الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شـارع الفـن ومقـامـات الأوليــاء

شارع عمادالدين عام 1912
شارع عمادالدين عام 1912

عُرف شارع عماد الدين فترة من عمره بشارع الفن والفنانين، الأدب والأدباء، الثقافة والمثقفين، ومنه دارت حركة فنية رائدة بقيادة الريحانى وبديع خيرى، والمسرح الميلودرامى بقيادة يوسف وهبى وأمينة رزق، والمسرح الغنائى بقيادة منيرة المهدية وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب، والمسرح الهزلى بقيادة على الكسار وعقيلة راتب. وبداية فكرة  إنشاء الشارع تعود  للخديوى إسماعيل الذى كان يخطط  لجعل القاهرة أشبه بالعواصم الأوروبية؛ وبخاصة للفنون والعمارة، ولذلك كان يستعين بالمهندسين الأوروبيين؛ خصوصًا الفرنسيين والإيطاليين لتصميم النماذج المعمارية الفنية الكبيرة، كدار الأوبرا وحديقة الأزبكية، وشارع عماد الدين.



 

ويمتد عماد الدين من شارع رمسيس- قُرب ميدان باب الحديد- إلى ما بعد شارع الناصرية بقليل، وفيما بعد قُسِّم الشارع قسمين ،الجنوبى يبدأ من الناصرية ويحمل اسم «محمد بك فريد»، ويصل إلى تقاطُعه مع شارع فؤاد «26 يوليو»، غير بعيد من قصر عابدين ويمُر بمنطقة البنوك ويدخل فى القلب التجارى للقاهرة.

أمّا القسم الشمالى؛ فقد احتفظَ باسم «عماد الدين»، وهو يبدأ من تقاطع شارع فؤاد حتى شارع رمسيس.

ما هى حكاية عماد الدين؟ ولماذا سُمى بـ شارع الفن؟!!

تقول الروايات إن تسمية الشارع تعود إلى اسم الشيخ عماد الدين، صاحب الضريح الموجود بالقُرب من تقاطع عماد الدين بشارع الشيخ ريحان، ولا نعرف تاريخ إنشاء هذا الضريح ولا شيئًا عن الشيخ، ولكن الضريح عليه كتابة تُسجّل 1661 ميلادية، أى فترة الحُكم العثمانى لمصر.

وهناك تاريخ شفهى متداول عن فتوة اسمه عماد الدين يقال إنه على اسمه.

واشتهر شارع عماد الدين باسم «شارع الغرام»؛ إذ كان يجتمع فى مسارحه وملاهيه أبناء الذوات، بحثًا عن قصص الحب، مع نجمات الكازينوهات من المطربات، «وكان إذا تعلق قلب أحدهم بواحدة، ظهر له منافسون كثيرون، فيكوّن له عصابة من الفتوات يسيرون فى ركابه؛ للدفاع عنه، ومن هنا كثرت مذابح الغرام فى الشارع». أشهر القصص المتداولة عن أحد أشهر فتوات عماد الدين، ويدعى فؤاد الشامى، الذى كان يفرض الإتاوات على أصحاب البارات، وقصته مع راقصة تدعى «امتثال»، وقد تعاقدت معها بديعة مصابنى بعد أن جاءت من الإسكندرية.

وبعد شهرتها قررت «امتثال فوزى» الاستقلال عن بديعة مصابنى واستأجرت كازينو البوسفور مع الراقصة مارى منصور؛ لإدارته بمعرفتهما.

طلب فؤاد الشامى ود الراقصة امتثال لكنها رفضته، فطلب منها الإتاوة 50 جنيهًا، فرفضت أيضًا، فقرر الانتقام منها حتى لا يفقد هيبته فى عماد الدين، فاتفق مع رجاله على تأديبها، ولكن المشاجرة تطورت إلى أن غرست زجاجة فى رقبة امتثال وماتت.

