السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لماذا قتل عبدالرحمن الخميسى سميحة أيوب؟!

لا يعرف كثيرون من أبناء هذا الزمان، المثقف الموسوعى عبدالرحمن الخميسى، لكنّ العارفين بقيمته وأثره يدركون كيف كان أحد أهم مثقفى وفنانى مصر فى الخمسينيات والستينيات تحديدًا، وغالبًا يعرفه المثقفون بلقبه الأثير «القديس»، وهو لقب وراءه حكاية سنمر عليها  بعد قليل.



كتب عبدالرحمن الخميسى الشعر ليكون من أبلغ وأعظم شعراء عصره؛ حيث بدأ شاعرًا فى الأربعينيات، ثم أصبح من أبرز كتّاب القصة القصيرة، ثم مذيعًا ذا صوت عميق لافت، وممثلًا مسرحيًا وسينمائيًا، ومُخرجًا، ومؤلفَ موسيقى، وصحفيًا، ومترجمًا، عركته الحياة منذ أن ترك بلدته المنصورة إلى القاهرة عام 1937، فاشتغل مدرسًا وعاملًا فى محل بقالة ومحصل بطاقات فى الترام ومُصَحّحًا فى مطبعة ومؤلفَ أغنيات بأسماء الآخرين، ينام على كراسى المقاهى أو على أرائك حديقة الأزبكية من دون أسرة أو عائل أو دعم.

كان هناك شعور دائم بالوحدة لدى الخميسى؛ خصوصًا بعد انفصال والدته عن والده؛ حيث قرر والدُه اختطافَه حتى ينتقم من طليقته.

عاش الخميسى مع والده التاجر الكبير «عبدالملك» فى محاولة من الوالد لدفع طليقته للرجوع إليه والعيش معهم مرة أخرى، وفى الثامنة من عمره بدأ الخميسى فى كتابة المواويل الشعبية على غرار المواويل التى كان يسمعها من مطربى القرية، وما لبث أن كوّن فرقة مسرحية من الصِّبْيَة وحاول الحصول على مساعدة أثرياء القرية لبناء مسرح، لكنهم رفضوا فما كان منه إلا أنه قام مع زملائه بفك خشب الاستراحات الملحقة بالمقابر واستخدامها فى بناء المسرح، وكان قد أرسل عددًا من قصائده إلى مجلة «البلاغ» المصورة وهو لا يزال طالبًا فى المرحلة الثانوية بالمنصورة، ففوجئ بمدرس اللغة العربية بالمَدرسة يسأله إن كان هو عبدالرحمن الخميسى الذى نشرت له مجلة البلاغ قصيدة «أزهار».

ومن المنصورة انتقل «القديس» الصغير إلى مدرسة القبة الثانوية؛ حيث نشرت قصائده فى مجلتى «الرسالة» و«الثقافة» وهما من كبريات المجلات الأدبية فى ذلك الوقت وهو لا يزال فى عامه الثامن عشر. 

هجر القرية بعد أن شَعر أنه عبءٌ على أبيه أثناء أزمة الثلاثينيات المالية فى أحد أيام صيف عام 1936، بدأ من المحطة الأولى مع واحد من بلدياته عازف رق ساعده فى تسويق مواويله وأغانيه التى كان يبيعها لكبار المؤلفين ويضعون أسماءهم عليها.

فى هذه الفترة عاش الخميسى أيام تشرده وبطالته وجوعه، وعمل فى عدة مهن من بينها «كمسارى» فى شركة أوتوبيس وأخذ يتردد على مقهى الشعراء يكتب المنولوجات ويبيعها بقروش قليلة، وعندما طرد من الحجرة التى استأجرها بشارع محمد على بسبب تراكم الإيجار عليه بدأ يقضى يومه على نفس المقهى ويكتفى بغفوة من النوم. ربما هذه المعاناة هى التى خَلقت التحدى العظيم وكل هذا الإبداع داخل الخميسى؛ ليصبح مبدعًا كبيرًا يعيش بيننا بأعماله وما ترك من أثر إلى يومنا هذا.

«عشت أدافع عن قيثارتى فلم أعزف ألحانى».. بتلك الكلمات التى كان يرددها الخميسى يمكننا تلخيص حياته؛ حيث كتب الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين ينعى الخميسى فى صفحته الخاصة فى جريدة الأهرام آنذاك، أنه لم يجد رثاءً أو كلمات تمثل الخميسى أو تُعَبر عنه أعمَق أو أصدَق من تلك التى كان يرددها دائمًا فى مكتب أحمد بهاء الدين عندما كان يزوره..واستطرد قائلًا إنه كان كلما جلس كعازف ليعزف لحنه على قيثارته هاجمته قوى البطش لتحطيم القيثارة فيحضنها ويجرى بها بعيدًا ليحميها، وما أن يجلس ثانية لينفرد بألحانه حتى تدب أقدام البطش متجهة نحوه.

