الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حصــان جديــد

ريشة: نرمين بهاء
ريشة: نرمين بهاء

لا أبالى بالعالم الذى يبحث الحياة على كواكب أخرى، لكن يشغلنى قلبًا أكون أنا عالمه...  أنا وأبى قصة حياة، كلٌ منا يستند على ذراع الآخر إذا ما خانته قدماه وتعثرت بدروبها.  دائمًا ما أستيقظ من نومى على صراخ أبى: «يلّا اتأخّرنا»، أرتدى ملابسى سريعًا ثم أنظر إلى مرآتى «لا جديد» وأحمل حقيبة يدى لآخذ مكانى بجانبه فى السيارة ونتوه معًا فى الزحام.  أصل إلى عملى، وأبدأ فى تهيئة نفسى ليوم جديد داخل مكتب الجوازات بعد أن أرتدى اليونيفورم الخاص بى، وأجلس على نفس الكرسى كما اعتدت منذ 10 سنوات يفصلنى عن العملاء شباك زجاجى لطالما تمنيت أن أكسره - فقد اكتفيت من العُزلة - أرسم ابتسامتى المعتادة التى لا تسقط إلا مع انتهاء العمل بتبديل الشيفت أو عندما أتوارى قليلاً لإصلاح ماكياجى الذى لم يفسد مرّة.. فأنا قليلة التعبيرات والحركات، ولكنى كنت آخذ نفَسًا عميقًا وكأنى كنت أعمل داخل كوب من الثلج.. لا أحد يرى أبعد من تلك الابتسامة وما يدور خلفها، فهناك خلف الشباك شبابيك أخرى وهمية تفصلنى عن هؤلاء، أحيانًا كنت أنظر إلى أحدهم وأتخيل معه حديثًا طويلاً يدور بيننا، حديثًا صامتًا يقف عند حدود تلك الشفاه المبتسمة.



تصادقنا.. أنا وذلك الكائن الغريب الذى يحادثنى داخل عقلى، فهو يفهمنى جيدًا ولا يخفى من أمرى شيئًا، فيصفق لى عندما أحرز نجاحًا وينهرنى عندما أخطئ، لا يعرف الرشوة كما حاولت معه كثيرًا، ولا ينام أبدًا عندما أريد له ذلك وإذا غافلته وجدته يتبعنى بعينه الثالثة «عين الضمير».

أقضى ساعات عملى الأخيرة كالأولى، لا تغمرنى سعادة الانتهاء كما لا تشقينى لحظات البداية، ولكن أحيانًا ما يزورنى حلم يقظ بموعد مع السعادة، فتتسع ابتسامتى بعد أن منحها بعضًا من الأمل هذا الاتساع.. وينتفض قلبى باحثا عن مصدر تلك الشائعة.

تلفتُّ فجأة مذعورة - وأنا أقف جانب الطريق بعد انتهاء العمل فى انتظار والدى للعودة إلى المنزل - على صوت بوق إحدى السيارات المزعجة بعد أن مرّت بجانبى مسرعة كالريح، فتنبهت وأخذت جانبًا أكثر حذرًا حتى لا تصدمنى إحداها وأنا فى غفلة ساحرة.

انتظرت وانتظرت حتى مللت وقد استنفدت تركيزى فى التفكير، كما استنفدت قوتى فى الوقوف، فقد كان يومى مزدحمًا بشفت مسائى إضافى بدلاً من زميلتى لظرف خاص لديها، أخرجت هاتفى لأعاود الاتصال بأبى بعد أن امتنع عن الرد فى المرّات السابقة لكنه أجاب هذه المرّة معتذرًا ببضع كلمات شارحًا لى بأن الطريق شديد الزحام.

كثيرون مرّوا بجانبى وأكثر من وقفوا بعيدًا يتعجبون من طول انتظارى، أزعجنى فضولهم وزاد غضبى على والدى وبدأت أشعر بالخوف وكأنى طفلة تائهة فى شوارع المدينة الواسعة، نعم، فلم أعتد الخروج وحدى كما لم أعتد البقاء خارج البيت إلى تلك الساعة المتأخرة.. وبدأ هذا الشعور يزداد أكثر وأكثر حتى احتضنت حقيبتى كدرع يحمينى والتصقت أكثر بإحدى السيارات الواقفة جانبًا، وتطورت نظراتى المتفرجة إلى نظرات حذرة متنمرة تدور فى مقلتيها كالرادار، وتوحدت أنا وأفكارى وحقيبتى الجلدية يقتلنا الانتظار.

