الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
توفيق الحكيم يعترف: أنا لست ديمقراطيًا بالمعنى السياسى!

توفيق الحكيم يعترف: أنا لست ديمقراطيًا بالمعنى السياسى!

لم يكن صدور كتاب جديد للأستاذ الكبير «توفيق الحكيم» مفاجأة، بل كانت المفاجأة أن يصدر كتابه «تأملات فى السياسة» بمقدمة للكاتب الشاب وقتها الأستاذ «أحمد بهاءالدين» نجم مدرسة روزاليوسف وقتها!



والمفاجأة الأكثر إثارة ودهشة أن توفيق الحكيم (56 سنة) هو الذى دعا «أحمد بهاءالدين» (27 سنة) لكتابة هذه المقدمة وهو ما كان حديث الأوساط الأدبية والصحفية بالكامل وقتها سنة 1954 وقت صدور الكتاب فى شهر سبتمبر عن دار روزاليوسف فى سلسلة «كتاب روزاليوسف.. مدرسة السياسة» وكانت السيدة «فاطمة اليوسف» هى رئيس التحرير المسئول، أما غلاف الكتاب فقد جاء بريشة الفنان الكبير «جمال كامل» وعشرة قروش هى ثمن الكتاب!

ونكمل معا قراءة شهادة الأستاذ «أحمد بهاءالدين» حيث كتب يقول:

«وفى هذا الكتاب الذى تقدمه «روزاليوسف» اليوم يكاد يجمع خلاصة وافية لكل آراء «توفيق الحكيم»السياسية أو العامة، فهو هنا يقول رأيًا صريحًا فى مسائل خطيرة وليحاسبه على هذه الآراء بعد ذلك من يشاء».

وقد كتب «توفيق الحكيم» هذه المقالات فى الفترة بين سنتى 1941 و1946 وهى ست سنوات حافلة بالأحداث والتطورات التى نرى انعكاسها واضحًا على هذه المقالات.

فالجزء الأول منها كتب فى أوائل الحرب العالمية الثانية، عندما كانت جيوش «هتلر» تغزو أوروبا وأفريقيا، وعندما كان العالم مهددًا بخطر العدوان النازى والإرهاب الديكتاتورى معرضًا للوقوع بين لحظة وأخرى تحت سلطان الظلام.. وفى هذه المقالات نرى توفيق الحكيم يقف وقفة صلبة فى وجه الطغيان ويكتب صفحات مشرقة عن الحرية والديمقراطية والاشتراكية والسلام.

وتمر هذه المرحلة وتتراجع جحافل الظلام أمام المقاومة الباسلة من شعوب أوروبا، وينتصر الحلفاء، ويكتب «توفيق الحكيم» فى موضوع آخر هو: خيبة أمل الشعوب الصغيرة فى أعقاب الحرب، والأطماع التى أسفرت عن وجهها فى لندن وباريس وتريد أن تحتفظ بالظلم القديم!

وبعد نهاية الحرب نرى «توفيق الحكيم» يكتب فى نقد الحياة السياسية المصرية، محاولا أن يثبت زيف الديمقراطية التى كانت موجودة فى ذلك الوقت، نقدًا عيبه أنه كان يصيب أحيانًا الديمقراطية ذاتها، لا الفاسد من مظاهرها فحسب!

••

ويمضى الأستاذ «بهاء» فى قراءته لما كتبه «توفيق الحكيم» فيقول:

«وبصرف النظر عن الآراء التفصيلية الكثيرة التى قد أختلف فيها مع الأستاذ «توفيق الحكيم» فإن أول ملاحظة عامة على هذه المقالات هى: أن «توفيق الحكيم» مازال يقف حتى الآن أمام نفس الأسئلة التى أثارها والمُثل التى أقامها فى تلك السنوات العشر التى سبقت الإشارة إليها!

لقد كتب «توفيق الحكيم» «شهرزاد» منذ خمس وعشرين سنة ليسجل «مأساة الشك فى اضطراد التقدم الإنسانى فى خط مستقيم، وكان السؤال الذى أثاره فيها هو: هل نتقدم أم ندور فى حلقة مفرغة؟

وفى هذا الكتاب نرى «توفيق الحكيم» فى نفس الوقفة أمام مشكلة العصر الحديث: الصناعة الكبرى.. ينظر إلى إمكانيات التقدم التى تنطوى عليها ثم يرجع إلى الشرور التى صاحبت نشأتها! ثم لا يصل إلى قرار حاسم فيوجه نفس السؤال: هل يضطرد التقدم الإنسانى فى خط مستقيم؟ أم يدور فى حلقة مفرغة؟!

وكأنى به يميل إلى الاعتقاد بأنه يدور فى حلقة مفرغة، نرى ذلك فى لمحات خاطفة مثل قوله أنه لا أمل فى منع الحروب إطلاقًا وأن الحرب قدر مكتوب على البشر.. «وهو يأس لا يقره الكثيرون، فإن مزيدًا من التأمل يصل بنا إلى أن أمل «العرب» أيام الجاهلية مثلًا فى أن تتحد القبائل فى مجتمع واحد تسوده عقيدة واحدة، وفى أن يختفى قانون السطو والغصب والحروب ليحل محله قانون آخر!