ودخل فؤاد الشامى السجن، وقضى سنوات طويلة، وخرج منه كهلًا، وافتتح كشكًا للسجائر وبيع الحلويات إلى أن مات، وكتب المنتج الراحل ممدوح الليثى هذه الحكاية فى فيلم سينمائى عام 1972 إخراج حسن الإمام، ولعبت فيه دور البطولة الفنانة ماجدة الخطيب بنفس اسم «امتثال».

فى عصر الخديوى إسماعيل ساهم فى تخطيط  شارع عماد الدين أكثر من 24 مهندسًا معماريًا، من أشهر المعماريين فى أوروبا، ومن بينهم الإيطالى «أنتينيو لاشياك»، الذى صمم «بنك مصر» عام 1927، إلى جانب العمارات الخديوية التى تتصدر الشارع من ناحية شارع 26 يوليو، ومن بعدها مبنى نادى ريسوتو فى ميدان مصطفى كامل، ونادى الأمراء بشارع نجيب الريحانى.

وعندما أنشأ الخديوى إسماعيل دار الأوبرا عام 1869 للاحتفال بافتتاح قناة السويس، وقبلها حديقة الأزبكية عام 1867 التى خصصها الخديوى للفرق المسرحية الوافدة من أوروبا، فكر إسماعيل فى شارع يستوعب عدد الفرق والفنانين الأوروبيين فى المستقبل، فبدأت فكرة تخطيط أحد الشوارع الملاصقة للقاهرة الخديوية كان هو عماد الدين.

ومن الطريف أن الشارع كان له خط أخلاقى، فكان الخديوى والإنجليز يشترطون على من يدخله أن يكون مرتديًا حذاء؛ لأنه كان من الشائع أن هناك طبقة اجتماعية من المصريين كانت تعمل فى البارات وفى المطاعم فى مهن التنظيف والسفرجية، والخدم، وكانت هذه الطبقات تفضل السير حافيًا، فكانوا يقومون بحيلة، وهى الذهاب كل صباح لبائع الورنيش لطلاء أرجلهم باللون الأسود. 

فنيًا، مَرّ شارع عماد الدين بـ4 مراحل؛ الأولى التحول الكبير فى نظرة المجتمع المصرى للثقافة والفنون؛ حيث أقام الفرنسيون المسارح والعروض الفنية، مدفوعين بكل قوتهم لتغيير النظرة السائدة ذلك الوقت عن فنون التمثيل ووقتها كان المصريون يخافون من التصوير.

المرحلة الثانية مع عودة أول بعثة فنية من الخارج وكان أول اثنين يدرسان المسرح والإخراج فى باريس هما العملاقان جورج أبيض وعزيز عيد، ورجعا بأفكار أثرت فى المسرح المصرى حتى اليوم، وجورج أبيض هو من أرسَى قواعد المسرح بعد أن كان يعج بالفوضى فى التمثيل والكتابة، وعزيز عيد هو المخرج الأول للمسرح بعد دراسته فى فرنسا.

وشهدت هذه الفتره ميلاد الأسماء اللامعة مثل يوسف وهبى ومنيرة المهدية، وبديع خيرى وجورج أبيض والكسار وملك المسرح الكوميدى نجيب الريحانى الذى كان صديقًا مقربًا لبديع خيرى، تزوّج الريحانى فى بداية حياته من السورية بديعة مصابنى، ثم انفصلا ليتزوج بعد ذلك من الألمانية «لوسى دى فرناى» وأنجب منها ابنته الثانية «جينا». وفى أواخر أيامه أصيب بالتيفود كما شخّصه الأطباء، وقد بكته بديعة بحرقة شديدة لمّا مات، رغم الخلافات بينهما.

وثقل أيضًا ازدهار شارع عماد الدين بتواجد سيد درويش الأب الشرعى للموسيقى المصرية والعربية وأحد أعظم الموسيقيين فى مصر، كان درويش شارك فى ثورة 1919، يخرج ويتصدر المشهد فى المظاهرات، ويعمل على استنهاض الحس الوطنى، كما كان أيضًا ثائرًا حقيقيًا بأعماله الفنية، غيّر مفهوم الغناء وتطرّق لموضوعات لم يجرؤ أحد على تناولها مثل الأغانى التى عددت مشاكل الطوائف العمالية التى اختلط بها فى بداية حياته. 

