الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
موسـى صبـرى يسرق ساعـة طـه حسيـن!

موسـى صبـرى يسرق ساعـة طـه حسيـن!

أعشق الحوارات الصحفية القديمة التى أجراها نجوم الصحافة مع نجوم الأدب والفكر، صحيح أنها حوارات جرت ونشرت منذ عشرات السنين، لكنها لم تفقد حلاوتها ومتعتها وجمالها أيضًا.



هى متعة للقارئ العادى، ودرس مهم فى فن الكتابة لكل صحفى شاب، وعندما تقرأ الحوار ستحس أنك جالس معهما فى الغرفة نفسها تستمع لسؤال الصحفى وإجابة الأديب أو المفكر.

من الحوارات التى أتوقف أمامها كثيرًا، ذلك الحوار الذى أجراه الأستاذ الكبير موسى صبرى مع عميد الأدب العربى واختار له عنوانًا جذابًا مشوقًا هو طه حسين، سرقت ساعة منه، وتاريخ الحوار إبريل سنة 1967.

 

يقول الأستاذ موسى صبرى فى مقدمة حواره مع د. طه حسين ما يلى:

«أرهب الجلوس إليه، ولكننى أهوى اقتحام معبده، إن التسلل إلى محرابه من «آدمى» مثلى هو استهانة بوقت صاحب هذا المحراب، ولذلك فإننى ألح على نفسى أن تلتزم الصمت فى مجلسه، فما أحلى الاستماع إليه، وما أمتع أن تتذوق كل الحواس صوته المنغم، وعباراته المرتلة وفكرته الأنيقة وضحكته الحلوة ذات الرنين!

ويطغى علىّ الجشع فأتمنى أن تطول الجلسة إلى ساعات وأراه جالسًا ترهقه الحركة، موسدًا يديه غلالة من الصوف تقيهما لفحة هواء باردة، فأحقد على مرض جاحد طائش فى إصابة مرضاه.. ثم تسرى منه الكلمة والفكرة والدعابة الساخرة.. فيدفأ جسد العالم الكبير وينشط ذهنه شابًا متألقًا فى عنفوانه.. ويوقظ الصوت فى صمت.. ويدور الحوار وكأنه مرسوم لستار ترفع عنه.. وتأبى أن تنزل عليه.

حوار بين زائر يلتمس الرأى والحكمة ومضيف لا يجرى لسانه بغير الرأى والحكمة.. حوار له حرمة تحجبه عن الناس، ولكن كيف أستطيع بعد ساعة مع «طه حسين» إلا أن أقول لكل الناس إننى كنت مع طه حسين.. كنت معه فى حجرته الصغيرة الساكنة الهادئة تشاركنا مئات الكتب الجليلة تسكن الجدران مستريحة متخمة ناعمة متباهية بأنها أذن ثالثة مستديمة فى كل حديث تسمع ولا تبوح.. ترى ولا تتكلم!

ولكننى أريد أن أسمع وأبوح.. أرى وأعلن «وأنا لابد حائر، فالجلوس إلى طه حسين يشغلك عن استقرار على بداية تشرع بها الحديث ويشتتك عن حيلة تجذبه بها إلى موضوع تريد الاستماع إلى آرائه».

لقد كان الهدف من طلبى متعة اللقاء، أن أقدم له كتابى الأخير «قصة ملك وأربع وزارات»، وأنا لا أريد أن أقدم إليه الكتاب إلا فى الدقيقة الأخيرة من جلستنا حتى لا أبدد وقتًا فى حديث منى عن كتابى إذا ما سألنى عن موضوعه.. وهكذا اخترت أن يعبر صوتى عن أى شىء، أى كلمة تطرق باب فكره وهو يقدم لى سيجارة أمريكية، ولكنه أعفانى من بداية بلهاء!

لقد بدأ طه حسين الحديث مع موسى صبرى بسؤاله عن انتخابات محافظة أسيوط التى كان يغطيها وماذا جرى فيها إلى أن يبدأ الحوار الممتع ويسأله طه حسين: ماذا تسمع هذه الأيام؟!