إنجازات الخميسى ليست بما ترك لنا من كتب بين أيدينا؛ وإنما له أثر كبير فى مجالات شتى وعلى الكثير من الفنانين كما حكى لنا حفيده المؤلف الموسيقى هيثم الخميسى، فهو مكتشف سعاد حسنى وشمس البارودى، ويوسف إدريس الذى كتب ناعيًا الخميسى  يقول «كان الخميسى قويًا عملاقًا مقاتلاً إلى ألف عام، وكان فمه مفتوحًا على آخره مستعدًا لابتلاع الحياة كلها بكل ما فيها من طعام وشراب وجَمال قَسّمته الغربة إلى أربعة أركان الأرض مضى يتسلمه ركن ليرفضه ركن وهو قوى ومقاتل وطنى عنيد، هذا الشاعر الذى قهرنا جميعًا».

ربما شعوره الدائم بالوحدة هو السبب فى أنه يهرب للزواج بأكثر من امرأة لينجب الكثير من الأولاد الأحفاد، كانت محاولة ربما انتهت بالفشل؛ حيث استمر شعوره بالوحدة والغربة إلى النهاية.

من بين الأحفاد كانت الممثلة الموهوبة لقاء الخميسى، وكان المؤلف الموسيقى متعدد المواهب هيثم الخميسى، والمنتج السينمائى عبدالملك الخميسى.

حكاية اللقب

أطلق عليه الشاعر العراقى مظفر النواب لقب «القديس»، حين رأى الخميسى يخلع حذاءه ويعطيه لسائق الحنطور الذى كان بلا حذاء وقتها، ثم أخرج كل ما فى جيبه وأعطاه له، ودهش النوّاب لأن المبلغ كان ضخمًا، فقال له الخميسى: «أنت شايف الراجل شكله عامل إزاى؟ باين عليه ما داقش اللحمة من سنين وحتى الحصان رقبته رفيعة وجعان»، ثم أكمل الخميسى يومه بلا حذاء وبلا نقود، وعندما رأى «مظفر» هذا الموقف قال له «أنت قديس»، ومنذ ذلك اليوم عُرف الخميسى بالقديس.

 كان الخميسى يكتب للإذاعة فى خمسينيات القرن الماضى مسلسل (البهلوان المدهش أحمد كشكش)، وكان المسلسل علامة فارقة فى هذا الوقت، ينتظره الجمهور  بفارغ الصبر، وهو  بطولة سميحة أيوب، حيث جسّدت سميحة أيوب شخصية مدربة أسُود تحب زميلًا لها اسمه «أحمد كشكش» يمشى على الحبل، وكان الخميسى يكتب الحلقات وهى تسجل على الهواء، فيأخذها الفنانون ويؤدونها، لكن الفنانة الكبيرة سميحة أيوب اعترضت على هذا، وقالت بصوت عالٍ «وليه ميبقاش عندنا الحلقات قبلها.. كل يوم نستنى الأستاذ لما يكتب قبل الحلقة بكام ثانية؟!»، وبلغ مسامع الخميسى هذا الاعتراض، كان المسلسل عبارة عن ثلاثين حلقة، وفى نهاية الحلقة الثامنة كانت تجلس سميحة فى الاستوديو تستمع للحلقة التى كتبت فى التو، فطلب الخميسى أن يهتف جمهور السيرك بأن الأسُود هجمت على المدربة وقتلتها، مع صيحات من نوع «ألف خسارة»، و«لا حول ولا قوة إلا بالله» و«زوزو السّبع أكلها»، وفوجئت سميحة بأنها كبطلة مسلسل توفيت لأن الأسَد أكلها! فاتصلت بالخميسى وتصالحا. 

وفى الحلقة التالية جعل الخميسى الناس فى المستشفى يقولون «الأسد هجم عليها لكن الحمد لله.. ذراعها بس اللى انجرح.. وربنا كتب لها حياة جديدة»، وهكذا عادت للمسلسل.

