السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مــن صنــع «بعبـــع» الثـــانويـــة؟!

مــن صنــع «بعبـــع» الثـــانويـــة؟!

أحيانا ما يصنع المجتمع تصورات خاطئة بالتراكم، وبالزمن. ونتيجة عوامل متباينة قد تستقر المجتمعات على مسَلمات بصرف النظر عن القيمة والمبدأ.. وبصرف النظر عن موضوعية مطلوبة.



بالتراكم تصنع المجتمعات مسَلماتها، وتستقر عليها وتنطلق منها لما بعدها من نتائج، وما يترتب عليها من مسالك.. مع أنه ليس بالضرورة أن كل مسَلمات المجتمعات صالحة.. ومع أنه ليس بالضرورة أن كل ما تعارفت عليه المجتمعات من أفكار مناسب للزمن.. وللعصر.. وللظروف.

«بعبع» الثانوية العامة واحد من مسَلمات تراكمت على حوائط المصريين، وتوغلت، واستشرت، فاخترقت خاصرة الأسرة وكبلتها، وأوقفت طلاب المدارس وسط السلالم.

النتيجة أن مفهوم التعليم اختل واضطرب, المفترض من التعلم.. فتحول المجموع هدفًا، واختفى بالتدريج الغرض من مراحل دراسية مفترض أنها فى مفهومها الواسع تأهيل للأجيال الجديدة لمساهمة مستقبلية فى حركة البناء والتنمية.

تأهيل الطالب حسب قدراته الدراسية ليست قضية أسرة.. إنما هى فى الواقع ترس فى عملية اجتماعية واسعة, لبناء دولة وفق احتياجاتها وبما يتوافق مع قدرات أجيالها.

 

استمرار تطوير العملية التعليمية والاهتمام بمستقبل الطالب
استمرار تطوير العملية التعليمية والاهتمام بمستقبل الطالب

 

(1)

خلال 30 عامًا مضت، تماهت مفاهيم اجتماعية كثيرة، وتضاربت رؤى، خلطت بين العام والخاص، وخلطت بين اللفظ والمضمون، وماهت بين المظهر والقيمة.

كل ما سبق من مسميات ليس كلامًا والسلام.

الحديث عن المعايير والمبادئ والقيم الاجتماعية ليس شعارات كما تهويمات بعضهم على تويتر، أو كما يزعم آخرون على فيس بوك.

تنهض المجتمعات بما لدى الأجيال الجديدة من قيم، وتقوم المجتمعات على ما تضيفه الأسرة لصفوفها الثانية والثالثة من معايير.

فى قضايا اجتماعية مختلفة لا بُد من مصارحة، و«الثانوية» العامة المشكلة السنوية فى الأسرة المصرية محطة مهمة من محطات المواجهة الاجتماعية الواجبة.

وصف الثانوية العامة بـ «سنة تحديد المصير» ليس وصفا موضوعيا، وتقسيم الأكاديميات الدراسية ما بعد الثانوية لكليات قمة وكليات قاع فكرة لا يصح أن تستمر فى مجتمع يعيد بناء نفسه، بالاعتماد على جهود الأجيال الجديدة فى كل المجالات.

يعنى إيه كلية «قمة»؟!

الأصل الموضوعى لوصف «كلية القمة» هى تلك الأكاديمية التى يسعى فيها الطالب لمزيد من التحصيل، بمزيد من الاجتهاد فى الطريق لمزيد من النجاح.

كلية الطب وفق هذا المفهوم ليست «قمة»، كلية «الحقوق» وفق نفس المفهوم ليست  كلية «قاع».

«القمة» هى الاتجاه ما بعد المدرسة، حيث يقدم الطالب كل ما لديه لاكتساب مهارات تؤهله لسوق العمل، بقيمة مضافة للمجتمع مساهمة فى بناء وطن.

والقمة هى مساهمة فى عملية البناء المركبة من  مواطن مؤهل قادر على الإفادة والاستفادة.

لاحظ أنه فى أزمنة سابقة كانت كليات الحقوق فى الوصف الاجتماعى «كليات الوزراء والسفراء»!!

لاحظ أنه فى أزمنة سابقة كانت كليات التجارة فى توصيف الشارع «كليات رجال المال والأعمال».

كانت العبرة وقتها بما يطمح إليه الطالب من دراسة تضيف لسوق العمل, لم تكن العبرة بما تريده الأسرة مدفوعة برغبات التباهى، وبعض مسالك المكايدة الاجتماعية فى أحيان كثيرة.