ويرد موسى: لاتزال آراؤك التى أبديتها فى التليفزيون تدوى فى أذنى، كانت قنابل مثيرة! قال طه حسين: أنتم فى أخبار اليوم الذين جعلتم منها قنابل، لقد صورتمونى شابًا أجرى وأضرب وأرقص!

وينتقل الحوار إلى الفكر والأدب فيسأله موسى صبرى: لكننى لم أفهم كيف تصف محمود تيمور بأنه من الأدباء الناشئين؟ ويرد طه حسين: وهل هذا معقول؟ محمود تيمور من سنى!

ويسأله موسى صبرى مؤكدًا: لقد سمعناك تقول هذا فى التليفزيون عندما تحدثت عن الأدباء الشبان، وذكرت اسم «توفيق الحكيم ومحمود تيمور»؟!

ويرد طه حسين: وهل من المعقول أن يكون توفيق الحكيم أيضا من الناشئين، إنها لخبطة الست «أمانى ناشد» المذيعة.

ويستمر موسى صبرى فى مشاغبته للعميد قائلاً: وكيف تقول عن كتاب المسرح الناشئين أنهم لا يعرفون الكتابة للمسرح وأنت لم تشاهد إنتاجهم؟ ويرد طه حسين: صحتى لا تساعدنى، وماذا تريد منى أن أشاهد؟!

ويسأل: هل يكفى أن تحكم عليهم بالفشل لمجرد أنهم لم يقرأوا الأدب اليونانى والمسرح اليونانى؟ ويجب طه حسين: طبعا، لابد أن يتثقفوا بهذا الزاد ليعرفوا كيف يكتبون للمسرح، أيوه يا سيدى قل إنه أدب عفاريت كما قال أحدهم فى بعض الصحف وكيف يكون مسرحًا إذا كان باللغة العامية هذا كلام فارغ.

ويعود موسى صبرى ليقول: ولكن هناك شخصيات لا يمكن أن تظهر على المسرح لتتحدث باللغة العربية، شخصية جزار مثلا، فتوة مفتول العضلات، سيدة بلدى؟!

ويرد طه حسين متسائلاً: ولماذا لا يتحدث الجزار باللغة العربية؟ أجاب موسى: لم نعرف جزارا يتحدث باللغة العربية! ليرد العميد: المؤسف أنكم لا تعرفون!

ومضى طه حسين يدلل على وجهة نظره إلى أن يقول له موسى صبرى: ولكننى أرجوك أن تشاهد مسرحيات لكتاب المسرح الجدد حتى لو كانت بالعامية!

قال طه حسين: هذا كلام فارغ، لقد كتب توفيق الحكيم عندكم فى أخبار اليوم مسرحية «الأيدى الناعمة» باللغة العربية الصحفية، ثم اتفق مع يوسف وهبى على تحويلها إلى اللغة العامية، وذهبنا وشاهدناها وكانت تافهة! وكيف أشاهد مسرحية لكاتب قرأت له عنوان مقال هكذا «لغة المسرح من تانى»؟! من تانى هذه جعلتنى لا أقرأ المقال! ويسأل موسى عن اسمه فيقول: نعمان عاشور.

ويؤكد موسى صبرى له أنه كاتب مسرحى ناجح.

ويعلق طه حسين: بتاع الناس اللى فوق والناس اللى تحت؟!

ويرد موسى قائلاً: لقد شاهدت له الناس اللى فوق، وكانت ممتازة، إن لصديقنا رشدى صالح رأيًا طيبا فى نعمان أنه يصفه بأن النسخة الشعبية لتوفيق الحكيم!

ويرد طه حسين: وإذا كان هو النسخة الشعبية لتوفيق الحكيم فماذا يكون توفيق الحكيم إذن؟ إنه نسخة من توفيق الحكيم، ولكن بغير ثقافة توفيق الحكيم مع احترامى وتقديرى لرشدى صالح ككاتب مثقف أحب أن أقرأ له!