وكان الخميسى أيضًا أول من قدّم شمس البارودى فى فيلمه (الجزاء) الذى كان من إخراجه، وقدّم فؤاد المهندس وكان يجلس فى طرقة الإذاعة فى انتظار أخته «صفية المهندس»، كما قدّم حسين الشربينى، وغيرهم، ووقتها كان عادل إمام وجهًا جديدًا وأسند إليه الخميسى دورًا فى فيلم (زهرة البنفسج) وسأله عند التعاقد معه «أجرك كم؟». قال عادل «300 جنيه» فضحك وقال له «على إيه؟ ده أنت حتى ما بتعرفش تمثل.. 200 جنيه كفاية». قال عادل «يا أستاذ خميسى ده أنا لو قريت أى حاجة الناس ها تضحك»!

من نوادره فى المعتقل ما حكاه محمد عودة الكاتب الكبير، حين كان الاثنان فى سجن روض الفرج، فخرج عليهما ثعبان من شق فى الزنزانة، فأخذ الخميسى يتحدث إلى الثعبان بهدوء شديد ويقول له «أنت تعبان طيب وصاحب عيال، وأنا كمان صاحب عيال.. ليه تحاول تؤذينى أو أنا أحاول أقتلك؟ أنت بتحب الحياة وأنا كمان.. أحسن حاجة تنصرف فى أمان». 

يقول عودة «العجيب أن الثعبان رجع ببطء إلى الشق الذى خرج منه»، وقد حكى صلاح عيسى فى مقال له عن لقاء «الخميسى» بوزير الداخلية حينذاك شعراوى جمعة، وكان الوزير يحاول إقناعه بالانضمام إلى التنظيم الطليعى الحكومى، وكان المفترض أنه تنظيم سرى، رغم أن رئيسه وزير الداخلية، فقال له الخميسى «الحقيقة ده تنظيم سرى وأنا لسانى فالت.. لا تبل فيه الفولة، وربما بعد أحد الاجتماعات أخرج وأفشى بعض الأسرار ويقبضوا عليكم!» وضحك شعراوى وأدرك أنه لا يريد الانضمام إليهم.

اكتشاف السندريلا

كان الخميسى يتردد على منزل عبدالمنعم حافظ وزوجته جوهرة والدة سعاد حسنى، وفى يوم من الأيام دخلت سعاد وهى تحمل صينية الشاى وجلست تنظر إلى الخميسى ولم تنطق بكلمة واحدة، فأخذ الخميسى يسرق النظرات لسعاد، ثم قال لعبدالمنعم «البت دى نجمة.. ابقى هاتها المكتب وتعالالى».

بعد أيام معدودة جاء عبدالمنعم حافظ زوج والدة سعاد ومعه سعاد إلى مكتب الخميسى فى شارع الجمهورية،. كانت ترتدى سعاد  فستانًا بسيطا، واقترح الخميسى على «سعاد» أن تعمل مؤقتًا فى المكتب على الآلة الكاتبة إلى أن يجد لها عملاً فى الفن، فبكت وخرجت من الحجرة، واستغرب الخميسى وسأل عبدالمنعم حافظ: «أنا  قلت لها حاجة زعلتها؟». قال له: «لا يا أستاذ.. هى بكت لأنها للأسف لا تقرأ ولا تكتب وأنت تدعوها للعمل على آلة كاتبة»، وهنا استدعى «القديس» الممثل إبراهيم سعفان وكان خريج كلية الشريعة جامعة الأزهر ليعلم سعاد القراءة والكتابة، ثم أسند إليها دور «أوفيليا» فى مسرحية (هاملت) التى كان يخرجها، لكن المسرحية تعطلت وتوقفت، فى ذلك الوقت كان مسلسل (حسن ونعيمة)  يذاع فى الإذاعة كل يوم الساعة 5، وكان الناس يستمعون إليه على نطاق واسع؛ خصوصًا أن التليفزيون لم يكن قد ظهر، ولاقى المسلسل نجاحًا كبيرًا، فحول الخميسى القصة إلى سيناريو فيلم وأعطاه للمخرج هنرى بركات، وطلب منه إسناد البطولة النسائية لسعاد حسنى ومعها محرم فؤاد، وكان الاثنان وجهين جديدن، إلا أن الموسيقار محمد عبدالوهاب المنتج صاحب شركة «صوت الفن» رفض وقال لبركات  «الفيلم كده يسقط؛ لأن الاسمين لم يسمع بهما أحد من قبل.. لكن ممكن نجيب فاتن حمامة مع محرم فؤاد أو أحمد مظهر مع سعاد حسنى»، لكن الخميسى رفض وتمسك بوجود سعاد ومحرم معًا وجهين جديدين، وقام بركات بإقناع عبدالوهاب بأن المسلسل الإذاعى دعاية مسبقة للفيلم وأن الفيلم سينجح، ووقتها عملوا حاجة ظريفة جدًا كدعاية للفيلم وكتبوا أن «أى بنت اسمها نعيمة وأى شاب اسمه حسن يدخلوا السينما مجانًا بالبطاقة الشخصية»!

