الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مشوار الميكانيكى!

استيقظت اليوم فى حالة غريبة، تشعر بتوتر شديد بدون أسباب، ربما لأنها حلمت بوالدتها، ولم تكن تريد للحلم أن ينتهى، رن هاتفها، رقم تعرفه جيدا، لطالما رأت هذا الرقم على هاتفها، إنه الحبيب الذى كان، كان الأمل، كان الأمان، كان الضحكة من القلب التى تهون عليها سخافة البشر والأيام.



فى وجوده لم تحمل يوما هما، حتى لمشوار الميكانيكى، أو التراخيص، أو غيرها من الالتزامات المرهقة غير الآدمية التى يعانى منها الناس، كان رجلا، فكانت بجانبه امرأة.

عندما رن الهاتف برقمه تذكرت فى لحظة تلك الأيام، تذكرت كيف كانت وكيف أصبحت، عندما تركته، ظلت شهورا فى المنزل، لا تذهب لأى مكان، كأنها ضاعت للتو من أهلها، لم تعرف طريقا للسكن!

لماذا يتصل الآن؟، لن ترد، لن تدخل مرة أخرى تحت أجنحته، فلقد صنعت لنفسها من جلود الأسواط التى جلدتها أجنحة تكسوها، تطير بها كيفما تشاء وتحميها وقتما تشاء. 

الغريب أنه يتصل اليوم وهى تنوى الذهاب للميكانيكى، زينهم الميكانيكى، الذى تعودت الذهاب له مع والدها منذ كانت فى السابعة عشرة، ثم معه والآن ستذهب بمفردها، لقد قررت أن زينهم من سيقوم بصيانة العشرة آلاف لسيارتها، لن تذهب للتوكيل، فهم مستغلون، يفعلون من  الحبة قبة.

ستذهب لزينهم الذى تعودت عليه وهو يعرفها، زينهم عشرة العمر..

وصلت لزينهم يستقبلها بابتسامة واسعة، «أهلا يا دكتورة، إيه الغيبة الطويلة دى، أومال فين الأستاذ»، تبتسم محاولة التستر على ارتباك أحدثه السؤال، «سافر»، تتسع ابتسامته لا تعرف لماذا، هل زينهم يحبها حبا صامتا طوال هذه السنوات وكان الأستاذ عائقا!! أم أنه كان يحب الأستاذ وعلاقتها به كانت هى العائق؟!!!

المهم لم تطل التفكير فى تبرير تلك الفرحة التى ظهرت على وجهه، «بص يا زينهم أنا عايزة أعمل صيانة العشر آلاف، وبعد كده هعمل عندك الصيانة على طول مش هروح توكيلات»، «أوى أوى، حضرتك تؤمرى، طيب تعالى بقى أروح حضرتك وآخد العربية وأجيبها لك بليل»، فى دهشة ظهرت على وجهها «بليل؟!! ليه يا زينهم كل ده ؟» 

أخذ يشير بيديه يمينا ويسارا وشمالا وجنوبا «أصل ورايا شغل كتير والله ولازم أخلصه، وعشان مش عايز أكلفت العربية، ولازم أعملها لك كما يجب».

ترددت لحظات، ثم وافقت، إلا أنها قالت له «طيب أنا هركب تاكسى عشان رايحة مشوار، وهرجعلك على سبعة كدة»، بصى يا أستاذة «أخرج من جيبه بطاقة بخطوط ملونة ومزركشة «دة الكارت بتاعى، خلصى مشوارك وكلمينى، خلصت تيجى تاخديها ما كانش هجيبهالك لحد البيت، مش هو الشارع اللى ورانا؟»، هزت رأسها بالإيجاب وأعطته المفتاح وذهبت.

الساعة السابعة تتصل بزينهم فيرد عليها «زينهم الميكانيكى .. ألوووو» تتردد لحظات، ثم تمسك نفسها من الضحك، تستوعب التغيرات التى طرأت على الرجل وتقدر التطور الملحوظ «ألو يا زينهم أزيك» يعرف صوتها على الفور، «أهلا يا دكتورة»، «العربية أخبارها إيه؟»، «فل الفل»، «تصمت برهة لعله يكمل حديثه بأنه أنهى العمل بها لكنه لا يكمل، «خلصت يعنى خلاص؟»، «لا والله لسه» أصل بعت أجيب  قطع الغيار الأصلى تتوقف عن كلمة قطع غيار أصلى، فالسيارة لاتزال بشوكها كما يقولون «قطع غيار إيه يا زينهم، أنت بتغير إيه؟»،  يضحك زينهم ضحكة عالية تكاد تخترق طبلة أذنها «ما تقلقيش ماتقلقيش يا دكتورة، دى الصيانة، طقم زرفيز، على تيل فرامل على زيت»، هى لا تعلم ما هو طقم «الزرفيز» ولا غيره لكنها تثق فى زينهم، «طيب يا زينهم، خلص وكلمنى»

