الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

طليان وجريج وأرمن ويهود مروا من هنا

يا إســـكندريــة .. بحرك عجايب

 كان أهل الإسكندرية يعلمون أن ذلك لا يعدو إلا أن يكون كلامًا مسرحيًا، لكن النهار كان دافئًا وشاعريًا والسماء شديدة الزرقة، واحتشد أهل الإسكندرية إلى الاحتفال مفعمين بالحماس، وصاحوا بالهتافات باليونانية والعربية وأحيانًا العبرية، من قصيدة «ملك الملوك» للشاعر السكندرى اليونانى  «قسطنطين كفافيس». 



23 قرنًا كاملة مرت على إنشاء مدينة الإسكندرية القديمة على يد الإسكندر المقدونى، لتكون جوهرة مملكته وعروس البحر الأبيض المتوسط والتى شكلت جزءًا مهمًا من التاريخ قديمًا وحديثًا، استوطنها طليان ورومان وعثمانيون وأرمن ويهود وبالطبع مصريون. 

فى بداية القرن الرابع قبل الميلاد لم تكن الإسكندرية سوى قرية صغيرة تدعى راكودة تحيط بها قرى صغيرة، يقول عنها علماء الآثار أنها كانت موقعًا لطرد الأقوام القادمة التى قد تهجم من آن لآخر من الناحية الغربية لوادى النيل، وكانت راكتوس قرية صغيرة تعتمد على الصيد ليس إلا، فى ذلك الوقت كانت مصر تحت الاحتلال الفارسى.

يقول المؤرخون إنه مع التدرج الزمنى وقع اختيار الإسكندر لمدينة الإسكندرية كى تكون عاصمة لدولته، ولكن الهدف الأكبر الذى أنشئت لأجله هو أن تكون هناك  مدينة عظيمه تربط بين الشرق والغرب.

 واستهدى فى ذلك بتوجيه معلمه الروحى هوميروس فى ملحمته «الأوديسة»؛ حيث ذهب «تليماك» ابن «أوديسيوس» ملك إيثاكا، إلى منيلاوس ملك أسبرطة، يسأله إن كان يعرف شيئًا عن مصير والده المختفى، فحكى مينيلاوس عن أهوال الحرب وشجاعة ملك إيثاكا وجيشه المفقود، وأنه بعدما أضنى التعب جيوشهم، بلغوا شواطئ مصر، عند جزيرة فاروس، وهناك كما يقول ملك إسبرطة: «ارتوينا من كوثر هذه البلاد التى تجرى من تحتها الأنهار». 

وفى عام 331 ق.م أمر الإسكندر المهندس البارع ديمو قراطيس، وطلب منه التصميم قبل التنفيذ، فقام بتقسيم أرضها الفضاء إلى طرق وميادين وأحياء فكان لعبقريته الهندسية الفضل فى نشوء المدينة.

وتقول الأسطورة إن ديموقراطيس أمر بإحضار القمح وفرشوه على الأرض وبدأ برسم المدينة، فتجمعت الطيور على المدينة من كل مكان، فغضب الإسكندر غضبًا شديدًا، مما حدث للتخطيط، فرد المهندس على «الإسكندر» بأن هذه المدينة ستصبح موطنًا لكل الأجناس. 

ومع سقوط الدولة اليونانية وتقسيمها فى منتصف القرن الثانى قبل الميلاد أصبح واضحًا أن روما هى السُّلطة العليا فى البحر المتوسط.. ومن هذا الوقت تحولت مصر  لمملكة مستقلة تحت حماية روما.. وفى هذا الوقت ازدهرت اقتصاديًا ولكن ثقافيًا لم يمنح الرومان علماء الإسكندرية الرعاية كما كان فى عهد البطالمة، لكن هذا لم يمنع الثقافة بها أن تستمر، وكانت القوانين فى العصر الرومانى أيام احتلاله لمصر تنص على ألا يحصل غريب على المواطنة الرومانية إلا بعد أن يحصل على المواطنة الإسكندرية، وكان الإمبراطور وحده يملك حق منح مواطنة الإسكندرية لغير السكندرى، فكانت الإسكندرية تنقسم إلى قسمين؛ مواطنون وأهالى، وحين قدم الرومان إلى مصر فرضوا جزية الرأس وأعفوا مواطنى الإسكندرية منها.

