الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تُفاح أمريكانى

يد صغيرة التفّت من حولها يد تمثلها فى البراءة والحنان، فحوطتها بمزيد من الحب، حتى اختفت تلك اليد الصغيرة فى حضن يد أبيها، لمعت عينا الطفل الصغير وهو خارج من مدرسته على لون أحمر ساطع من بعيد، فاشتهت عينا الطفل معرفة مصدر توهج هذا اللون كما تشتهى يداه يوميًا حزم وقوة يد الأب.



تحدث الابن الصغير لأبيه فى نيته للقرب من مصدر هذا اللون، فاقشعرت يد الأب فى وجل وامتلأت عينا الأب بكسرة حزن، أخفاها وراء ضربات قلبه المتسارعة كما أخفاها وراء ابتسامته المليئة بترقب حدوث مشهد رسمه داخله.

اقتربا من مصدر اللون، فاتسعت حدقتا عين الطفل الصغير وفرغ فاه، بعد أن استغل «الفكهانى» تلك النظرة، وأعطى إحدى التفاحات الأمريكانية للطفل، فأخذ يتفحصها بحب واهتمام، وصدر الأمر للوالد بأنه يريد أن يأكل من هذا «الصنف» المغرى الجميل، دارت صفارات الإنذار داخل جسد الأب، نظراً لخواء جيوبه من ثمن تلك المتعة الصغيرة، فما كان منه إلا أن يقلب فى جيوبه مصنعًا عدم كفاية ما يملك بها، واعداً صغيره بالعودة مرة أخرى للحصول على هذا اللون الأحمر الشهى. 

وعادت قوة مسكة يد الأب الحانية لصغيره، كما عادت نظرات الابن حاسرة لعدم امتلاكها مبتغاها، وعادت نظرات الأب كأمواج «التسونامى» تضرب شطآن قلبه وعقله بمزيد من الحزن والإقرار بقصر ذات اليد، وانتهى المشهد بابتسامتين: ابتسامة الفكهانى المُتنمرة وابتسامة العم جمعة فرحات الطموحة بتنفيذ رغبة ابنه الحالمة فى وقت قريب، قصير.

حكى لى هذه القصة وهو يجتر تلك الذكريات السيئة، لكنه فى وقت قصير نفذ وعده. كانت تلك إحدى سماته الرئيسية، نعمة الإصرار.

عرفت العم جمعة لأول مرة على صفحات مجلة كاريكاتير تحديداً فى بداية التسعينيات، فكنت أيضاً إحدى الأيادى الصغيرة التى تشتاق لأيادى كبار تلك الموهبة الفنية العظيمة «الكاريكاتير» وهى تربت على يدىّ أنا الموهوب الصغير الذى يتلمس طريقه فى الفن والحياة.

صفحتا العم جمعة اللتان سماهما باسم «بولوتيكا» - مصطلح السياسة باللغة الإيطالية - هما أول ما تقع عيناى عليه بالمجلة، كان العم جمعة يصول ويجول، كفارس يمتطى صهوة جواده فى ميدان لا فارس به إلا هو، فهو يملك كماً من الثقافة السياسية أهّلت رسومه أن يعاد نشرها بقوة على المستوى العالمى، حتى شك الكثير أن عم جمعة يملك العديد من الجنسيات الأجنبية، نظراً لنقده الواقع الجرئ الذى يؤهله أن يكون ابناً متعايشًا بين أفراد تلك المجتمعات الغربية، ولم يعلموا أن تلك السهام النافذة تخرج من قلب وعقل رسام يعيش بمصر ويقطن بشارع نصر الثورة بمنطقة الهرم، ومن قبلها بمنطقة «ساقية مكى» المُنغمسة فى حب مصر وأهلها.

توالت متابعاتى لأعمال العم جمعة، سواء فى فن البورتريه أو فى فن البورتريه المُطعم فى الكاريكاتير السياسى ذى المذاق الحار، الذى لا يسعك إلا أن ترفع له القبعة ومازالت «حُرقة» ومذاق الفكرة تترسخ بعقلك اللا واعى.

فى رأيى المتواضع أن منطقة بزوغ نجم عم جمعة كانت السياسة سواء محلياً وأكثرها عالمياً، وكانت رسومه الاجتماعية «لطيفة» كابتسامته المعهودة والتى نُشرت بمجلة «روزاليوسف» فى بادئ الأمر وبالعزيزة «صباح الخير»، لكن رسوم السياسة كانت عقله وقلبه الحقيقى الذى مازال ينبض حتى بعد رحيله، فقد جُمعت تلك النبضات وتلك الومضات الفكرية بين دفتى كتاب، استمر فى تجميعه على مدار الخمس سنوات وشارك فيه صاحب الأيادى الصغيرة سابقاً، صاحب الموهبة الكبيرة حالياً ابنه الفنان محمد جمعة.

كان الكتاب بعنوان: «سلام الدم» الذى أرّخ فيه الصراع العربى الإسرائيلى – بالكاريكاتير - على مدار ستين عاماً، بتعاقب الحكومات الإسرائيلية المُختلفة، وهو ما أهّلهُ بجدارة وشرف أن يوضع اسمه مع نجوم هذا الفن المُشاغب أمثال: أ. طوغان، أ. محمد حاكم، أ. عاصم حنفى وغيرهم بقائمة «المعادين للسامية»، وعلى رأس هذه القائمة العظيم الراحل أيقونة النضال الفلسطينى الفنان ناجى العلى.

عمل عم جمعة بمجلة ماجد الإماراتية كأمثال من العظام مثل أ. حجازى وأ. بهجت عثمان عندما تم تضييق مساحة الحرية فى زمن الرئيس أنور السادات، فهرعوا جميعهم لمتنفس صحافة الطفل، لكن بعد فترة توقف العم جمعة، لأنه أحس أن هذا الفن سيأخذهُ من شغفه وسخريته الحقيقية، فاعتذر للطفل العربى، وصالح طفله الساخر الداخلى، وأكملا طريقهما بصحف المعارضة المصرية كجريدة الوفد وجريدة الأهالى وغيرهما، وصولاً للمحطة الأخيرة على صفحات الأهرام ويكلى وصفحات جريدة الأهرام الرسمية.

اشترى العم جمعة، التُفاح الأمريكانى، بهدف الأكل فقط، لكنه يوماً لم يشتره بهدف الانتفاع أو المصلحة الشخصية التى كانت من الممكن أن تجعله من أصحاب الملايين، ولكن آثر أن يكون ساخراً حتى النُخاع من كل الأوضاع السياسية والاجتماعية وأن يكون معاديًا للسامية.. وأن يكون جمعة فرحات.