخر القصة الذى هو جدير بفيلم من أفلام السينما كما تعرف الأفلام السينمائية فى مصر، فهذه الأحداث الكثيرة العنيفة التى يتبع بعضها بعضًا فى سرعة خاطفة وهذا الدم الذى يسفك كل هذا يهبط بالقصة من منزلة كانت رفيعة إلى منزلة لا أحبها لكاتب مجيد كالأستاذ السباعي!

فمتى يتاح لكتابنا أن يراقبوا أقلامهم وأن يمتلكوا أنفسهم وألا يستجيبوا لهذه الدعوة الخطيرة التى تدعوهم إليها السينما والتمثيل الرخيص!

وأخيرًا يقول د.طه حسين: هذه قصة بدأت كأحسن ما تبدأ القصص وانتهت كأسوأ ما تنتهى واضطربت بين بدايتها ونهايتها فى ألوان من الإجادة الرائعة والتهافت المؤلم! ولو راقب الكاتب نفسه أولًا وقلمه ثانيًا لأهدى إلى قرائه قصة من خير ما يهدى إلى القراء هذه الأيام».

انتهى المقال