«حضرتك مستنية حد؟!»، كاد يغشى علىَّ من الفزع، والصوت يأتينى من خلفى، مسترسلاً: «تحبى أوصّلك لأى مكان؟!»، تلفت خائفة بوجه قاس لأنظر فى وجه بشوش يحمل من البراءة والرجولة ما يناقض كل قواعد الطبيعة والأعراف، زال عنّى عبوس وجهى دون قصد لهذا الشاب الذى كان مغناطيس بشرى يدفعك إلى الاقتراب منه دون أن تعرف لماذا وكيف ومتى حدث ذلك، كان ينظر لى بعمق وكأن عينيه ترسمانى بداخله!

شاب طويل وسيم الملامح متناسق القسمات يمتلك ابتسامة رائعة وحصانًا حديديّا، تابع حديثه معى وهو يشير إلى «الموتوسيكل» الخاص به الذى يلمع من شدة الاعتناء به، مقدمًا دعوته لاصطحابى إلى بيتى، كان يبدو كفارس وهو يمتطى هذا الحصان الحديدى، وكأميرات الحكايات أطلقت لشعرى العنان وأنا أمتطى حصانه الحديدى وأحتضن هذا الفارس وأتمسك به جيدًا، رغبة فى الاقتراب الحنون منه لا خوفًا من السقوط أرضًا. 

وانطلقنا نقطع كل الصفوف، حتى لم أعد أسمع ضجيج السيارات ولا همهمات السائرين، انطلقنا كطلقة يدوى صوتها بين سماوات سبع.

أغلقت جفنَى وأنا لم أعتد الأمان، وصعدت معه سماء بعد أخرى، وعلَت ضحكتى الطفولية ورنّت فى ذلك الفضاء اللامع، بعد أن تلألأت مصابيحه النجمية وصارت هى الأخرى تتغامز وهى تتابعنا وترعانا، إنه الحب الذى لا يعرف المواعيد ولا المناسبات، الحب الذى تكون فيه النظرة جملة مفيدة، الحب الذى لم يعرف طقسًا تقليديّا، فلم تعد له عدة المسافر على ظهر جَمَل، ولا تعنونه الانتهازية تحت مسميات مزيفة من العرفية والمسيارية. 

حب لا يعرف الكلمات ولا ينتظر الشرح والظروف والتبريرات، حب لا تطلب منه ولا يطلب منك، إنها تلك القشعريرة التى تقتحمك دون استئذان، وتتغلغل فى جسدك حتى تتملكك، إنها الشرارة التى تجتاح عاصمتك الشخصية ولم تتركها إلا هشيمًا، إنه الحب الذى ترك لك بعضًا من العقل لتكتب له عن رضا شهادة ميلاد فى هيئة عَقد زواج .

 شعرت بتلك الرجفة السعيدة تهزنى عندما تلفت جانبًا وهو يقول لى إلى أين أميرتى؟

فقلت له باسمة إلى بيتى بوسط المدينة. 

هو : ولكن الحوريات يعشن فى البحر. 

أنا :  أنا لست بحورية. 

هو : إذن أنت الجميلة جارة القمر. 

رقص قلبى سعيدًا كعصفور مغرد وغنينا معًا أنشودة حب دافئة حتى وصلنا إلى هناك؛ حيث يجاورنى القمر، تشابهت كلماتنا وأفكارنا وكأن كلينا مرآة للآخر، زينت النجوم تاج رأسى وتعانقنا وتعالت ضحكاتنا البريئة العاشقة حتى ملأت سكون ذلك الفضاء الواسع، لكن فجأة اخترقه صوت صاروخى كاد أن يشق السماء ويصم أذنى وأنا أشعر به قريبًا منّى، نظرت حولى فلم أجد قنبلة نووية ولم تكن حربًا كونية، فلتهبط الصواريخ وتنكس الرايات وتخرس الطبول. 

إنه بوق سيارة والدى يصرخ لأسرع الخُطى قبل أن تغلق الإشارة. أفقت من نشوة أحلامى سريعًا وقطعت كلمات الفارس النبيل قائلة: شكرًا بابا هيوصلنى، لم يبد ضيقًا لرفضى، لكنه كان أكثر رجولة وهو يبتسم لى قائلاً: كما تريدين أميرتى. وانطلق يسابق الريح، وعدت أنا مسرعة إلى والدى لآخذ مكانى بجانبه «سعيدة» ولنتوه معًا فى الزحام.