الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الناصر بن قلاوون أول من بدأ تعمير المنطقة.. وإبراهيم بــــاشــــــــــــا أنشأ فيها القصر العالى

جاردن سيتى.. زمن توارى فى هدوء

«جاردن سيتى»، أحد أهم الأحياء فى القاهرة، سكنه الملوك والأمراء، وكبرى العائلات، وهو أول الأماكن المغلقة على فئة معينة حيث استوحت منه فكرة «الكمبوندات».



«حى جاردن سيتى» يقع مباشرة على نهر النيل كان جميع سكانه من الأرستقراطية، طبقة النخبة، التى شكلت المناخ الاجتماعى والاقتصادى والسياسى قبل ثورة 1952، فكان أبناء معظم الأسر هذه يعرفون بعضهم البعض تربطهم صلات اجتماعية بين «الهوانم» وصلات وجلسات فى مجالات الاقتصاد والسياسة وبين الباشوات والبكوات من أهل الحى، الذى فضل أن يتوارى حاليًا وراء ما تبقى من أشجار الكافور وحدائق الزهور، التى كانت بذورها تستورد من إيطاليا، مثل «الجارونيا» و«البونسية» و«التوليب» الفرنسى و«عصفور الجنة» من النمسا.

بداية تعمير حى جاردن سيتى كانت على يد السلطان الناصر محمد بن قلاوون  تاسع سلاطين الدولة المملوكية  (1309-1341 م) حيث هذه المنطقة كانت مستودعًا للقمامة وسط البلد، قبل أن تلفت المنطقة كلها انتباه السلطان محمد بن قلاوون، والذى حولها إلى ميدان سموه «الناصرى»، فغرس فيه الكثير من الأشجار وشق الطرق وسط المياه، وشيّد الحدائق التى عرفت باسم «بساتين الخشاب»، ثم افتتح الميدان عام 1318، وكانت تقام به عروض وسباقات الخيل التى كان الملك الناصر شغوفًا بتربيتها.

بعد وفاة السلطان قلاوون، أهملت المنطقة بالكامل، حتى جاء التغيير الأكبر على يد القائد إبراهيم باشا بن محمد على، بعد أن أنشأ القصر العالى لأسرته هناك، والذى يحده نهر النيل من الغرب وشارع قصر العينى من الشرق.

كان القصر العينى قريب الشبه بحائط برلين، لكنه فى قلب القاهرة الخديوية، إذ يفصل بين المنطقة الشعبية والمنطقة الأرستقراطية. ومع مرور الوقت بدأت أسرة محمد على تقبل على المنطقة الجديدة، وبدأ إسماعيل فى التشييد العمرانى، وتكون الحى من ثلاثة قصور أساسية: القصر العالى وقصر أحمد باشا وسراى الإسماعيلى.

ويقع قصر «إسماعيل باشا» فى مقابل قصر شقيقه أحمد باشا، ويفصل بينهما شارع عائشة التيمورية، وصدرت أوامر بغلق الشارع والحى بأكمله فقد كان محرمًا على أبناء الشعب المصرى دخوله والتجول فيه لصالح أبناء الأسرة المالكة والمقربين من الرعايا الأوروبيين خصوصًا الإنجليز.

عام 1906 هو بداية نشأة حى جاردن سيتى المعاصر، حيث قرر الخديوى عباس حلمى الثانى تأسيس الحى على هيئة المدن الحدائقية ذات الشوارع الدائرية كما كان شائعًا فى مطلع القرن العشرين فى أوروبا، وأصبحت جاردن سيتى امتدادًا عمرانيًا للقاهرة الخديوية، شيدت فيها المبانى بنفس الطرز المعمارية الموجودة فى القاهرة الخديوية بين الطراز المعمارى الفرنسى والإيطالى والإسلامى، وخُططت الشوارع ليكون كل شارع مخصصًا للوازم معينة؛ فكان هناك شارع للحرس وشارع للإسطبلات وشارع للخدم، والتى لا يزال معظمها يحتفظ باسمه حتى الآن تميز الحى بتصميم فريد على شكل شوارع دائرية، كما كان شائعًا فى شوارع أوروبا.

وكان كل شارع فى الحى ينتهى بميدان صغير، تصطف فيه ثلاثة تاكسيات مع سائقيها، الذين يعرفون أهل الحى جيدًا.

وأحيانًا يذهب الخادم لاحضار التاكسى لسعادة البيك أو الباشا، وبحركة سينمائية يلقط الخادم العصاة الأبنوسية من يد الباشا حتى يصعد للتاكسى الذى كان مرتفعًا نسبيًا وهو من طراز السيارات الإنجليزى القديمة. 

بنايات ومساكن الحى الراقى كانت لا تزيد على خمسة طوابق، وتقع كل العمارات داخل حديقة صغيرة أو متوسطة محاطة بسور من الحديد الأسود اللامع تتسلل عليه أغصان الياسمين، وتطل من ورائه أشجار الكافور العملاقة التى كان لاحفار يصل طولها حتى أسطح هذه البنايات.

والأسطح كانت مخصصة للأطفال الصغار لمشاهدة الألعاب النارية التى كانت تطلق فى المناسبات المختلفة، وأيضًا كان مكان متسع لمجتمع الخدم بعد الظهر يثرثرون وينقلون أخبار الأسر معظم هؤلاء الخدم يجلبون من العزبة التى يقتنيها «الأرستقراطيين» .