العربون مقدمًا

من ضمن المواهب التى تبنّاها فى بداياتها الخميسى كان الموسيقار الكبير بلبغ حمدى.. ويحكى هيثم الخميسى فى يوم من الأيام طلب بليغ من القديس نقودًا ولم يكن مع الأخير أى نقود وقتها وإنما كان معه فكرة تجلب لهم نقودًا، فقال لبليغ معاك كام يا بليغ ياابنى؟، بليغ قاله رُبع جنيه، قاله طب يلا وقفلنا تاكسى، خدوا التاكسى وصلوا بيه مبنى الإذاعة، وهناك قابلوا رئيس الإذاعة وأخبره الخميسى أنه يعكف على كتابة أغنية يلحنها بليغ حمدى، فقال له رئيس الإذاعة أين هى؟، فقال القديس «نقبض الأول» وفعلا تقاضوا من الإذاعة عربونًا لأغنية لم تكتب، ثم ذهبوا حيث تعمل المطربة مها صبرى، وأخبروها أن لديهم أغنية لها، فقالت لهم أين هى؟، فقالوا لها أين العربون، وتقاضوا للمرة الثانية أجر الأغنية، وفى اليوم التالى ذهب بليغ حمدى لمكتب «القديس» وقال له أين هى الأغنية التى تقاضينا أجرها مرتين ليلة أمس؟، فرد عليه «القديس»، اكتب يابليغ يا ابنى.. «م تزوقينى يا ماما قوام ياماما.. ده عريسى هياخدنى بالسلامة ياماما».

ومنذ ذلك الوقت عندما تأتى سيرة الأغنية يقول عليها الخميسى «الأغنية اللقيطة».

رحل الخميسى بعد رحلة تشرد طويلة، فبعد تولى الرئيس أنور السادات كتب الخميسى سلسلة مقالات ردًا على ما كان يكتبه محمد حسنين هيكل قبل حرب 1973 مباشرة حول ضرورة تحييد أمريكا وصعوبة خوض الحرب وربما استحالتها، لكن مقالات الخميسى تم منع نشرها، وبعد طرد الخبراء السوفييت أيقن الخميسى أن كل شىء فى سبيله للتغيير فأشاع الخميسى أن يرحل فى نهاية الأمر وأعد خطة محكمة؛ حيث أشاع فى الصحف أنه بسبيل إخراج فيلم سينمائى فى بيروت وأنه سوف يشارك فى إنتاجه واستقل سفينته  واصطحب معه ابنه الكاتب أحمد الخميسى، وبعد أربعة شهور فقط من إقامته فى بيروت، انتقل إلى بغداد وتعرف عليه صدام حسين وأهداه سيارة مرسيدس، باعها بعد  ذلك وهو فى الكويت وأرسل ثمنها لأسرته للمعيشة، واختلف بعد ذلك مع النظام  العراقى وتعرّض لمضايقات ومشكلات لا حصر لها، ثم  كانت محطة المنفى الأخيرة  واختارها فى موسكو.

الوصية الأخيرة…

وأوصى الخميسى  بزراعة شجرة على قبره فى مسقط رأسه بالمنصورة؛ حيث كان يقول أنه سيعود عصفورًا يُحَلق ويطير، فوق غصون الإبداع.

ترك الخميسى سبع مجموعات شعرية هى «أشواق إنسان»، «دموع ونيران»، ديوان «الخميسى»، ديوان «الحب»، «إنى أرفض»، «تاج الملكة تيتى شيرى» وأخيرًا «مصر الحب والثورة»، واعتبره الناقد والمفكر لويس عوض آخر الرومانسيين الكبار. أمّا فى القصة القصيرة فقد ترك ست مجموعات قصصية هى «صيحات الشعب»، «رياح ونيران» أيضًا «دماء لا تجف»، «البهلوان المدهش»، وأخيرًا «أمنية وقصص أخرى». ولأن «القديس» كان نوعًا نادرًا حقًا من البشر فإن إنجازه لم يقتصر على الإبداع الكتابى والعمل الصحفى فقط بل ألّف وأخرَج ووضع موسيقى أربعة أفلام سينمائية: (الجزاء)- (عائلات محترمة)، (الحب والثمن)، (زهرة البنفسج)، وكل من شاهد فيلم (الأرض)  للمخرج المتميز «يوسف شاهين» يتذكر دوره الذى لعبه باقتدار وهو دور الشيخ يوسف بقال القرية والذى كان أحد المشاركين فى ثورة 1919.