السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
محمد عودة مفتش الكون العام لا يهادن أو يتراجع!

محمد عودة مفتش الكون العام لا يهادن أو يتراجع!

عرفت عن قرب الكاتب الكبير الأستاذ «محمد عودة» واحد من ألمع وأهم نجوم روزاليوسف، وعرفته عن قرب أكثر عندما كان يكتب فى «صباح الخير» وخاصة سلسلته الرائعة عن الثورة العرابية، وشرفنى عندما طلب منى أن أتولى مراجعتها ومتابعتها عند صدورها فى كتاب بل كتب اسمى مقرونا بلقب سكرتير تحرير الكتاب.. وتزايدت سعادتى عندما أهدانى كتابه الرائع «سبعة باشوات وصور أخرى» الذى صدر فى سلسلة الكتاب الذهبي!



 

لا أدرى عدد المرات التى استمتعت فيها بقراءة الكتاب، وفصوله الممتعة لكن هذه المرة توقفت طويلا أمام المقدمة البديعة التى كتبها للكتاب «د.يوسف إدريس» استجابة لطلب «عم عودة» - كما كنا نناديه فى روزاليوسف وصباح الخير.

مقدمة د.يوسف إدريس درس مهم فى الكتابة وقيمة من يكتب عنه، حتى لو كانت بينها مسافات أو مساحات من الخلاف فى الرأى.

يقول د.يوسف إدريس: «أعترف أنى من مدة طويلة لم أقرأ كتابا انفعلت به إلى هذه الدرجة، وأن يجىء هذا الكتاب من الصديق الفنان «محمد عودة» ليس بالأمر الغريب، فهذه ثانى مفاجأة يفاجئنى بها فى حياته، كانت المفاجأة الأولى كتابه عن الصين الشعبية، بل كانت المفاجأة الأولى فى الحقيقة هى «محمد عودة» نفسه، كان اكتشافًا لم أعمل له حسابًا قط!

فى أواخر سنواتى بكلية الطب بدأت أكتب وبدأت أتعرف على مجالس الكتاب من ذلك الحين وبالذات مجلس المرحوم الدكتور «إبراهيم ناجى» الذى كان محله المختار مقهى «ايزافتش» هناك حول سندوتشات الفول والمشروبات الرخيصة، كان يدور كلام كثير حول الأدب والفن والخلق والقصة والشعر وكنت فى العادة آخذ موقف المستمع المستغرب لكل ما يقال غير الموافق على معظمه!!

كنت قد بدأت أتطلع من بعيد إلى عالم الفن، ذلك الذى لم أتصور طيلة حياتى أننى ستكون لى به صلة، كنت قد أعددت نفسى تمامًا للعلم وبإرادة حديدية كنت قد وطنت نفسى ألا أحيد عن الطريق، فإذا بذلك العالم السحرى يخلب لبى وينتزع بصرى انتزاعًا حتى لم أعد أستطيع رؤية سواه!

ويواصل د.يوسف إدريس: فى ذلك المقهى، ومهما كان الوقت الذى أذهب فيه أو أمر من أمامه، كنت دائمًا أرى إنسانًا غريبًا جالسًا يحدق فى اللاشىء وفى كل شيء!! إنسانًا تنطبع ملامحه فى ذاكرتك منذ اللحظة الأولى وأبدًا لا تستطيع بعد نسيانه، كنت كثيرا ما أفكر فى هذا الإنسان وأحاول أن أخمن من يكون وماذا يفعل وما السر الغريب وراء تحديقه المستمر!

بعد أعوام قليلة أصبحت كاتبًا وصدر لى أول كتاب وبدأت أنا الآخر أفضفض ببعض ما أعتقده عن الفن والكتابة، وذات يوم وقع فى يدى كتاب أصفر الغلاف ما كدت أبدأ فى قراءة أول صفحة منه حتى وجدتنى قد غرقت فيه تمامًا ونسيت كل ما حولى، كان الكتاب عن «الصين الشعبية» وقصة ثورتها الطويلة المهولة بكل ما فيها من نجاح وانتكاس! قصة رائعة مجيدة تنبض بكل قوانين التاريخ وتجعل من ملامحه دراما حية، إنه التاريخ حين يكتبه فنان بارع حقًا واسع الخيال إلى درجة القدرة على تجسيد الحقائق، «كتاب حياة» مليئًا بالحياة، صادقًا إلى الدرجة التى كنت أحس فيها أنى لا أقرأ عن تاريخ الصين وثورتها، وإنما اقرأ عن تاريخ شعبى أنا وثوراته، هذا هو منتهى الصدق، وهذه هى قمة الحقيقة.

أما المفاجأة الثانية أو الثالثة فقد كانت هذا الكتاب الذى أعتز بتقديمه إلى القراء.. «أن قصة المنفى، قصة الزغلوليات، ونازلى وطبيب الولادة، هذه كلها كنوز حية كانت مخبوءة.. حافلة وغنية ودسمة ورائعة ومحبوبة وجاء هذا الكتاب ليكشف عنها الغطاء ويجسدها حية نابضة أمام أعيننا نتأملها ونستوحيها ونقف أمامها طويلا».

وأعتز أكثر أن الصديق الفنان «محمد عودة» هو الذى طلب منى هذا!

