السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من دفاتـر «ريـش».. مقهـى السـياسـة والــجغرافيـا والتـاريـخ

قهوة الزمن والذكريات
قهوة الزمن والذكريات

غيرت جائحة كورونا كثيرًا من مَظاهر الحياة التى عرفتها شعوب العالم، وفى مصر، تغيرت عادات رواد المقاهى، واختفت سحب الدخان بعد منع الشيشة خوفًا من الوباء. 



ولم تعد مُشاهدة الزحام المعتادة داخل المقاهى مثلما كانت قبل الجائحة، كل ذلك يعد دافعًا لاسترجاع تاريخ المقاهى الشهيرة فى مصر وحكاويها. 

المقاهى فى مصر تاريخ وسياسة.. خرجت من المقهى حركات التحرُّر الوطنى.. وتحولت بالزمن إلى نوادى مثقفين وحكايات ونوادر «ريش» كانت خير شاهد على 100 سنة ثقافة وظهرت إستامبينوس  بوصفها نموذجًا للقاهرة الكوزمولبنانية. فى الندوة الثقافية حياة أما مقهى عبدالله الشهيرة  بالجيزة، فكانت قبل أن تتلاشى معالمها ملفًا كاملاً لمرحلة ثقافية سياسية من تاريخ مصر زمان. 

هذه قصص من المقاهى المصرية وتفاصيل مستعادة تُروَى.

 

على رصيف ريش بداية الستينات
على رصيف ريش بداية الستينات

 

 

يتجاوز عمر مقهى «ريش» 100 عام، كانت النشأة عام 1914، وتأثرت مسيرة المكان وملكيته بالحربين العالميتين الأولى والثانية، فشهد تغيرات فى مساحته ونشاطه.

فترة الستينيات احتوى مسرحًا لتقديم الأعمال الفنية، كما شهد إغلاق بعد زلزال 1992.

وطوال تاريخه كان بؤرة شاهدة على عدد من الأحداث السياسية الثقافية، إضافة إلى كونه ملتقى مشاهير الأدب والفن والسياسة طوال القرن الماضى ولا يزال.

 

أعيد افتتاحه عام 2001  بعد تجديده؛ حيث ظل متوقفًا عن النشاط طوال 9 أعوام، ويقع أسفل العمارة 29، ويطل على شارع طلعت حرب من ناحية، وعلى مَمَر البستان السعيدى، فى باب اللوق بوسط القاهرة من ناحية ثانية، أمّا تاريخ نشأة «ريش»  فهى الحكاية الرئيسية.

بداية النصف الثانى من القرن الـ 19، كان شارع سليمان باشا الفرنساوى - طلعت حرب حاليا - يضم مجموعة من  القصور والسرايات، بينها قصر الأمير محمد على ابن «الخديوى توفيق»، قبل تركه والانتقال إلى قصره الجديد فى المَنيل. 

 

محفوظ وتوفيق الحكيم وأم كلثوم فى حديقة ريش
محفوظ وتوفيق الحكيم وأم كلثوم فى حديقة ريش

 

بعدها قررت إدارة التقسيم تحويل الشارع إلى مجموعة من العمائر على الطراز الأوروبى وإعادة تخطيطه مع ميدان سليمان باشا على شاكلة ميادين وشوارع  باريس. 

وتولت الشركة المصرية العقارية- حينها- بيع الأراضى، واشترت عائلة «عادا» اليهودية ألفين و553 مترًا منها أرض عمارة «ريش» مقابل 12 ألفًا و770 جنيهًا، وسجلت الأرض فى المحكمة المختلطة 1905، وأنشأت العمارة الموجودة فى دورها الأرضى المقهى.

فى عام 1908، اشترى النمساوى  «بيرنارد ستينبرج» الدور الأسفل من العمار، وأسس مقهى  جديدًا افتتحه أكتوبر 1914؛ ليكون من أوائل المقاهى الأجنبية فى القاهرة؛ حيث كان يواجه مقر إقامة جنود قوات الحلفاء خلال «الحرب العالمية الأولى». 

