الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

«‎إيـزافيتـش واستـانبيلـوس» السيـــاســـة.. والزمـن والذكريـات

نجيب محفوظ والأبنودى والغيطانى
نجيب محفوظ والأبنودى والغيطانى

غيرت جائحة كورونا كثيرًا من مَظاهر الحياة التى عرفتها شعوب العالم، وفى مصر، تغيرت عادات رواد المقاهى، واختفت سحب الدخان بعد منع الشيشة خوفًا من الوباء. 



ولم تعد مُشاهدة الزحام المعتادة داخل المقاهى مثلما كانت قبل الجائحة، كل ذلك يعد دافعًا لاسترجاع تاريخ المقاهى الشهيرة فى مصر وحكاويها. 

المقاهى فى مصر تاريخ وسياسة.. خرجت من المقهى حركات التحرُّر الوطنى.. وتحولت بالزمن إلى نوادى مثقفين وحكايات ونوادر «ريش» كانت خير شاهد على 100 سنة ثقافة وظهرت إستامبينوس  بوصفها نموذجًا للقاهرة الكوزمولبنانية. فى الندوة الثقافية حياة أما مقهى عبدالله الشهيرة  بالجيزة، فكانت قبل أن تتلاشى معالمها ملفًا كاملاً لمرحلة ثقافية سياسية من تاريخ مصر زمان. 

هذه قصص من المقاهى المصرية وتفاصيل مستعادة تُروَى.

 

ذاعت شهرة «‎إيزافيتش واستانبيلوس» خلال القرن الماضى، وتحديدًا فى الفترة من الأربعينيات حتى الستينيات. كل منهما مَعلم من معالم وسط البلد بالقاهرة، ورغم هذه الشهرة؛ فإن المتاح عنهما من معلومات قليل مقارنة بدورهما السياسى والثقافى خلال فترة ثرية من تاريخ مصر.

 

وكان «‎إيزافيتش» بالقرب من مقهى زهرة البستان بشارع محمد محمود بوسط البلد حاليا مملوكًا ليوغسلافى، فى حين كان «استانبيلوس» مملوكًا ليونانى، وشهد كل منهما أحداثًا ثقافية وسياسية شهيرة، أشهرها انتفاضة الطلبة سنة 1946.

إيزافيتش.. مطعم ومقهى

تاريخ إيزافيتش عبارة عن بعض جمل متناثرة بين مقالات الكتاب وبعض التقارير الصحفية، وكلها تدور فى فلك ما كتبه الروائى الراحل «مكاوى سعيد» فى كتابه «مقتنيات وسط البلد»، و«محمد عبدالواحد» فى كتابه «حرائق الكلام فى مقاهى القاهرة».

وإيزافيتش كان واحدًا من أشهر مقاهى القاهرة حتى السبعينيات فى أحد الشوارع المتفرعة من التحرير، وكان صاحبه لاجئًا سياسيًّا من يوغسلافيا، وأحد أشقاء ثلاثة جاءوا إلى مصر، فارين من النظام الشيوعى وكان أكثرهم اهتمامًا بالثقافة.

أسَّس المقهى على ناصية شارع محمد محمود، وانقسم المقهى قسمين: مطعم ومقهى، وأصبح ملتقى لأهم المثقفين من الأربعينيات لدرجة اعتباره واحدًا من معالم القاهرة «الخديوية»، وكان شاهدًا على فترة زمنية مهمة فى مصر. 

على مقاعد إيزافيتش القليلة، التقى مثقفو الأربعينيات وكُتبت قصائد وتوهجت قصص حب ودارت معارك فكرية وأدبية وسياسية.

كان رواده «سيد خميس، الأبنودي، إبراهيم فتحي، أمل دنقل، يحيى الطاهر عبدالله، سيد حجاب، بهاء طاهر ومحمود ياسين، صلاح عيسى، إبراهيم أصلان ونجيب محفوظ».. 

فى الأربعينيات كان «إيزافيتش» مقرًا لأحداث الطلبة 1946، التى كان شعارها «يحيا الطلبة مع العمال»، التى شهدت مجرياتها «حادثة كوبرى عباس الشهيرة»، حين فتحت قوات الاحتلال الكوبرى خلال مرور المتظاهرين، ما أدى لسقوط عدد منهم فى النيل!

إيزافيتش كان متعدد الانتماءات.. أو هو جمع كل الانتماءات الحزبية فى مصر وقتها.. فكان ملتقى المنتمين لـ«الطليعة الوفدية»، وبعد ثورة يوليو، توافد عليه مثقفو الثورة وعلى رأسهم لويس عوض.

وعام 1971 كان مقرًا لرءوس اعتصام الطلبة المطالبين بمحاكمة المسئولين عن 1967، وتولى السادات المسئولية وكتب فيه «أمل دنقل» قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية»: «أيها الواقفون على حافة المذبحة، أشهروا الأسلحة، سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة». 

فترة النضج والازدهار كانت من 1957 وحتى 1974 تقريبا، وهى فترة شهدت ميلاد كثير من الأدباء والفنانين مثل: حسن سليمان ولويس عوض، الذى من فرط تأثره بالمقهى، أهدى كتابه «بلوتو لاند» إلى «الفتيات الضاربات على الآلة الكاتبة، وإلى آكلات الساندوتشات من إيزافيتش»، قاصدًا تخليد حركة 1971. 