بطقوس اجتماعية تتشابه وتمتد لتشمل مجتمع الزمن الجميل تمتع أبناء الحى العريق ببعض الخدمات المتميزة لا سيما فى فترة الأربعينيات، فقد كان هناك خدمة يقدمها جروبى تسمى «صباح الخير» حيث كان يحمل مندوبه الحليب كامل الدسم والقشدة والباتيه الطازج والزبادى يومياً فى السادسة صباحاً، للبيوت فى جاردن سيتى مقابل 3 جنيهات مصرية كل شهر، كما كانت محال الورد الطبيعى المستورد من هولندا ترسل مع مندوبها بوكيه لكل أسرة أسبوعيًا مقابل اشتراك شهرى 2 جنيه فقط.. وكان يا ما كان. 

وللحى قصص تجمع ما بين الطرافة والتراجيديا الإنسانية  وهى أن أشجار الكافور العملاقة التى عرف بها حى جاردن سيتى كان يسكنها طيور الغربان الرمادية والحدايات البنية، ويروى أن طفلة حديثة الولادة وضعتها والدتها داخل سريرها الدانتيل فى البلكون لتستفيد من شمس الصباح ، وإذا بحدأة عملاقة تضرب السرير بجناحها، وكانت على وشك خطف الصغيرة  لولا صراخ والدتها وتجمع خدم المنزل ورعاية الله فى أن يكتب لتلك الطفلة عمر جديد، وتم قطع الشجرة بعد بلاغ قام به والد الصغيرة للبلدية.

فندق شبرد

عرفه العالم تمامًا كمعرفتهم بالأهرامات وأبو الهول، الفندق كان أهم الفنادق فى تاريخ مصر، فمن شرفته أطلت أوروبا على مصر لأول مرة، وفى جنبات الفندق كانت السياسة الشغل الشاغل لكثير من الزعماء والقادة الذين قضوا فيه الكثير من الوقت على مدار مائة عام.  

وكان الهدف من الفندق فى البداية هو توفير إقامة مريحة للأعداد المتزايدة من السياح القادمة إلى مصر وكذا مسافرو الترانزيت من أوروبا إلى الشرق الأقصى والهند.  ونظرًا للخدمة المتميزة التى تمتع بها نزلاء هذا الفندق. 

اكتسب سمعة عالمية حتى أن هذا الفندق كان حديث الصحافة العالمية خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وكتبت عنه مجلة أخبار لندن المصورة الشهيرة عام 1857 قائلة: «ربما لا يمكن لك بأى فندق فى العالم أن ترى هذا الخليط من البشر ذوى المكانة المرموقة من مختلف دول العالم كما يرى المرء بشكل يومى لو جلس على منضدة فى الصالون الرئيسى بفندق شبرد بالقاهرة».

وتعد عمارة بلمونت الحديثة البناء والمغايرة لهدوء الحى وشكلة أطول عمارة فى جاردن سيتى والتى اعترضت على بنائها قوات الدفاع المدنى.

وأبدى  المعمارى الشهير ميشيل باخوم تحفظه كذلك على التصميم، وحذر السكان من خطر الزلازل وتأثير الرياح على المبنى، لكن العمارة تحدت كل المخاوف والتحذيرات، ولا تزال قائمة فى مكانها بعدما تكلفت وقت بنائها 300 ألف جنيه، وهى 35 طابقًا، كل طابق مقسم شقتين مكونة كل منهما من خمس حجرات، إيجار الشقة الواحدة كان يبلغ 30 جنيهًا، وهو ما يوازى مرتب موظف كبير فى الحكومة وقتها.

«قصر الدوبارة»

يعتبر قصر «الدوبارة» من أشهر الأماكن فى حى جاردن سيتى ليس بسبب القصر لكن بسبب وجود السفارة البريطانية منذ كانت دارًا للحماية على مصر، وما زال حتى اليوم يوجد شارع يحمل اسم القصر العالى بحى جاردن سيتى وكذلك شارع باسم الوالدة باشا زوجة إبراهيم باشا وأم الخديوى إسماعيل والأمير أحمد رفعت.

 الحكم الفعلى لمصر كان فى قصرين هما قصر عابدين، حيث مقر الحكم الرسمى لأبناء أسرة محمد على من عهد إسماعيل، وقصر الدوبارة حيث كان المندوب السامى البريطانى أو المعتمد البريطانى أو السفير البريطانى فيما بعد.

وإلى جانب القصور تم تشييد العديد من الفنادق الفخمة على الطراز الإنجليزى والإيطالى بالحي، تطل على النيل مباشرة، أهمها فندق سميراميس القديم ذو «التراس» الرخامى، وفندق النيل هيلتون الذى يكمل فخامة الحى، حيث كان يستضيف كبار ملوك ورؤساء العالم عند حضورهم للقاهرة .

وذاعت شهرة ومكانة الحى منذ أن عقد به أول مجلس للشورى فى مصر، فقد انطلقت الجلسة الاولى لمجلس المشورة برئاسة إبراهيم باشا فى سبتمبر 1829 بالقصر العالى الذى أنشأه إبراهيم باشا. 

قطن بحى جاردن سيتى أيضًا العديد من الأسر المصرية العريقة والشخصيات البارزة مثل: «مصطفى النحاس، فؤاد سراج الدين، طبيب أمراض النساء والولادة الشهير نجيب محفوظ، ليلى مراد، الأديب الكبير الراحل توفيق الحكيم، نادية لطفى»، ويوجد به أيضًا سفارة الولايات المتحدة الأمريكية والسفارة البريطانية والسفارة الايطالية ومدرسة الابراهيمية الثانوية العريقة للبنين، ومدرسة  الميردو ديو .

إلى هنا تنتهى جولتنا التاريخية فى حى جاردن سيتى العريق والذى لا تزال أبنيته العريقة وروائعها المعمارية موجودة وقائمة تشهد على عصر الأرستقراطية والنخبة وزمن جميل توارى وانسحب فى شموخ.