الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

كُرسى معسّل

( وعِندك واحد «ميزا» واتنين قهوة «كعب عالى» وشيشة «قَص» للدكتور فوزى وصُحبتهُ)..



 بهذه الكلمات بدأ يوم عم «حسن تَعيلب»، سُوهاجى الأصل، فى العِقد السادس، نحيل الوجة، غائر العينين، مربُوع الطول، شاربهُ الأسود الكبير، يُنصف وجهه نصفين، شطر علوى، شكلتُه يدُ الزمان و( الشقا والتعب) فأصبح، كورقة مطوية، قُدت من كتاب قديم،وشطر سُفلى، عبارة عن فم ذى شفاه غليظة،تحوى داخلها لهجة صعيدية مشوبة بالعامية القاهريّة.

على الرغم من تعاقب فُصول السنه،إلا أنه كان دائمًا ما يرتدى بدلته الكستور «الكُحليّة» على جسده الهزيل،حتى أصبحت جلد ثانى على جلده الأصلى،لا تملكُ إلا أن تقابله بضَحِكة، لمُزحة يُلقيها مُتعمدًا، كى«يُفك الزبون» على حد قوله.

قهوة عم «تعيلب» يأتيها القاصى والدانى، من كل حدب وصوب، أشكال كثيرة؛ تلتصق «مَقْعَداتهم» بصدرى الخشبى يوميًا،بشارع شامبليون بوسط البلد. 

 وفى الصباح، يروى عم تعيلب أرض المقهى بقطرات من الماء المُنغم بتلاوة الشيخ المنشاوى، لآيات الذكر الحكيم، ثم يصفُنا فى نشاط أنا وزملائى «الكَرْاسِى» فى صفوف لاستقبال الزبائن.  وفى آخر الليل، يكنُس، كمًا هائلًا، من الضحكات «الرقيعة» والأصوات المتهدجة والقلوب المزيفة، المُلقاة على الأرض،بجانب ما خلّفوه وراءهم من أعقاب السجائر وعبوات المياه الغازية الفارغة. 

وفى إحدى الليالى، كنّا نتراص فوق بعضنا البعض، كشجرة معشوقة الأطراف، وسألته مستفسرًا: عم تعيلب: يعنى إيه كلمة «سياسة»؟!!، فقطب حاجِبيه فى غضب واقشعر جسده قائلًا: من وين جبت الكلمة دى؟! فأجبته: كتير من الزبائن بيتكلموا وبيقولوها؛ وأنا مش فاهم معناها، فاستطرد وقد زاد معدل ارتعاشه: لو سمعتك جبت سيرة الكلمة دى تانى، هبيتك فى الشارع لوحدك، فاهم. 

 لم أكن أعلم سر تخوفه الشديد ولهذا، كثر إلحاحى كما كان يكثُر خُوفه كلّما أعدتُ عليه السؤال، فنفّذ تهديده... وتركنى وحيدًا فى الشارع، كأمّ ألقت بفضيحتها التى أتت بها من سِفاح. بعدها أخذت تتلقفنى الأيدى هنا وهناك،تارة يد أحد الشيوخ؛ ليجلس علىّ أثناء صلاة الجمعة وتارة أخرى يد العم «مصطفى نوبى» الميكانيكى، بعد أن يأمر صبيه «منعم» أن ينظفنى جيدًا؛ ليُجلس على الباشا صاحب الـ«BMW»، وعم نوبى يبتسم له ابتسامة صفراء خبيثه توحى أنه وجد أخيرًا، «الجمل» الذى سيسرقه بكل سعادة كما يقول المثل، بدلًا من سَرقة الذباب الذين يأتونه بين الفينة والأخرى لإصلاح قطع «الخُردة» التى يركبونها؛ متفاخرين بأنهم من أصحاب السيارات. وتارة هنا، وتارة هناك. 

حتى تعرّف علىّ أحدهم، من توقيع عم «تعيلب» الذى حَفر اسمه، بالمسمار الـ 10 سم على ظهر مسندى، فأعادنى إلى موطنى الأصلى - القهوة - ولكن هذه المرّة كان جوها «كئيب»، فزملائى مصطفين تحوطُهم «فِراشة صِوان» مُزخرفة بالأحمر والأزرق. 

وأحد الشيوخ، يجلس مُنصفًا الصّوان، ويتلو آيات القرآن، ووجوه من حولى مُمّتقعة اللون، فوضعنى الذى عرفنى، بجانب زملاء الكفاح، فسعدوا لعودتى وكنت أبحثُ عن عم تعيلب ولكنى لم أجده.

وبدأت الجموع ُ بالتوافد، وجاء من نصيبى، أحد الجبال البشرية،المليئة باللحوم والشحوم والدهون وغيرها. 

فجلس علىّ هذا الثقيل وزنًا ودمًا، ثم بدأ يجهش بالبكاء، فهوّن عليه الحاضرون، وطلبوا له قدحًا من القهوة، وكان هذا أول الغيث، فعلى إثر هذا الطلب، شَربَ هذا «البالون» البشرى، خمسة عشر قَدحًا من القهوة، وثلاثين كوبًا من الشاى، وكان يطمحُ فى صينية فتة باللحم «الهوبر»، لولا أنهم ذكروه أخيرًا. بأن اليوم هو «مأتم» وإن غدًا هى «عقيقة» مريم ابنة على حسن «البقال»، فكان بكاؤه ناتجًا عن جوع وليس عن حزن. 

 فتوقف عن البكاء وعن الاحتساء وقال: دُنيا، الله يرحمك يا عم تعيلب كان راجل طيب.فتخشبت أكثر من حقيقتى عند سماع اسمه وحدثتُ نفسى فى ذهول: عمّ تعيلب مات!! أمّال مين هيجاوبنى عن سؤالى؟!