ويسترسل موسى صبرى: لقد أجرى «ألفريد فرج» تجربة ناجحة قدم «حلاق بغداد» باللغة العربية، ونجحت مع أنها رواية كوميدى.. هل تعرفه؟!

رد طه حسين: قابلته وهو شاب هادئ طيب ويبدو لى مما قرأت عن المسرحية أنه أضاف شيئًا جديدًا إلى القصة الأصلية فى «ألف ليلة وليلة».

ويمضى الحوار الممتع على هذا النحو إلى أن يقول «موسى صبرى»:

وهنا قدم إلى المحراب زائر من جامعة الدول العربية، فاستأذنت فى الانصراف وقدمت للأستاذ المعلم نسخة من الكتاب، فاستبقانى ليسألنى عن موضوع الكتاب.

قلت: إنه يروى قصة الأحداث السياسية فى حكم مصر منذ حريق القاهرة فى 26 يناير سنة 1952 حتى قيام الثورة فى 23 يوليو!

قال: عال.. كأنك لم تكتب عن الوزارة التى اشتركت فيها وهذا مطمئن!

قلت: فى إشارات اقتضتها ظروف الأحداث!

قال: أى وزارات كتب عنها؟

قلت: وزارات على ماهر ونجيب الهلالى وحسين سرى!

قال: لاأزال حائرًا كيف قبل الملك أن يسند رئاسة الوزارة إلى نجيب الهلالى مع أنه كان يكرهه كراهية شديدة؟ وكان يقول إنه يذيع عنه وقاحات!

قلت: كان الملك مضطرًا بعد حريق القاهرة إلى إسناد وزارات لأشخاص لا يحبهم مثل «على ماهر» أيضًا!

قال: ربما كان هذا تفسيرًا، لقد كان يكرهنى أيضا، وعندما قابلته وأنا وزير مع أعضاء الوزارة قبل حلف اليمين فى يناير 1950 وجه لى تهديدًا علنيًا.. قال لى: وأنت يا دكتور طه.. أنا مش عاوز بعد كده مقالات من مقالاتك الهدامة.. أنا قبلت اشتراكك فى الوزارة كامتحان لك!

ولم أرد عليه بالكلام فى هذا اللقاء.. ولكنى رددت عليه ردًا عمليًا بعده بثلاثة أيام فقط عندما أعلنت مجانية التعليم الثانوى والفنى، ولم ألقه طوال فترة الوزارة لقاء خاصًا، وكنت أعتذر عن الحفلات التى يدعو إليها الوزراء، إلى أن أنجب وألح علىّ زملائى أن أحضر مأدبة دعا إليها احتفالاً بولى العهد، وأذكر للتاريخ أن سكرتيرى جاءنى فى ذلك اليوم.. وأسر فى أذنى أن طلبة إحدى المدارس يتظاهرون فى هذه اللحظات ويهتفون بسقوط الملك!

وينهى الأستاذ موسى صبرى حواره الممتع قائلاً:

وكم كنت أتمنى أن أثقل على طه حسين لأستمع إلى مزيد من الذكريات، ولكن كان لابد أن أنصرف وهو متلطف بتحية أعتز بها: ثق تمامًا أننى سأقرأ كتابك بكل العناية!

ورد موسى: شكرًا يا سيدى، وقال العميد: وإلى لقاء قريب.. لست أدرى سببًا لاختفائك عنى منذ وقت طويل!

ويجيب موسى: ليس إلا الحرص على عدم، إزعاجك! ويجيبه العميد بقوله: إننى أستريح إلى التحدث إليك، ولكن لا تكن «كأنيس منصور»، يخرج من عندى ليكتب للناس كل ما دا ر بيننا، قال لى طه حسين كذا وكيت!

وقال موسى للعميد: وهل هذا معقول؟ لست مثله مفلوت اللسان!

وضحك طه حسين وسيضحك اليوم أنيس منصور شامتًا فى أستاذنا طه حسين!