 وفى ذلك الوقت وما قبله تسربت إلى الإسكندرية المكتبة العظيمة وعلماء العالم فى العلم والفلسفه، فمصر كانت  تستورد من اليونان الأخشاب والفضة، واليونان كنت تستورد منها القمح وورق البردى، وبالتدرج أصبح العلماء يختصرون المسافات وينتقلون إلى المدينة العظيمة، فكانت الإسكندرية موطنًا أصيلا لميلاد الفلسفة الأفلاطونية وميلادًا للفيلسوفة هيباتيا. 

وظلت المكتبة أكثر من ألفَىْ عام تضم أكبر مجموعة من الكتب فى العالم القديم، والتى وصل عددها آنذاك إلى 700 ألف مجلد بما فى ذلك أعمال «هوميروس» ومكتبة «أرسطو»، وفى تلك الحقبة تألق عدد كبير من الحكماء فاق عددهم المائة.

ومن ثقافة الإسكندرية خرجت القديسة سانت كاترين عن المجوسية، وتعاقبت بعدها فى بداية القرن الرابع انتشار المسيحية وكانت أم الإمبراطور قسطنطين مسيحية فى السر فأقنعت الإمبراطور بأن يجمع شتات جثة الملكة سانت كاترين، فبنى الإمبراطور لها مكانًا عظيمًا باسمها، وبعدها أعاد جثمان سان مارك من فينيسيا وبدأت المسيحية تنتشر من الإسكندرية. 

 امتزجت ثقافة الإسكندرية بالأساطير الفرعونية مع الخلود اليونانى والفارسى وامتزجت الآلهة فى شكل خليط مزدوج واحد، فكانت الإسكندرية تجمع ما بين جميع الأجناس والأديان، وبعد الفتح العربى دخل ابن خلدون بعلمه وثقافته.

عهد محمد على

وقبل دخول محمد على البلاد فى القرن السابع تراجع عدد سكانها والمقيمين بها لنحو 5 آلاف مواطن فقط،  وكان تعداد مصر كلها لا يبلغ الثلاثة ملايين نسمة، بعد أن كانت تقدر بـ12 مليون مواطن. 

وأصبحت الإسكندرية منذ تولى محمد على الحكم وخلال المائة والخمسين سنة التالية أهم ميناء فى البحر المتوسط، ومقرًا لسكان متعددى الأعراق واللغات والثقافات، وتحت حكم خلفاء محمد  استمرت الإسكندرية فى النمو الاقتصادى، فشهدت فى عهد الخديو اسماعيل تحديدًا اهتمامًا يُشابه الاهتمام الذى أولاه لتخطيط مدينة القاهرة فأنشأ بها الشوارع والأحياء الجديدة وتمت إنارة الأحياء والشوارع بغاز المصابيح بواسطة شركة أجنبية، وأنشئت بها جهة خاصة للاعتناء بتنظيم شوارعها وللقيام بأعمال النظافة والصحة والصيانة فيها، ووضعت شبكة للصرف الصحى وتصريف مياه الأمطار، وتم رصف الكثير من شوارع المدينة، وقامت إحدى الشركات الأوروبية بتوصيل المياه العذبة من منطقة المحمودية إلى المدينة وتوزيعها بواسطة «وابور مياه» الإسكندرية، وأنشئت فى المدينة مبانٍ ضخمة وعمارات سكنية فخمة، وفى تلك الفترة شهدت الإسكندرية أكبر مدينة كوزموباليتية، وبدأت الجاليات اليونانية والإيطالية واليهودية تهجر بلادها وتتخذ من الإسكندرية موطنًا جديدًا لها.  ويوصف حكم محمد على باشا بالانفتاح على كل التيارات الثقافية والسياسية والاجتماعية إضافة إلى تميزه بالسماحة الدينية، ولم يكن ذلك غريبًا عن الإسكندرية، التى كانت ملتقى أفكار وأديان طوال تاريخها، فقد ارتبط اسمها بتاريخ المسيحية الشرقية؛ حيث شهدت فى منتصف القرن الخامس الميلادى انفصال الطائفتين القبطية المصرية واليونانية الأرثوذكسية، لتعيش الطائفتان قرونًا طويلة مع بعضهما ومع المسلمين واليهود قبل أن تنضم إليهم الطوائف المسيحية الأخرى، وقد وصل عدد الطوائف فى عهد محمد على إلى 14 طائفة مسيحية.

وأعطى محمد على الأراضى لتبنى عليها الطوائف المختلفة كنائسها بالقرب من ميدان القناصل فبنى الأقباط والكاثوليك دُور عبادتهم. 