وكتب الراحل «عبد الرحمن الأبنودى» عن أشهر جرسونات «إيزافيتش» عم جمعة قصيدة قال فيها: «عم جمعة جرسون قهوة إيزافيتش.. الأسمر.. أبو وش يهش ينش الكلمة الوحشة بره العش». 

أصبح مقهى «إيزافيتش» مجرد ذكرى، وحل مكانه معرض سيارات، بعد أن كان شاهد عيان على مرحلة تاريخية وثقافية مهمة من تاريخ مصر، وآخر ما يتداوله المثقفون والمهتمون بتاريخ القاهرة على مواقع التواصل، أن باقى أفراد عائلة إيزافيتش مؤسس القهوة يقيمون بدولة النمسا حاليا.

مقهى صالح مرسى

يضع تاريخ مقاهى مصر، بيوت الثقافة والوعى فى زمن ما، مقهى استانبيلوس فى مكانة واحدة مع مقهى «متاتيا» القديم بالعتبة، الذى راح زمنه بعدما تهدمت العمارة التى حملت نفس الاسم وأُقيم مكانها جراج الأوبرا حاليا، استعاد كثير من المصريين الأحاديث والتساؤلات عن استانبيلوس بعدما كانت ركنًا فى ملحمة «رأفت الهجان» للكبير الراحل صالح مرسى، تناولت المقهى تفاصيله باستفاضة، حتى إنه أفرد فصلًا من الرواية بعنوان «استانبيلوس» تحدث فيه عن المقهى وصاحبه وابنه. 

مثله مثل قهوة متاتيا يتميز بطابع خاص... يحمل سمات المقهى المصرى الصميم، فهناك لاعبو الطاولة والدومينو وأحيانا الشطرنج، وكان هؤلاء لهم ركن خاص بهم لا يرتاده إلا اللعيبة».

وهناك ركن ثالث للسياسيين، الأصدقاء الألداء المختلفي المذاهب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والذين لا يكفون عن المناقشة لحظة، ويتبارون بالأحداث والأحزاب التى ألغيت ويعيّر بعضهم بعضا بالوقائع فى صيحات متشنجة». 

وينتقل صالح مرسى إلى الصحفيين قائلا «أما ركن الصحفيين والأدباء، فكان مجاورا لركن السياسيين، كان منهم من يحترف الصحافة أو الأدب لكنه يمارس السياسة، ومنهم من كان يحترف السياسة ويتخذ من الصحافة وسيلة... وهؤلاء كانوا أكثر الأركان هدوءا، وأشدها صخبا لو احتدمت المناقشة حول موقف أو قصيدة أو قصة نشرت». 

وعندما يصل صالح مرسى إلى ركن اليهود فى «استانبيلوس»، يقول: «يبقى ركن اليهود! كان مجاورا لذلك الساتر الخشبى الأخضر اللون، والذى يفصل المقهى عن البار... يتميز بشىء خاص، وهو أن كل فرد من رواده، لا بد أن تكون له علاقة بأحد الأركان الأخرى... كان منهم صحفيون، ومنهم أصحاب مزاج، ولعيبة طاولة ودومينو، ومنهم التجار... لكن الواحد منهم لا بُد أن يعود دائما إلى ركن اليهود آخر اليوم لممارسة حياته الحقيقية بين بنى جلدته... من المستحيل أن تجد منهم من يعمل عملًا واحدًا، أو يشغل وظيفة واحدة، وكانوا جميعا مهتمين أشد ما يكون الاهتمام بكسب المال!... كان هذا الركن سجنًا لأصحابه رغم أن منهم من ولد وعاش وتربى فى مصر، وغالبا ما كانوا يتهامسون ويعقدون الصفقات ويختلفون ويتشاحنون، وقد تعلو أصواتهم ويتبادلون الاتهامات، ثم يعودون مرة أخرى متلاصقين، حتى أطلق عليهم أحد أدباء المقهى اسم «المتلاصقون المتنافرون»! 

أما العاملون فى المقهى، فكان لهم نصيبهم الوافر من الوصف الدقيق خصوصا صاحبه، الجرسونات من ذلك النوع الذى يرتدى البنطلون الأسود والجاكيت الأبيض و«البابيون»، فى الناحية الأخرى خلف الساتر الخشبى، كان اسم البارمان «مانولى خرالامبو»، وجميعا ينادونه «مانو» فقط.

أما نجم المقهى والبار فهو الخواجة «استانبيلوس» صاحب المقهى، اليونانى الأصل، ذو اللكنة التى كانت من علامات المجتمع المصرى ذلك الحين.

فى البداية كان هناك استانبيلوس الأب، ثم جاء من بعده «استانبيلوس» الابن الوسيم المتفجر بالحيوية والسخرية معا... ابن البلد الدون جوان العاشق للنميمة. 

وفى موضع من رواية «رأفت الهجان» يشير صالح مرسى إلى مكان المقهى بقوله «وكان إفرايم أثناء المشوار الذى قطعه مع الفتى من شارع سليمان باشا حيث مقهى وبار «استانبيلوس».. إلى ميدان العتبة الخضراء حيث محل سوسو الساعاتى سيرا على الأقدام». 

فترة نشاط وازدهار «استانبيلوس» كانت خلال الأربعينيات والخمسينيات وربما الستينيات، أما النشأة فإنها فى الغالب توازى أو تضاهى كلا من إيزافيتش ومتاتيا زمنيا، وربما فى مرحلة وسطى بينهما، أى أننا نشير هنا إلى الفترة من 1880 حتى 1920 تقريبا، حيث نمط مقاهى ذلك العصر شديد التشابه مهما اختلفت الأسماء.