ويقال إن نصف التاريخ المسرحى المصرى تمت كتابته وعرضه فى شارع عماد الدين، وفى هذا الشارع ومع كل خطوة تخطوها كانت هناك مسارح ومطاعم وسينمات وقهاوى بطول 2,5 كيلو متر.

 ومع نشأة الأوبرا فى القرن التاسع عشر وارذهارها وبناء مسرح الأزبكية العملاق الذى تحوّل إلى المسرح القومى الآن، كانت منطقة الأزبكية كلها منطقة فنية لدرجة أنه قيل، إن الدول الكبرى كانت فى صراح سياسى على مصر وصراع ثقافى أيضًا، فكانت فرنسا وانجلترا وأوروبا من خلال عشرات الفرق الأوروبية تأتى لعرض عروضها وتأسيس مكان لها فى مصر. 

وكان عماد الدين أيضًا ميلاد العملاق محمد عبدالوهاب حينما قدّم «كليوباترا»، والمبدع حسن الأمام الذى كان يكتب أغانى لثريا حلمى، كما ظهر المونولوجست الشهير خشبة حبشى.

عام 1918 حدثت نقلة اقتصادية عظيمة فى مصرلسببين، انتصار القطن المصرى فى الحرب العالمية، وزيادة الطلب عليه بشكل كبير بعد  اكتشاف المدير الفرنسى لأحد مصانع محمد على بحى بولاق، القطن طويل التيلة فقفز سعر القنطار من 7 إلى 18 ريالاً.

كيف أثر ذلك على شارع عماد الدين؟ 

كان الأعيان وتجار القطن أصحاب المحالج الإنجليز ينزلون القاهرة لزيارة شارع عماد الدين لشهرته، استهوى الشارع أصحاب الأملاك والعُمَد وبعد فترة صغيرة انتقل العُمَد والكثير من هذه الفئات إلى نقل حياتهم إلى الشارع وامتلاك وحدات سكنية لعائلاتهم، وبذلك سيطرت على ثقافة الشارع فئة جديدة لها ذوق مختلف وثقافة مختلفة.

وهى ما أجبر رواد عماد الدين على أن يقدموا نوعًا خاصًا من الفنون تتسم بالطابع الريفى  الكوميدى البسيط، وهو ما دفع على الكسار أن يختلق ويستمر فى شخصية واحدة بسيطة مضحكة لمدة 10 سنوات وهى شخصية عثمان، وما أجبر الريحانى على عمل شخصية كشكش بيه لمدة 12 سنة.

كاتب هذه العبقريات هو «أمين صدقى» والده مصرى ووالدته فرنسية، فيقال إنه كان يكتب المسرحيات الكوميدية الساخرة هذه فى 3 أيام ويعرضها الممثلون العباقرة فى 3 أيام أيضًا.

وهناك قصة طريفة تحكى أن أحد هؤلاء العُمَد الذين سكنوا عماد الدين وتعلقوا به وبفنه هو الحاج  « سعيد الطحان» أحد أعيان طنطا  وصاحب العبارة الشهيرة  «عَظَمة على عَظَمة يا ست».

كان الطحان تاجرًا مشهورًا ومعروفًا بامتلاكه عددًا كبيرًا من المزارع والمطاحن، ورغم انشغاله الشديد بعمله إلا أنه لم يكن يفوِّت حفلات أمّ كلثوم، بل وكان يسافر خلفها أينما ذهبت، وسافر خصيصًا إلى باريس لحضور إحدى حفلاتها، وتبعها إلى بنغازى فى ليبيا وغيرها من الدول.

عُرِفَ عن سعيد الطحان هوَسه الشديد بأمّ كلثوم، الهوَس أودى به فى النهاية إلى حافّة الإفلاس والمرض، واعتاد الطحان حضور حفلات أمّ كلثوم منذ أن كان شابًا فى العام 1935، كما اعتاد على اصطحاب عائلته لحضور حفل أول خميس من كل شهر.

وكان الطحان يحرص على الجلوس فى الصفوف الأولى فى حفلاتها، وصار يبحث عنه فى كل حفل ويسألون عنه فى غيابه.

