الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«روزاليوسف» وذكريات مع عبدالوهاب!

«روزاليوسف» وذكريات مع عبدالوهاب!

فى بيت السيدة «روزاليوسف» والذى كان فى الوقت نفسه مقرًا لمجلتها حصل الموسيقار والمطرب الشاب على شهادة ميلاده الفنية. كان يومًا لا ينسى فى تاريخ «عبدالوهاب» وظل يتذكره دومًا، بل إن السيدة «روزاليوسف» خصصت له بضعة سطور رائعة فى كتابها «ذكريات».



 

تقول «روزاليوسف»: «كنا نقيم من حين إلى آخر سهرات يجتمع فيها الأدباء والنقاد، وأقمنا ذات ليلة حفلة كبيرة كلفتنا ثمنًا ناءت به ميزانية المجلة فى ذلك الوقت، وهو خمسة جنيهات! وقررنا أن ندعو إلى السهرة «شوقى» - أمير الشعراء - والعقاد والمازنى وتوفيق دياب وبعض الكتاب الآخرين.

وكان العقاد والمازنى فى ذلك الوقت يتزعمان حملة شديدة على «شوقى»، وكان اجتماعهم يبدو أمرًا مستحيلاً، ولكنهم اجتمعوا! ودعوت أيضا الأستاذ «محمد عبدالوهاب» وكان لايزال ناشئًا، وغنى عبدالوهاب فى تلك الليلة الدور القديم «قده المياس زود وجدى»، وفى جو السهرة الجميل وتحت تأثير إنشاد «عبدالوهاب» الساحر، تصافى الأدباء الكبار، وخرج العقاد وقد استبد به الطرف لينشر فى البلاغ فى اليوم التالى أبياتًا من الشعر يحيى عبدالوهاب أذكر منها:

«إيه عبدالوهاب إنك شاد

يطرب السمع والحجا والفؤادا

قد سمعناك ليلة فعلمنا

كيف يهوى المعذبون السهادا».

وتحكى السيدة «روزاليوسف» عن بداية معرفتها بعبدالوهاب، عندما قرر الفنان عبدالرحمن رشدى الانفصال عن فرقة جورج أبيض، ليكون فرقة مسرحية خاصة به، وفى هذه الفرقة ظهر صبى ضئيل الجسم خجول يمتاز صوته الصغير بحلاوة لا تخطئها أذن اسمه محمد عبدالوهاب، وتكمل «روزاليوسف» الحكاية بقولها:

أخذ عبدالرحمن رشدى الصبى محمد عبدالوهاب مع الفرقة فى رحلتها إلى الصعيد، وكان محمد عبدالوهاب كما قلت ضعيف البنية نحيلا صغيرا فأصبح عبدالرحمن رشدى له طوال الرحلة كالمربية للطفل الصغير، يخلع معطفه الكبير ليدثره به إذا هبت البرودة ويشرف على نومه وغطائه وطعامه!

أما أول لقاء لـ «روزاليوسف» الممثلة الناشئة بعبدالوهاب فقد حدث فى مناسبة طريفة ترويها «روزاليوسف» قائلة:

كانت الفرقة تمثل رواية «الموت المدنى» وكانت الممثلة الناشئة «روزاليوسف» تمثل دور بنت صغيرة، وكانت تمثل دور أمها ممثلة أخرى اسمها «جميلة»، ثم حدث أن مرضت الممثلة «جميلة» وأسقط فى يد الفرقة وأخيرا قرر عبدالرحمن رشدى أن يمثل محمد عبدالوهاب دور البنت الصغيرة وأن تكون الممثلة الناشئة أمه أو بالأحرى أمها!

وفعلا ألبسوا محمد عبدالوهاب فى أول دور تمثيلى له فستانًا رشيقًا، نفس الفستان الذى كانت الممثلة الناشئة تؤدى به الدور، ووضعوا على رأسه شعرًا طويلاً مستعارًا، تنسدل على كتفيه ضفيرتان طويلتان مربوطتان بشرائط لامعة.

وأذكر أن الممثلة الناشئة «روزاليوسف» ومحمد عبدالوهاب فشلا معًا فى هذه الليلة، وكان مبعث الفشل الرئيسى ارتباك محمد عبدالوهاب على المسرح كلما تحرك تحركت ضفيرتاه خلف ظهره!

ولكن محمد عبدالوهاب أتقن فن التمثيل فيما بعد وأتقن فن الإلقاء بالذات.. كيف ينطق وأين يقف بالكلام وكيف يمضى فى الحديث دون أن يتعب حنجرته أو يتعب آذان المتفرجين».

هذا الحماس والإعجاب بعبدالوهاب لم يمنع «روزاليوسف» من توجيه نقد مؤلم وعنيف له، وقد وضح ذلك فى مقالها «لماذا يا عبدالوهاب» فى مجلة «روزاليوسف» يناير 1955 وفيه تسترجع بعض ذكرياتها عنه ثم تقول:

عرفته منذ زمن بعيد.. سمعته يغنى لأول مرة فى مسرح «برنتانيا» سنة 1917 على وجه التقريب، كنت لاأزال فتاة صغيرة، أما هو فقد كان يقف على خشبة المسرح بقوامه المرتجف الناحل وبنطلونه القصير.. يغنى قصيدة للشيخ سلامة حجازى.