وتنقسم الإسكندرية الحديثة إلى قسمين؛ مدينة قديمة يونانية تركية، مدينة أوروبية.. وتنقسم فعليًا إلى تسعة أحياء إدارية  رئيسية تبدأ فى ميدان القناصل وهذا الميدان يعتبر الفراغ الحضرى الذى يمثل التعددية الكوزموبولتانية التى بدأت من 1834 من الإنكليز والفرنسيين واليونان والطليان والأتراك، وفى هذا الميدان بدأت الجاليات تستقر فى الإسكندرية منذ تولى محمد على إدارة الحكم.

كانت أكبر الجاليات فى الإسكندرية هى الجالية  اليونانية، ففى خلال النصف الأول من القرن العشرين كان لليونانيين 16 مدرسة ومستشفيات ودُور للأيتام ودار المسنين تكفل ببنائها أثرياء الجالية، وسرعان ما دخل اليونانيون مع الشعب المصرى وأصبحوا نسيجًا واحدًا معه، فكانوا أصحاب مهن جاءوا باحثين عن الرزق فعملوا سواقين تاكسى ويقالين وفرّانين، وجارسونات، فلم يكن اليونانيون فى مصر كيانًا واحدًا يشكل قسمًا من الطبقات العليا فى المجتمع؛ بل كانوا متداخلين مع أغلب طبقات المجتمع، وانتشر أبناء الجالية اليونانية انتشارًا واسعًا فى المدن الكبرى والمدن الصغرى، فى الريف والحضر، فى الدلتا والصعيد.

 انتشار اليونانيين فى مصر دفع اللورد كرومر المندوب السامى البريطانى فى مصر إلى القول أينما حركت حجرًا فى مصر وجدت تحته يونانيًا، وقال عنهم أيضًا أينما تتوفر أقل إمكانية الشراء بثمن رخيص والبيع بسعر مرتفع ستجد التاجر اليونانى.

 وظلت أعداد اليونانيين تتزايد فى مصر حتى وصل عددهم عام 1927 إلى أكثر من 75 ألف نسمة، إلا أن هذه الزيادة أخذت تتقلص بعد ذلك بسبب الظروف السياسية، ولم يتبق منهم الآن غير أعداد قليلة من الحاصلين على الجنسية المصرية والذين فضلوا البقاء فى مصر، ويتركز معظمهم الآن بين القاهرة والإسكندرية.

وابتكر اليونانيون فى الإسكندرية رياضة التجديف وبعدها سباقات الشراع، ووقتها طلب النادى مراكب من إيطاليا للتجديف، وهذه المراكب موجودة حتى الآن فى متحف النادى وغير موجود مثيل لها فى أى مكان بالعالم، واسم المراكب «أفرا»، و«بين زوس»،

و«كاليبسو»، كما تم تصميم وتصنيع مركب اسمها مدرسة التجديف، طلبها مدرب تجديف اسمه «سورينتينو» وتم تصنيعها فى إيطاليا.

غضب الملك فاروق

وبعد عدة سنوات وتحديدًا فى عام 1935 تضايق الملك فاروق من وجود النادى بجوار قصر رأس التين وقال كيف ترى حريم القصر من شرفاته رياضيين أجانب وهم يتدربون، فتقرر نقل النادى إلى مكان آخر يبتعد عن القصر لكى لا تراه الحريم، وبالفعل تم بناء مبنى جديد للنادى وتم افتتاحه عام 1935. 

وهناك عائلات صنعت تاريخ الإسكندرية، فى مدينة الإسكندرية كان يعيش عائلات صنعوا تاريخ هذه المدينة بدءًا من عام 1860، وكان من أشهَر هذه العائلات «عائلة بيانكى بارون القطن انتونى بيناكى هو أهم الشخصيات فى تاريخ الإسكندرية وقد تزوجت أيرين شقيقة إنتونى بيانكى من مايكل سالفوجس أحد بارونات القطن ورئيس الجالية اليونانية، وقد ساهم والدهم فى تأسيس البنك الأهلى المصرى وبعد ذلك تحول منزلهم إلى المركز الثقافى الروسى. 

أمّا بينلوبى شقيقة إيرين وإنتونى بيانكى فقد عادت إلى اليونان وأصبحت واحدة من أشهر كاتبات الأطفال فى اليونان واعتمدت فى كتاباتها على ذكريات طفولتها فى مدينة الإسكندرية، وعلى الرغم من أنه غادر المدينة سنة 1927 إلا أن المقتنيات لا تزال موجودة بقصره فى الإسكندرية. 