لايمكن أن يقال أنه كان أكثر من أمل البشر الآن فى أن يسود المجتمع الدولى قانون آخر غير السطو والغصب والحروب، ومع ذلك فقد ذهبت الجاهلية مع قدوم الإسلام.. فكيف لا نأمل نحن اليوم فى أن تذهب الحرب ويذهب الاستعمار؟

وفى «أهل الكهف» أيضا «سجل» «توفيق الحكيم» مأساة الصراع بين العقل الذى يشك والقلب الذى يؤمن.. وفى هذا الكتاب أيضا نراه حين يشك فى اضطراد التقدم الإنسانى يستطرد فيقول: «الحقيقة أن عقلى يشك ولكن قلبى يؤمن، إن قوة العقل الشك وقوة القلب الإيمان»؟!

هذه بالنسبة إلى الأسئلة التى يثيرها.. أما بالنسبة «للمُثل» التى يقيمها فأنت أيضا تراه واقفًا أمام المثل الذى رسمه فى «عودة الروح».

إن «عودة الروح» هى أروع وثيقة فنية عن ثورة 1919 وهى الثورة التى عاشها «توفيق الحكيم» وفهمها وسُجن فيها وسجلها بقلمه» وفى هذا الكتاب نراه بعد أن يتأمل الحياة السياسية الراهنة فى مصر يطالب أو يتمنى أن تعود أيام ثورة 1919، وأن تعود مثلها وأخلاقياتها، رغم التغييرات الكثيرة التى طرأت على المجتمع المصرى وظروفه ومطالبه خلال هذه الفترة، فهو لا يريد ثورة جديدة بل يريد تكرار ثورة 1919 وهو ما يمكن أن يعتبر انفصالًا عن حركة التاريخ!

هكذا يقف توفيق الحكيم أمام الأسئلة التى أثارها فى أول إنتاجه «لا يزعجه عن تأملها هدير الأعوام والأحداث خلال ثلاثين عامًا كاملة!!

••

ويمضى الأستاذ «بهاء» فى مقدمته الرائعة للكتاب فيقول:

وإذا بحثنا فى هذا الكتاب عن لون توفيق الحكيم السياسى، فإننا نستطيع أن نقول أنه ديمقراطى النزعة.. ولكنه بعد دفاع باهر عن الديمقراطية يختتمه بقوله:

وإذا ذهبت الحرية فأجدر بالحر أن يموت.. نراه يتراجع خطوة فيقول:

هل أنا كاتب ديمقراطي؟! الحقيقة أنى لست ديمقراطيًا بالمعنى السياسى لهذه الكلمة، إننى أستطيع أن أنتمى إلى الديمقراطية باعتبارها نظامًا سياسيًا أو حزبيًا، لأن الحرية الفكرية والروحية التى هى كل مسوح المفكر الحر الحقيقى تمنع من الانخراط فى سلك حزب أو نظام قد يضطر للدفاع عنه بالحق أو بالباطل.

إن الذى أومن به إذن وأدافع عنه دائمًا هو الديمقراطية باعتبارها مبدأ إنسانيًا لا نظامًا سياسيًا.

الكاتب الحر الحق هو الذى يبقى بعيدًا عن الحركات الحزبية والسياسية كى يستطيع فى كل وقت أن يدافع بمنطلق الحرية عن المثل العليا الإنسانية.. ولا يؤازر المذاهب والأشخاص إلا على قدر احتفاظها بروح هذه المثل، لذلك لم أستطع أن أغمض عينى عن بعض النظم السياسية المنتمية إلى الديمقراطية يوم تطرق إليها الفساد وعبث  بها الساسة المحترفون!».

ثم يقول فى قصتى «براكسا أو مشكلة الحكم».. سخرية ببعض مظاهر الحكم الديمقراطى، وسخرية ببعض مظاهر الحكم الديكتاتورى، وليس فيها حل لمشكلة الحكم.. لماذا؟! لأن هذا ليس من مهمة الكاتب الحر.. أن الكاتب الذى ينشئ مذهبًا سياسيًا يتمسك به ويكبل فكره بنصوصه مثله مثل الكاتب الذى ينضم إلى مذهب سياسى قائم، كلاهما قد فقد النظر الحر إلى بقية المذاهب والأشياء!

الكاتب الحر فى نظرى هو الحكم النزيه فى حلبة اللاعبين، هو الذى يحصى الأخطاء بغير تمييز ولا تحامل، وهو الذى يفضح ستر الخارجين على أصول اللعب القديم!

ويتساءل الأستاذ «بهاء»: أيمكن أن نوافق على ذلك؟! ويجيب: أن «توفيق الحكيم» فى هذه السطور يرسم موقفه من السياسة رسمًا دقيقًا، فهو لا يؤمن بمذهب سياسى معين محدد، ولكنه يؤمن ببعض القيم مثل الحرية، الفكر. الفضيلة، ولكن ليس معنى ذلك أن يصف الكاتب الذى يؤمن بعقيدة معينة بأنه ليس كاتبًا حرًا، مادامت هذه العقيدة تدعو إلى الحرية، ومادمنا متفقين على مسئولية الكاتب، فإن أقصى درجات المسئولية بغير شك هى الالتزام بعقيدة معينة.. إذا وجد الكاتب طبعًا العقيدة التى ترضيه، التى يؤمن بها بعقله وقلبه معًا.

وأخيرًا ينهى الأستاذ «بهاء» مقدمته الرائعة بسطور يقول فيها:

«وبعد.. فقد كان الأستاذ «توفيق الحكيم» كريمًا عندما تفضل ودعانى إلى أن أكتب مقدمة وأدفع بها إلى المطبعة دون أن يراها.. وأننى واثق أنه سيكون كريمًا عندما يقرأ هذه المقدمة.. فيصفح عنها!».

إنه درس جديد يقدمه لنا الكبير «الحكيم» والشاب «بهاء»!