لكنه اضطر بعد نحو عام لبيعه لرجُل أعمال فرنساوى المسيو «هنرى ريسيه»، فأطلق اسم عائلته «ريس» على المقهى، ثم حُرِّف إلى «ريش»، المعروف به الآن.  

 

عائلة عبدالملاك تعيد تمصير ريش
عائلة عبدالملاك تعيد تمصير ريش

 

وبتصاعد «الحرب العالمية الأولى»، استدعى صاحب المقاهى لأداء الخدمة العسكرية فى جيش بلاده؛ فباعه عام 1916 للخواجة اليونانى «ميشيل بوليتس»، الذى يعمل مديرًا لمسرح «الحمراء» بالأزبكية؛ ليغر من معالم المقهى بإضافة «تياترو» إلى حديقته.

عام 1932 اضطر «بولتيس» لبيع المقهى ليونانى آخر هو «وسيلى ماتولاكس»، الذى بدوره دفعه تصاعد أحداث الحرب العالمية الثانية إلى بيعه ليونانى ثالث هو «جورج إفتانوس وسيلى» عام 1942، وظل محتفظا بملكيته وإدارته حتى 1960 قرر العودة لموطنه، فباعه لـ«عبدالملاك ميخائيل» الموظف المصرى الصعيدى بالسكة الحديد، وتوالى الزمن على المقهى حيث مازال يديره ورثة عبدالملاك ميخائيل للآن.  

 

أمل دنقل وعبلة الروينى حب بدأ من هنا
أمل دنقل وعبلة الروينى حب بدأ من هنا

 

وشهد المقهى تغيرات عديدة منذ عشرينيات القرن الماضى، ففى بداية تأسيسه، كان يمتد من أسفل عمارة عائلة «عادا» اليهودية حتى ميدان طلعت حرب وكانت له 5 أبواب، يُفتح منها 4 فى المُناسبات، والخامس مخصص لكبار الزوار. 

التغيير الأكبر فكان أحدثه اليونانى «بوليتس» المالك الثالث الذى اشتهر بولعه بالفن؛ والمسرح، فاستأجر أرضًا خالية مجاورة، وأنشأ بها حديقة خََصص جزءًا منها «تياترو ريش»؛ حيث شهد عروض فرق مسرحية شهيرة وفنانين ومطربين معروفين.

شهدت «ريش» جلسات وحكايات رواد الأدب والصحافة، منهم : طه حسين، نجيب محفوظ، حافظ إبراهيم، توفيق الحكيم، عبّاس العقّاد، يوسف إدريس، صلاح عبدالصبور، عبدالرحمن الأبنودى، صلاح جاهين، أحمد رامى، أمل دنقل، وأسامة أنور عكاشة، وأيضًا عبدالرحمن الرافعى، ثروت أباظة، أحمد طوغان، محمود السعدنى، زكريا الحجّاوى، وآخرون. 

وفى أزمنة سابقة غنى على مسرحه الشيخ أبوالعلا محمد وصالح عبدالحى ومنيرة المهديّة، وأم كلثوم فى شبابها قبل شهرتها، بينما شهد مسرحه عروضًا لفرقة عزيز عيد المسرحية وبطلته روزاليوسف.

رواد سياسيون 

 شهد «ريش» أيضًا ذكريات مشاهير السياسة والسُّلطة فى مصر والعالم العربى، واجتمع فيه: الزعيم سعد باشا زغلول،   ومريدوه، واعتاد على الجلوس عليه سنوات: صدام حسين، رئيس جمهورية العراق الأسبق خلال فترة دراسته فى مصر، وأعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا يجتمعون فى بعض الأحيان بهذا المقهى نهاية الحُكم المَلكى، وقبيل اندلاع ثورة يوليو 1952، وشهد المقهى عام 1972، حادثًَا ثقافيًا أحدث ضجة واسعة فى الوطنى العربى؛ حيث انطلقت منه انتفاضة الأدباء والمثقفين الوطنيين، احتجاجًَا على اتغيال غسان كنعانى، الروائى الفلسطينى الشهير. 