والعائلة الثانية  دى ميناس البارون إدموند دى ميناس وزوجته روز فى فيلاتهما الأنيقة بشارع الفراعنة، وكانت روز شاعرة ورسامة وكانت صديقة شخصية لقسطنطين كفافيس أعظم شعراء اليونان المعاصرين والذى عاش الجزء الأكبر من حياته بالإسكندرية وقد تحول بيته أيضًا إلى متحف فى محطة الرمل بالإسكندرية... وهناك كلمة يونانية توارثها المصريون هى كلمة «أونطة» ومعناها حيلة وخداع، أخذها المصريون من اليونانيين الذين كانوا يقيمون فى مصر للعمل كسفرجية أو بائعى خمور، فى الأربعينيات والخمسينيات. 

وإذا تجولت داخل مقابر الجالية اليونانية بمنطقة الشاطبى فى الإسكندرية، ستشعر وكأنك سافرت عبر الزمن إلى أثينا بوجود تماثيل الملائكة التى تجعل من المكان أشبه بمتحف مفتوح عوضًا عن كونه مكانًا لدفن الأموات، ويعتبر اليونانيون من أكثر الجاليات التى تم تجسيدها فى أهم أفلام السينما المصرية القديمة. 

وكانت الجالية اليونانية من أكثر الجاليات تنظيمًا، فقد أسّست جمعيات وهيئات مستقرة حتى قبل نشأة الدولة اليونانية الحديثة، وكان نشاطها فعالا، فكانت هناك أندية رياضية، ومدارس ومطبوعات وصحف وأهمها: «أريفى» و«إيمونيا».

 .. والطليان أيضًا

إلى جانب اليونانيين تكونت الجالية الايطالية بصفة رئيسية من مجموعة كبيرة من التجار، والفنانين، وعدد كبير ومتزايد من العمال، فقد كان لهم بصمة فى كل أرجاء المدينة.  كان السكندريون يتندرون على إيطاليا بقولهم إنك لو فردت ذراعك طويلا على شاطئ البحر لوصلت إلى إيطاليا، وفى القرنين  الـ19 والـ20 كان حلم الإيطاليين أن يسافروا إلى مصر ويعملون فى خدمة  الأسرة العلوية، وباتت مصر بلد المهجر الأول للإيطاليين منذ القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين. 

وتوثق كتابات المؤرخين أن الكثير من الإيطاليين تركوا بلادهم لأسباب سياسية واقتصادية منذ عام 1800، فى ظاهرة عُرفت بـ«الشتات الإيطالى»، وكان نصيب مصر منهم موجتان؛ الأولى فى السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، وحملت أفرادًا كان معظمهم من الصفوة المثقفة التى هربت من الاضطهاد السياسى أثناء الكفاح لتحقيق وحدة إيطاليا واستقلالها عن النفوذ النمساوى المتمركز فى الشمال،  وتزامنت هذه الموجة مع اعتلاء محمد على باشا حكم مصر وسعيه لبناء دولة مستقلة، فاعتمد على الإيطاليين فى بعض النواحى الإدارية لأنه كان يهدف إلى تطبيق النظام الإدارى الأوروبى. 

ويعود تواجد الإيطاليين فى مصر منذ العصر المملوكى، ولعب تجار البندقية ونابولى ومدن إيطالية أخرى دورًا مُهمًا فى نقل تجارة الشرق إلى أوروبا، قبل كشف طريق رأس الرجاء الصالح، ثم ضعفت مكانتهم وتواجدهم بعد تحوّل التجارة إلى هذا الطريق.

ومع سيطرة السَّلطنة العثمانية على مصر عام 1517، عاد الإيطاليون مرة أخرى إليها بسبب الامتيازات التى منحها العثمانيون للدول الأوروبية والتى شملت تيسيرات اقتصادية وتجارية كبيرة.

وعقد السلطان سليم الأول اتفاقيات تجارية مع جنوة وبيزا والبندقية وتوسكانا، ما أدى إلى توافد إيطاليين كُثر تركزوا فى القاهرة والإسكندرية، ومارسوا التجارة واحتكروا كثيرًا من السلع وعملوا فى مهن وحرف مختلفة.

أسهم الايطاليون بدور كبير فى تطور المدينة فى القرنين التاسع عشر والعشرين،  واحتل الإيطاليون مكانة مهمة وكانت هذه المكانة سبب اختيار المهندسين المعماريين الإيطاليين لتصميم معظم القصور الخديوية ومنها قصر عابدين، مسجد المرسى أبو العباس، مسجد القائد إبراهيم، فندق سيسل ميترو بولى والمنتزه.