كان الصبى الصغير يحاول جاهدًا أن يؤدى هذه القصيدة التى تناسب حنجرة سلامة حجازى القوية، وارتفع صوت أحد المتفرجين بجوارى يصيح:

إيه الصرصار اللى جايبينه ده؟!

وأذكر أننى اشتبكت مع هذا المتفرج فى مناقشة حادة، وأننى انطلقت أدافع عن الصبى الصغير فى حرارة بالغة، ذلك أننى كنت أيضا صاحبة صوت خافت نحيف، وكنت أسمع أحيانًا بين المتفرجين من يقول عنى: إيه الصرصارة دى؟!

وبعد سنة أو سنتين من هذه الواقعة فى سنة 1920 تقريبا اجتمعت مع الصبى الناشئ فى عمل واحد فتعاونا وتوثقت الصلة بيننا.

ومرت الأيام، مرت الأيام وأنا أتابع فى حرارة وإعجاب تطوره من حسن إلى أحسن وجهوده فى إدخال كثير من التجديدات على الموسيقى المصرية والارتفاع بمستواها، وبقيت على موقفى منه منذ تلك الليلة الأولى التى سمعته فيها يغنى على مسرح «برنتانيا» أدافع عنه إزاء كل نقد، وأتحمس له وأفضله على جميع المطربين والمطربات حتى على أم كلثوم!

وكثيرًا ما كانت تقع المناقشات بينى وبين أنصار أم كلثوم، فكنت أقول لهم أننى أفضله لا لأن صوت أم كلثوم ضعيف، أو لأن أداءها ردىء فهى ولاشك مطربة نادرة الصوت والأداء، ولكن لأننى أشعر وأنا أسمع أم كلثوم بأنها تحرق نفسها وتبذل كل مشاعرها وعواطفها فى جهد مرهق لكى تؤدى ألحانها، الأمر الذى يترك فى نفسى شعورًا بعدم الراحة، فى حين أننى أجد هذه الراحة حين أستمع إلى صوته المنطلق على راحته فى صنعة ودقة وإحكام لا تتوافر فى غيره.

وكنت أجد فيه ميزة أخرى أعتقد أنها على درجة كبيرة من الأهمية.. فقد سبق غيره من المغنين فى ترك المعانى التافهة والكلمات السخيفة والانصراف إلى تلحين المعانى العذبة السامية.. كان يغنى كلمات «شوقى» حين كانت سائر الأغانى تدور كلها حول معانى الغزل التافه الرخيص، كان يغنى بلبل حيران، فى الليل لما خلى، النيل نجاشى، يا جارة الوادى، ثم اتجه إلى إنتاج الشعراء المعاصرين فغنى الجندول.. وكليوباترا.

وكنت لا أقنع منه بذلك، بل أطالبه بالمزيد وأقول له إنه بعد أن كبر ونضج ورسخت قدمه فى عالم اللحن والأداء أصبح من واجبه أن يعد إنتاجًا فخمًا يبقى بعده ويعرف به، كان يلحن مسرحية كبيرة مثل مجنون ليلى أو مصرع كليوباترا وغيرهما.

وقد كنت أحسب أن نضوجه الفنى وتقدمه فى السن سوف يحمله على الانصراف إلى نوع أكثر جدًا من الإنتاج، ولكننى فوجئت بحملات النقد الموجهة ضده تتزايد وبأنى أصبحت عاجزة فعلا عن الدفاع عنه! وأخذت أتأمل المقطوعات الحديثة التى يقدمها هذه الأيام، المقطوعات من نوع: تراعينى قيراط أراعيك قيراطين، قلبى بيقولى كلام والناس بتقولى كلام، افتكرنى.. افتكرنى إلى آخره!

ووجدت أن الآية قد انقلبت فعلاً، فبعد أن كان فى شبابه يغنى أبيات شوقى أصبح الآن يؤدى كلاما تافها لا معنى له، لا هو بالخفيف الدم حتى يكون «مونولوجًا» ولا بالرفيع المعنى حتى يكون أغنية!

وبعد أن كنا نجد فى كل لحن له شيئًا جديدًا، أصبحنا نشعر بأنه يلقى الكلام إلقاءً أو بأنه يؤدى نوعًا من الروتين لا اهتمام فيه ولا مبالاة.. وأصبحت أنا شخصيًا لا أجد فى ألحانه شعور الراحة أو الألفة التى كنت أجدها من قبل!

والغريب أنه اتجه إلى هذا المستوى الهابط فى اختيار الأغانى فى الوقت الذى فتحت فيه أم كلثوم آفاقا جديدة واتجهت إلى تقديم ألحان رفيعة من كلمات شوقى وحافظ إبراهيم ورباعيات الخيام!

وتتساءل السيدة «روزاليوسف» فى نهاية مقالها:

«فلماذا.. هل تراه يتصابى فيحاول أن ينافس بهذه الألحان شادية وسعاد مكاوى؟!

أم هو قد أصبح تاجرًا فقط، كما يقولون، فهو يريد الكلمات الزهيدة السعر السهلة التلحين؟! أم أنه الإعجاب بالنفس زين له أن براعته فى التلحين تغنيه عن حسن اختيار الكلمات التى يلحنها؟!

لماذا.. لماذا يا عبدالوهاب؟!

انتهى المقال الموجع والممتع للسيدة «روزاليوسف»!