أمّا أمّ كلثوم فكانت تستجيب لنداء الطحان كلما طلب منها تكرار «الكوبليه» مُستخدِمًا عبارته الشهيرة الأخرى «تانى والنبى يا ست أنا جايلك من طنطا».

ويقال إنه فى حفلة قال (من تانى يا ست دنا جاااى من طنطا). فشارت إليه وقالت: «ياما عيون شغلونى لكن ولا شغالونى إلا عيونك انت» فأغمى عليه.. ويروَى أن أصل عبارة «عَظَمة على عَظَمة» تُنسَب إلى محمّد عبدالوهاب، عندما عزف عباس فؤاد عازِف الكونترباص «صولو» ببراعةٍ وعبقريةٍ، ما جعل عبد الوهاب يهتف «دى حاجة عَظَمة» إلى أن تحوّل إسم عباس إلى «عباس عَظَمة» واشتهر به فيما بعد.

ولما ساءت حالة «الطحان» المالية والصحية بعد إفلاسه زارته أم كلثوم بمنزله وأعادت إليه أرضًا باعها، وأهدته راديو ليتمكن من الاستماع إليها من دون أن يتكبّد عناء حضور حفلاتها.. ويروَى أنها منحته حق الحضور إلى حفلاتها مجانًا.

تشكيل الوعى

كان شارع عماد الدين فى ثورة 1919 منارة للوطنية، وساعد ثراء ومَجد الفن على وضع قواعد فنية تدفع بالثورة من وراء الستار، لدرجة أنه قيل إن الوزارات كانت تقام وتتشكل فى شارع عماد الدين، وأن الأغانى الوطنية كانت تخرج من شارع عماد الدين إلى قلب المظاهرات ضد الإنجليز، وأقيمت على مسارح عماد الدين مسرحيات وطنية ثورية.

لم يكن الشارع يقتصر على الفن؛ فقد شهد أيضًا ندوات أدبية  كبرى بجانب الاجتماعات السياسية بعميق الأثر الذى شكل فى الفن وفى وعى الفنانين بالاحتلال وبالقضية الوطنية، واجتمع على مقاهى عماد الدين أحمد شوقى وخليل مطران ومحمد تيمور، وكتب للشارع أمير شوقى مسرحية «الست هدى»، وتوفيق الحكيم كتب على بابا وخاتم سليمان.

بعد ثورة 1919 دخل عماد الدين مرحلة من مراحل الركود أن تحوّل الأمر إلى السينما وتوفى سيد درويش وتدهور نجيب الريحانى، وظل الكسار يقدم عروضه فى شخصية عثمان، وجورج أبيض فى بيته، وبدأت مرحلة جديدة عندما اكتشف يوسف بيه وهبى عزيزة أمير، وأخرج أول فيلم ستيفان روستى بمساعدة عبدالسلام النابلسى. وانتقلت الأسماء اللامعة من شارع عماد الدين إلى شارع الهرم، أى من المسرح إلى شارع السينمات، مع عودة الفنانين الدارسين للسينما من أوروبا مثل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف، بدأت الروح الفنية تعود إلى شارع عماد الدين.

بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952 وتأميم العديد من المنشآت المملوكة للأجانب بمقراتها بشارع عماد الدين، وتم تخصيص تلك المنشآت لشركات التأمين المحلية والتى قامت بدورها بتأجير الشقق التى غادر معظم ملاكها الأصليون مصر لشركات من القطاعين العام والخاص، ومنذ ذلك الحين بدأ شارع عماد الدين يفقد رونقه لأن العديد من المسارح ودور السينما أغلقت أبوابها وتحوّل النشاط بالشارع لتجارة التجهيزات الكهربائية.

وفى بداية الثمانينيات من القرن العشرين تم تأسيس سينما كريم كأحد مجمعات دور السينما وهو الأمر الذى تكرر بعد ذلك فى أماكن عديدة وفيما بعد تجديد سينما كوزموس مما أعاد لعماد الدين جزءًا من شخصيته السابقة.