ويعتبر الكورنيش من أهم إسهامات الإيطاليين فى الإسكندرية التى أنشأوا فيها عام 1905 كورنيش الميناء الشرقى، حتى قصر المنتزه، ولعب الطليان دورًا كبيرًا فى فكرة إنشائه وهندسته، كذلك طالت أيديهم الأوبرا ومسرح محمد على وخروجه بهذا الشكل المبدع.

ولهم إسهامات فى كل ركن فى مصر، فهم أول من صنع الحناطير فى شوارع الإسكندرية. وفى مجال الصناعة أنشأ الإيطاليون شركات صناعية منها شركات حلج الأقطان سنة 1938، وشركة لصناعة السجاد والدخان، وشركة لصناعة الكحول وملحقاته، وكان للإيطاليين دور مهم فى إنشاء معامل تقطير المشروبات الروحية وأهمها معمل VinCenzo Bertocchini، وشركة الكهرباء والميكانيكا التى أنشئت سنة1906

 واشترك فى إنشائها مع الإيطاليين أحد الأهالى بالإسكندرية ونمساويان وبلجيكى.

كما أنشئت شركة إيطالية فى أبريل 1921 لصناعة الكاوتشوك والأسلاك الكهربائية، وأخرى لصناعة المعادن وورشة لصناعة أسرة النوم والصاج وطاولات المستشفيات وعرفت باسم ورشة الإيطالى Carlo Franco

كذلك تأسّست شركة المحاريث والهندسة سنة1929 لصيانة الجرارات والآلات ومحلات أخرى لتجارة الحديد والمواسير والطلمبات والآلات الميكانيكية.

وأسهم الإيطاليون فى إنشاء صناعات غذائية مثل المطاحن ومضارب الأرز، واحتكروا صناعة المكرونة والمأكولات المحفوظة. وتميزوا بأعمال المبانى وإنشاء الطرق ورصفها، والقيام بأعمال الكبارى والسكك الحديدية والموانئ، وشاركوا فى الصناعات المرتبطة بالبناء مثل البللور والرخام والزجاج كما تفوقوا فى تقديم خدمات البريد والبرق. 

وساهم الإيطاليون بشكل كبير فى الثقافة فى مصر، فانظموا الحفلات والعروض الفنية والغناء على مسرح الأوبرا الخديوية فى القاهرة الذى جذب المغنين والراقصين الذين يؤدون فى دار أوبرا مسرح لاسكالا فى ميلانو ( la scala di Milano).

ويكفى أيضًا ذكر أن قناة السويس تم افتتاحها على مقطوعة il Rigoletto التى ألفها جوزيبى فيردى؛ حيث لم يكن قد أنهى أوبرا عايدة، وفى نفس الوقت بدأ الإيطاليون فى إنتاج الأفلام التى يقوم ببطولتها ممثلون ومغنيون مصريون فكانت الجالية الإيطالية أول من أدخل السينما إلى مصر. 

شوام ويهود

أنشأ الإيطاليون العديد من الصحف والمجلات التى تعبر عن واقعهم والواقع السياسى والاجتماعى فى مصر فى ظل الاحتلال البريطانى مثل صحفية Roma التى كانت موالية للتيار الوطنى المصرى مما استدعى سلطات الاحتلال البريطانى لإغلاقها وأصدروا جورنال Im Parziale فى القاهرة و il messaggero egiziano فى الإسكندرية فى عشرينيات القرن العشرين.

وانخفض عدد المصريين الإيطاليين من ما يقرب من 60 ألفًا فى الأربعينيات إلى بضعة آلاف بعد عام 1952، حتى بلغ عدد الإيطاليين فى مصر فى نهاية عام 2007 نحو 3،374 نسمة معظمهم ممن كانوا يعملون فى الشركات الإيطالية فى مصر.

وتعد الجالية الأرمينية هى ثالث أكبر جالية شكلت دورًا بارزًا فى التنوع الثقافى للإسكندرية؛ حيث جاء الأرمن إلى مصر فى القرن التاسع عشر، وفى عام 1917، وصل عدد الأرمن إلى 12854 نسمة، وكان يوسف بوغوص - هو الأب الروحى للأرمن آنذاك، وذلك بعد أن أصبح وزير ديوان التجارة فى عام 1826. 