(2)

للإنصاف صنع الشارع المصرى من «الثانوية العامة» بُعبُعًا وأشكيفًا وماردًا رهيبًا خرج من القمقم ليمارس ضغوطا من العيار الثقيل على طالب نشأ دون وعى على أن المجموع أو الموت!!

طالب نشأ على وهم جمعى جعله على يقين بأن البديل الوحيد لمجموع لا يؤهل للقمم هو الانتحار من الدور السابع (كما فعلت طالبة بإحدى المحافظات)، أو الانتحار بالسم (كما أقدم طالب آخر بمحافظة أخرى).!!

بالمناسبة لو أن مجتمعا ما عمل كل أجياله الجديدة فى مجال الطب، فهو على مقاييس المعايير العلمية لا يمكن أن يوصف بالنجاح!!

لا يتصور له النجاح وطن كل أبنائه مهندسون!! ولا يمكن أن يكتب له النجاح بلد كل أبنائه أطباء أسنان!!

تتفوق المجتمعات بتنوع قدرات ومهارات أجيالها فى مجالات أكثر تنوعًا فكما المجتمعات فى حاجة ماسة إلى أطباء ومهندسين فهى أيضا فى حاجة ماسة إلى حرفيين مؤهلين.

الواقع أن جميع كليات القمة وهْمٌ صنعناه وصدقناه وأكدنا عليه ثم سقط أبناؤنا فى حباله.. فرقص بعضهم على السلالم، فيما رقص أهلهم رقصات قبائل الهوسا بصخب شديد.. وموسيقى نشاز ومعتقدات خرافية.

(3)

القمة الحقيقية لطالب الثانوية هى ما يضيف إليه، وما يضيف به الطالب بوصفه مواطنًا صالحا بوظيفة أو عملا يتقنه لصالح الآخرين.

مرة أخرى هذا ليس كلام شعارات، ولا من قبيل ملء السطور وخلاص. 

هذا الفهم الموضوعى لعملية التعلم هو ما يتعارف عليه العالم فى أوروبا وأمريكا كما فى الشرق الأدنى والأقصى. تنمية الأوطان لا تقتصر على خريجى ما يسمى بكليات القمة وحدهم.  تنمية الأوطان منظومات متكاملة فى حاجة للصانع والحرفى والمهندس والمحارب والطبيب المتخصص على حد سواء.

لذلك «فالقمة» الحقيقية هى ما تضيف إلى طالب المرحلة الجامعية من مهارات جديدة، وفق ما يحب ويرغب، لا وفق ما يمليه الأهل والمجتمع.

للإنصاف مرة ثالثة دعمت بعض الأسر المصرية الخلل فى النظرة إلى عملية التعليم بمفهومها العام، فتراكم عوار تلك النظرة عبر الزمن والسنين ليخرج لنا مسخ مشوه اسمه «بعبع ثالثة ثانوى»!!

للإنصاف مرة رابعة، لا بُد من استعادة مفهوم أن الدراسة مرحلة اكتساب مهارات ومعلومات. 

من قال إن مراحل الدراسة مجرد سنوات للاجتياز التراتبى الروتينى بصرف النظر عما اكتسبه الطالب من علوم؟!

منذ سنوات وأصوات الشارع تتعالى بدعوات لإصلاح التعليم، ودعوات لتغيير طرق التعليم ودعوات لتحويل المعادلة من «تلقين وحفظ» إلى «فهم واستيعاب».

شرعت الدولة منذ 2014 فى العمل على إصلاح المنظومة التعليمية بالكامل، بجهود جبارة لإصلاح المدارس، وإعادة إنتاج الطالب، والتوسع فى التكنولوجيا، بالتزامن مع إصلاح مناهج، وتوطين الرقمنة، وإجراءات طموحة لاعتماد تقييم شامل للطالب، على أساس التربية قبل التعليم.

فى مواجهة جهود الإصلاح، ظلت أسر كثيرة «على قديمه».

وظلت أسر كثيرة على اعتقادها بأن إصلاح التعليم يعنى بالضرورة اجتياز طلابها مرحلة الثانوية بمجاميع كبرى تحقق حلمًا مزيفًا بالالتحاق بكليات «قمة» بصرف النظر عن قدرات الطالب فى اجتياز الامتحانات.

للإنصاف مرة أخرى، لابُد من مواجهة أنفسنا بأن كثيرين ممن طالبوا بتطوير منظومة الثانوية العامة، هم أنفسهم الذين يقفون بالكلام ابن عم حديث اعتراضًا على ثمار تطوير الثانوية العامة!! طب الحل إيه؟!