ومنه خرجت انتفاضة الطلاب عام 1972، كذلك أصدر توفيق الحكيم بيانه السياسى الشهير فى اليوم نفسه، مطالبًا فيه بإنهاء حالة «اللا سلم واللا حرب» حينها، ووقع عليــه عـــدد كبيـــر مـــن الكُتـــّاب والمُثقّفـــين.

وخلال جدل ثار بين المثقفين بخصوص معاهدة السلام عام 1977 اتخذ صاحب المقهى قرارًا بإغلاقه بسبب المناقشات والمشادات الساخنة التى دارت فيه بين مثقفين مصريين وبعضهم البعض وبعض اللاجئين والطلاب والمثقفين العرب، وبعد سنوات، واستقرار الأوضاع السياسية، أعاد مالكه فتحه مرة أخرى أمام الزبائن. 

وكان للصدفة دور  فى اكتشاف جانب مهم  من تاريخ مقهى ريش؛ حيث تسبب زلزال عام 1992 فى انهيار جزء منه، ما أدى لاكتشاف سرداب سرى خلف أحد جدرانه، وجدوا بداخله ماكينة طباعة يدويّة قديمة، كانت تستخدم لطباعة المنشورات التى تُندد بالاحتلال الإنجليزى وتوضح إحدى القصص أن مالكه كان يتعمد إقامة الحفلات الصاخبة بالمكان للتغطية على أصوات ماكينات الطباعة داخل المخبأ السرى. 

أشهر الأحداث محاولة اغتيال يوسف باشا وهبة، رئيس الوزراء المصرى ديسمبر 1919، عن طريق تفجير موكبه،  بواسطة عريان سعد؛ حيث انتظر الشاب المصرى «عريان» على «ريش» يحمل قنبلتين  موكب رئيس الوزراء المقرر مروره بشارع سليمان باشا لاغتياله بسبب حوالات الباشا للإنجليز. 

قعدات الأجانب 

 شهد «ريش» مولد قصة الحب الشهيرة بين الشاعر الراحل أمل دُنقل والأديبة عبلة الروينى؛ حيث اعتاد «دُنقل» ارتياده مساء كل يوم وحيث التقته لحوار صحفى لجريدة الأخبار، ثم توالت اللقاءات.

وصف عبدالرحمن الرافعى «ريش» بملتقى الأفندية العامة ومعَقل لمختلف الطلائع السياسية يتحاورون ويتسامرون ويتندرون ويتشاغبون؛ لكنهم غالبًا ما يتفقون على موقف فى مواجهة الملمات التى تحتاج إلى التحشّد، والوحدة الوطنية.

لذلك كان لريش مكان فى عدد من المؤلفات الشعرية والأدبية مثل ديوان «بروتوكولات حكماء ريش» للشاعر نجيب سرور. 

وجاء ذكر «ريش» فى قصيدة  «يعيش أهل بلدى» للراحل أحمد فؤاد نجم، ويسخر فى مقطع منها من شريحة المُثقفين مرتادى  المقهى.

وفى مذكرات الأديب الراحل نجيب محفوظ عن بعض الأحداث البارزة التى شهدها «ريش»، منها يوم تنحى الرئيس جمال عبدالناصر بعد يونيو 1967، قال: «مساء الجمعة، ذهبت إلى ريش، وجلست مع بعض الأصدقاء، وتحلقنا حول جهاز راديو ترانزستور فى انتظار بيان، وتحدّث عبدالناصر، ونحن فى صمت رهيب، وكان بيانًا مهيبًا، شعرتُ بعد انتهائه بأننى أصبت بشرخ فى داخلى؛ فانسحبت فى هدوء، وعدت إلى بيتى».

أمّا الأديب الراحل أسامة أنور عُكاشة فكان أحد أهم رواد المقهى، واستوحى شخصيات العمدة، والباشا فى رواية «ليالى الحلميّة» من روّاد المقهى، فضلا عن شخصية زينهم السماحى الفتوة التى استوحاها من لبنانى كان يجلس على المقهى اسمه سليم حداد.