ذلك أن علاقتى بمحمد عودة واحدة من أندر وأغرب وأعقد العلاقات التى تحفل بها حياتى.. وكلمة الصديق نفسها غير كافية أبدا للتعبير عن كل ما تزخر به تلك العلاقة وتحفل، إنها علاقة خصبة غنية، أوسع وأرحب من أن تكون صداقة وأحفل من أن تكون زمالة، ومليئة بالخلافات ومتناقضات لا يمكن أن تندرج تحت باب الاتفاق الكامل!

علاقة حافلة بالشد والجذب والمحبة والغضب والوئام والاستنكار الشديد والعراك فى بعض الأحيان، ذلك إنها علاقة مع إنسان فنان، والفنان الحقيقى كون حافل، وحافل بكل ما تحفل به الأكوان من ماسات نادرة وصحارى وجبال ووحوش وغابات.. غير أن الذى أستطيع أن أؤكده هو أنها علاقة لا يمكن أن تنتهى أو تنقطع، مهما حمّلناها من أثقال.

فمحمد عودة واحد من المثقفين القليلين فى مصر الذين يؤمنون إيمانًا يبلغ حد الهوس- والهوس هنا ليس عيبا وإنما هو فى رأيى قمة الإيمان بثلاثة أشياء هى نفسها كل ما وهبت نفسى له:

وهو شعبى ومؤمن بالشعب، وهو اشتراكى ومؤمن بالاشتراكية!

تثور البراكين وتخمد، وتتزلزل الأرض وتتشقق، يتغير الحكام الكبار والصغار ويتبدلون، و«عودة» هو ذلك المؤمن العنيد بهذا الثالوث المقدس، لايتزحزح، لا يتراجع، لا يهادن، لا يغفر، وهو ليس إيمانًا أعمى ولا إيمانًا سهلاً أيضًا، إنه معركته المستمرة المتصلة مع كل الناس أحيانًا إذا اقتضى الأمر! حتى مع الاشتراكيين أنفسهم، فالإيمان عنده ليس شيئا عقليا يرتاح إليه وينتهى، إنه حياته وطريقة حياته وهدف حياته.

ويمضى د.يوسف إدريس فى رصده البديع لشخصية «محمد عودة» فيقول:

وأشهد أن عيونى كانت أحيانا تغرورق بالدموع وأنا اقرأ له بعض صفحات هذا الكتاب.. صفحات لا أدرى متى كتبها، ولا أين كتبها، ولكنى كنت أحس أن كاتبها واحد من هؤلاء الذين تصوفوا فى حب مصر والمصريين، باعوا كل شيء واشتروا هذا الحب وزاولوه، واختزنوه وعاشوا يتغذون من رحيقه.

قد تبدو مقالات كبعض المقالات، قد تبدو مبتورة النهاية فى بعض الأحيان بطريقة تغيظ وتقطع النشوة.. قد تبدو نتفًا متفرقة من كتابات «جبرتى» حديث مجنون راح يضرب فى صفحات الحاضر بحثا عن الماضى، ويجوب آفاق الماضى ليضع يده على قلب الحقيقة من الواقع الحاضر.. ولكنى هكذا أخذتها، لقد أحسست أنها جزء من لحمى أنا ودمى وعظامى، جزء منى، من ذلك الكل الكبير، من بلدى وشعبى وناسى، حتى «نازلى» - الملكة - الذكية الأرستقراطية المتعجرفة، شعَّبها «محمد عودة» ومرّدها وثوّرها وجعلها تبدو كبطلة فى أسطورة شعبية.

إن الميزة الكبرى لمحمد عودة تلك التى تفرقه عن أى كاتب سياسى آخر. أو عن أى مفكر آخر، أو مؤرخ وكاتب قصة آخر. أنه يكتب التاريخ إذا كتبه، ويصور الحاضر إذا صوره كما يحب أن يكون وكما يجب أن يكون، وربما يقال أن هذا هو عيبه الأكبر، لكنه قانون النبوغ الأوحد أن الميزة الأعظم دائما هى العيب الأعظم. وأنى هنا إنما أقدم ميزته الأعظم، أما العيب فأتركه لغيرى من الناقدين والمتناقدين.

لقد قلت مرة فى كلمة لى عن «محمد عودة» إنه الباحث عن الجوهرة المكنونة فى قلب كل شيء، إنه مفتش الكون العام، وربما من هنا يأتى تحديقه الدائم وذهوله، فهو باستمرار فى حالة بحث دائم عن جوهرة الحقيقة الكبرى من الناس والأشياء والأصدقاء والثورات والتاريخ، وكثيرا ما يئوب من بحثه خائب الأمل وتبدو خيبة الأمل واضحة تمامًا فى ملامحه وكتاباته ولكنه فى أحيان، أحيان قليلة نادرة يعود منشرح الأسارير واسع الابتسامة، قد تحددت نظراته الساهمة وقالت: وجدتها!

وأنى لأشكرك يا محمد عودة، فالآن وبعد أن انتهيت من قراءة هذا الكتاب الثانى لك أهتف أنا الآخر مرة ثانية: وجدتها!! أشكرك فلقد بلغتنى الرسالة».

وللحكاية بقية!