بعد ساعات أخيرا حادثها فى التليفون كانت الساعة الحادية عشرة والنصف «أنا تحت البيت يا أستاذة والعربية فل الفل»، «كام يا زينهم حسابك؟»، «بسيطة يا أستاذة ولا يهمك، خليها علينا»، «معلش خليها فى الكبيرة، كام؟»، «أربع تلاف جنيه بس»!!

صمتت وكأنها عجزت عن الكلام، لم تتفاجأ فقط، شعرت لوهلة أنها تحلم، ماذا تقول؟، لقد ظنت أنها توفر عندما تعطى السيارة لزينهم بدلا من التوكيل، «كتير أوى، ليه كل ده ؟»، يضحك زينهم ويقول «ما قلت لك خلى والله»، ترد عليه بتوتر «لا مش موضوع أخلى وماخليش، الفكرة أنت عملت إيه فى عربية جديدة بـ4 آلاف جنيه؟!!»، «كاتبلك أنا كل حاجة فى ورقة ومعايا فواتير»

أخذت تجمع كل الفلوس فى البيت بما فيها، فلوس الكهربا والغاز، جمعت له ثلاثة آلاف ونصف وأعطته له ووعدته بأنها ستكمل له الباقى بعد أيام، أخذ الفلوس وهو مبتسم «ولا يهمك والله خلاص ده إحنا أخوات»

تركته وهى ترسم ابتسامة مصطنعة، لا تعرف ماذا ستفعل باقى الشهر؟!!، ظلت تؤنب نفسها «يعنى حبكت الصيانة دلوقت»

جلست على السرير تفكر وتفكر وتكرر داخلها  «كله هيعدى، وبكرة هضحك على الأيام دى .…

فى اليوم التالى، ارتدت ملابسها كعادتها فى توتر وعصبية لا تعرف أسبابهما، لم تنظر فى المرآة، لقد تعودت على ذلك بعد مرور سنوات تعيش بمفردها، أصبحت تتنازل عن جزء من أنوثتها بالتدريج عاما تلو الآخر،  إلى أن وصلت لهذه المرحلة من عدم الاكتراث.

 تنزل للشارع لتركب سيارتها فتجد العجلة الخلفية والأمامية على الأرض تماما، لا تدرى ماذا تفعل فالرجل الذى كان دائما يساعدها «عم سيد» إكراما لأمها وأبيها قد وافته المنية منذ شهور، بكت عليه كما بكت على والداها.

 فقد كان الوحيد الذى يهتم بها ويطرق بابها يوميا ليسألها عن احتياجاتها، كان إذا وجد أى مشكلة بالسيارة يذهب هو ليصلحها، رغم أنها لم تكن تمانع لتذهب بنفسها للميكانيكى، لكنه كان دائما يقول لها «هيشتغلوكى لو شافوكى رايحة لوحدك».

كما أنه كثيرا ما كان يمنعها من صف سيارتها بهذا المكان بالذات، لأن أصحاب البيت على حد قوله «ما يعرفوش ربنا رغم الزبيبة اللى مغطية خلقتهم» كان يقول لها أنهم سيصفون سياراتهم خلفها ليعطلوها حتى لا تقف أمام عمارتهم مرة أخرى.

لكن من الواضح أن «عم سيد» كان طيب القلب لم يتخيل أن تصل جرأتهم لإفساد  عجل السيارة بهذه الطريقة، لكن جرأتهم جاءت من أن صاحبتها «بنت»، مجرد بنت تعيش بمفردها، زاد تأكيد هذا الإحساس عندما نزل الشاب ابن صاحب البيت لها ورمقها بنظرة تشفى قائلا لها «ماتركنيش هنا تانى عشان دى عمارتنا» فردت عليه بانفعال «ده مش شارعكم، من حق أى حد يركن فى أى مكان»، فرد عليها «لو ركنتى هنا تانى هكسرهالك مش هخرم العجل بس»!