وارتبط تاريخ الأرمن أيضًا بعائلة محمد على ارتباطا وثيقًا، فقد وثق بهم واستعان بهم فى مصر اقتصاديًا وإداريًا، حتى إن خمسة منهم تقلدوا منصب ناظر التجارة الإفرنجية، فقد عين محمد على  محدسى يغيازار أميرا بدروسيان، ليكون جابيًا للضرائب ومستشاره الخاص وفى وظيفة وكيل تجارى لمصر فى الخارج. 

ومن أشهر تجار الأرمن  صانع الأحذية كريكور بابازيان الذى كان يعمل مع العائلة المالكة وكبار المجتمع. وشركة «سوكياسيان» التى اشتهرت بدباغة وتصليح الجلود. 

وقد نجحت أضواء الشاشة الفضية للسينما المصرية فى جذب بعض الأرمن للعمل بها، ونجحت الكاميرات السينمائية فى التقاط ممثلات أرمنيات موهوبات ومنهن «فيروز» و«نيللى» و«ميرفت»، وابنة خالتها «لبلبة»، و«ميمى جمال» علاوة على «هدى شمس الدين».

وأسهم الأرمن فى إثراء الحياة الموسيقية والفنية المصرية، ويعد «ألكسندر صاروخان» أهم وأكبر أشهر شخصية أرمنية عملت فى ميدان الصحافة المصرية فهو رائد الكاريكاتير السياسى فى مصر، كما شكلت أيضًا الجالية اليهودية دورًا كبيرًا رائدًا ثقافيًا واقتصاديًا فى تاريخ الإسكندرية وحضارتها، وقبل عام 1948 كان عدد يهود الإسكندرية 40 ألفًا قريبًا.  كل ذلك أدى إلى خلق جو ثقافى وفنى وفريد.

 ولم تكتفِ الإسكندرية بأن تكون مسرحًا جاذبًا للفنانيين والشعراء من كل دول المتوسط؛ بل كانت أيضًا مركزًا للإنتاج الثقافى وكان لشوامها إسهام كبير فى ذلك، حتى إن أول من أصدروا جريدة الأهرام كانوا الشوام، ومن أجل هذه النهضة الكبرى شهدت الإسكندرية ثانى عرض سينمائى فى العالم بعد فرنسا بخمسة شهور فقط عام 1897، وبعدها أنشأ السكندريون أول صالة عرض واستوديو للتصوير وأول معهد سينمائى لهذا الفن الجديد، وتربعت على عرش الفن لتصبح الإسكندرية بعدها بسنوات قليلة هى مدينة السينما فى الشرق. 

وجذبت النهضة الثقافية فى مدينة الإسكندرية فى الفترة ما بين الحربين العالميتين، الفنانين والأدباء من دول العالم، فهاجروا إليها رسامون ونحاتون ذو مكانة، فكان من بينهم من أسّس المدرسة الفنية لتعليم الفنون وصارت المدرسة السكندرية الحديثة للفنون التشكيلية، وكانت ملهمة أيضًا للكتّاب، فوفد إليها العبقرى الإنجليزى إدوارد فولستر، الذى وفد إليها فى مهمة عمل فكتب فيها أول كتبه، ومن هناك ارتبط بموظف سكندرى يعمل بإحدى المصالح الحكومية ويكتب الشعر،  اسمه كومستانتى كفافيس، وبعدها أصبح السكندرى كفافيس أكبر وأهم الشعراء الذين وفدوا يومًا إلى الإسكندرية بل إلى مصر كلها. أدباء كثيرون فى الإسكندرية كتبوا عنها سواء عاشوا فيها أو كانوا من أبنائها، منهم الإيطاليان فيلبوا مارينتى وجوزيبو أونجاريتى.

فقد كان هناك سحر خاص للإسكندرية، سحر الإسكندر وسيزر والدراما وسحر المكتبة والفنار وأسطورتها، جمال يتجدد فى كل وقت، فتألقت علميًا وثقافيًا فى المئة سنة الأولى من تأسيسها، وكانت أسرع مدينة فى العالم تنال شهرة وازدهارًا بهذا الشكل المبهر.

وألحقت بالمكتبة مراكز البحث العلمى ومرصد لدراسة الأفلاك وحديقة النباتات والحيوان لخدمة العلماء، وظهرت بشكل مذهل فلا يوجد بديل فى العالم لهذه المدينة فكانت الأعلى مستوى من كل المدائن فى ذلك الوقت، وأذابت بداخلها جميع الأعراق والأجناس منذ القدم وحتى الآن فى نسيج واحد، وجعلت كل من عاش على أرضها مصريًا.