هنا وجدت بداخلها إحساسا بغضب يجتاح أوصالها، بدأت تتحدث بصوت مرتعش، محاولة السيطرة على دموعها «أنت ماتقدرش تعمل حاجة، وهركن هنا كل يوم، ولو راجل قرب من عربيتى» وتركته وسارت مسرعة، تمسح دموعها المنهمرة من عيناها، تحدث نفسها كالعادة «أجمدى، لازم تجمدى، بكرة هتفتكرى الموقف ده وتضحكى عليه» هكذا كانت والدتها دائما تنصحها، تكرر هذه الجملة بداخلها حتى تتحقق وتضحك على الموقف.

لملمت قلبها وهدأت وذهبت لرجل يصلح الكاوتش، طلبت منه إرسال أى شخص معها لإصلاح عجل السيارة، وبالفعل أرسل  معها طفلا لا يتعدى الاثنى عشر عاما، وفك العجل وعاد به قائلا لها وهو يضعه فى السيارة، إن الأسطى يريد خمسين جنيها وأن العجل كان سليما، و«الخوابير» وضعها منظر فقط  ليأخذ منها مبلغا من المال، ضحكت وربتت على كتف الطفل التى لم تلوثه الأيام بعد وغمزت بعينيها له «ولا يهمك، خلى ربنا هو اللى يحاسبه» وأعطت له المبلغ كاملا.

ركبت سيارتها  وطارت بها، فهذا الشىء الوحيد الذى يخفف عنها، أن تركب سيارتها وتجرى بها وكأنها تسابق كل من حولها، ربما تتسابق مع أيامها، حياتها نفسها، تشعر براحة عندما تخترق الشوارع بسيارتها وسط الزحام وتتخطى السيارات الأخرى بسهولة وكأنها عقباتها ومشاكلها، لا تعبأ بإشارت بعض الرجال لها بأن تبطئ السرعة!!  أو بآخرين مما يأخذوا على عاتقهم إحباطها فكيف لفتاة أن تقود بهذه الطريقة ؟، ماذا تظن نفسها؟!

فتجد شابا أو رجلا يجرى بسيارته بجانبها محاولا  أن يسبقها وأحيانا حتى ليجعلها تصطدم فى الرصيف أو تقع من كوبرى، هكذا يؤدبها، لأنها تحاول مساواة نفسها بالرجال.. لكنها تنتصر.. نعم فى القيادة هى تعلم أنها الأفضل وتتمنى لو يتحداها يوميا العشرات لتجعلهم يشعرون بالعار، فهى تعرف كم تصل تفاهة الرجل الشرقى وكم يؤثر به أن فتاة انتصرت عليه وسبقته!.

 تنهى ما وراءها وما خرجت من منزلها له لتذهب فى نهاية اليوم لتخرج بعض الوقت مع صديقاتها، يجلسن ويتحدثن كل واحدة عن مشكلتها، فتجد مشكلاتهن بعيدة عن مشاكلها، هل لا تنتمى إليهن، أم أن تغيير حياتها عنهن جعل اهتماماتها مختلفة، هى لا تذهب للكوافير فبالتالى لا تكون مشكلتها «خناقة على لون الصبغة»، وليس لديها أب وأم ليتعاركا معها على موعد العودة للمنزل.. تمنت لو كانت تعانى من تلك المشكلة الآن، بعدما ظلت سنوات تحلم بالاستقلال بحياتها ظنا منها أنها فى مجتمع طبيعى، لا يضطهد بل يحتقر المرأة..

تترك صديقاتها وتعود بسيارتها للبيت، الساعة تعدت الثانية عشرة، وتبحث كالعادة على مكان لتصف به سيارتها فتذهب لتتحدى الشاب الذى تعاركت معه فى الصباح لتجده قد وضع أسياخ حديدية داخل الأرض وسلسلة ليجبرها على عدم الركنة أمام العمارة!!

تجد مكانا بعيدا عن عمارتها فتضعها به وتدعو الله أن تصحو من النوم لتجدها سليمة، تترك السيارة وتمشى للعمارة يظهر بواب عمارة مجاورة، ينظر لها نظرة غريبة، فتلقى عليه التحية «مساء الخير» فيرد متهكما «قصدك صباح الخير يا دكتورة»!

تتركه وتدخل البيت، تدخل غرفتها تنظر فى المرآة.. وتبكى بدون أى سبب ووسط بكائها تنظر لنفسها وتهز رأسها كأنها تتحدث لأخرى وتحاول تهدئتها.. كله بيعدى.. كله بيعدى.