الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
موســى صبــرى ونجـوم علـى الأرض

موســى صبــرى ونجـوم علـى الأرض

كنت سعيد الحظ بمحاورة نجوم الصحافة المصرية وأنا مازلت فى بداية مشوارى الصحفى فى مجلة صباح الخير ومن هؤلاء كان الكاتب الصحفى الكبير الأستاذ «موسى صبرى» وقد أجريت معه أطول حوار أجراه مع صحفى واستغرق نشره ستة أسابيع فى «صباح الخير» شتاء عام 1985 ثم أعدت نشره كاملاً فى كتابى «الصحافة والثورة.. ذكريات ومذكرات».



أصدر الأستاذ «موسى صبرى» حوالى عشرين كتابا سواء فى السياسة أو الرحلات الصحفية والرواية وكذلك ذكرياته الصحفية ولعل أشهرها كتابه «50 عاما فى قطار الصحافة» وهو آخر كتبه قبل رحيله، وله أيضا ثلاثة كتب أخرى لا تقل أهمية وهى «الصحافة الملعونة» و«عشاق صاحبة الجلالة» و«نجوم على الأرض» وهو الذى أتحدث عنه الآن!

 

الكتاب صدر أول يناير عام 1970 فى سلسلة «كتاب الجمهورية» ويضم حواراته مع مشاهير الشخصيات المصرية ومنهم د.طه حسين وتوفيق الحكيم وكامل الشناوى ومحمد عبدالوهاب وفاتن حمامة ود.مراد غالب وفضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري، ومن الشخصيات الأجنبية المناضل «جيفارا» وغيرهم.

الكتاب وحواراته ممتع ومبهج كما أنه درس فى فن الكتابة الراقية خاصة مقدمة الكتاب التى عنوانها «غابة البشر» وهى قطعة من الأدب الرفيع قال فيها:

الناس هذه هى صناعة الصحفي! الناس الذين يصنعون الأحداث، والناس الذين تصنعهم الأحداث، الناس الذين يتحولون إلى نجوم على هذه الأرض!

الناس الذين يرتفعون إلى القمة، ويهوون إلى السفح.. ويتحدث عنهم الناس الذين يرقبون ويشاهدون المسرح الكبير، وقد تلتهب أيديهم بالتصفيق وقد تعلو حناجرهم بالصفير، وتدور الدورة وتعلو نجوم وتختفى نجوم، ولكن المسرح لا يبقى شاغرا أبدا.. الستار تفتح دائمًا عن رواية جديدة، عن فصل من حياة الناس.. ترويه بعدهم الأجيال ويسمونه التاريخ!

والصحفى عندما يكتب عن هؤلاء النجوم.. قارئا عنهم أو متحدثا إليهم.. ممجدا أو لاعنا.. مستبشرا أو ساخطا، فهو يقوم بدور المعلن أو الناقد، إن الإعلان لا يظهر إلا المزايا.. والنقد يسعى إلى كشف المعايب، والفرق بين الصفحتين قد أصبح مهتزأ! فإن الحقيقة صعبة المنال.. متلاعبة بأيدى طلابها.. خادعة كالسراب ولكن لا مهرب من السعي، فقد خلق الإنسان بقدمين ليخطو ويسعى وبعقل لكى يفكر ويتأمل حياته وحياة الآخرين ويكتب تاريخه!

والتاريخ الصحيح عملة نادرة! إنه حكم قضائى تصدره الجماهير.. ولسان الجماهير فيما ينطقون به من أحكام، هم أولئك الذين اختاروا مهنة البحث عن الحقيقة.. العلماء المحقيقون، والصحفيون المتسابقون إلى الأحداث ونجوم الأحداث!

وقد علمتنا التجربة أن حكم الإنسان على أخيه الإنسان لا يصدر مكتملا أبدا.. ولا يسجل الحقيقة متجردة من الهوي، ولذلك فإن حقائق التاريخ القدم والتاريخ المعاصر عرضة للتغيير والتبديل والتصحيح، فلا يزال الناس حتى الآن يشكون فى الطريقة التى اختارها «هتلر» للخلاص من حياته، أو فى السم الذى مات به «نابليون» وكم من آلاف الأبحاث والتحقيقات التى كتبها الإنسان لكى يطرح على البشر حقائق هذه النهاية لرجلين غيرا مجرى تاريخ الملايين من البشر!

ويمضى الأستاذ موسى صبرى فى مقدمته «غابة البشر» فيقول:

ولا يمكن لتحليل نفسى أو علمى لشخصية نجم من نجوم هذه الأرض أن يكون وافيا أو كاشفا لأغوار النفس البشرية، ولا يمكن للقاء صحفى مع أى من هؤلاء النجوم، أن يكون معبرا تعبيرا صادقا عما يعتمل فى الصدور، فنفس الإنسان غابة كثيفة متداخلة الجذور والفروع.. ينبت فيها الشوك والورق المسموم والجذع الصلب والشجر اللين الرخو والورود العطرة.. وهى تظل فى حناياها الطير الوديع والوحش المفترش.. نفس الإنسان كيان مسحور تتعايش فيه المتناقضات وتصطرع، وتتخلق من منطلق واحد إلى طريقين مسدودين أو متشابكين معا أو متباعدين وقد يلتئمان فجأة فى طريق واحد معبد مفروش بالزهور وقد يتقاطعان ويتحاربان بالأشواك والمتاريس.. لا أحد يدرى ماذا يعيش فى هذه الغابة المجهولة وكيف يعيش وكيف يصل بالكيان الآدمى الذى يحتويه إلى قرار.. أى قرار!!

ويضرب الأستاذ «موسى صبري» مثلا مهما بما يقوله فيوضح قائلا:

فإذا عدنا مثلا مع صفحات التاريخ إلى أكثر من أربعمائة عام قبل الميلاد إلى محاكمة الفيلسوف «سقراط».. لقد عاش طوال حياته يسخر بقانون أثينا ويتحداه ويهزأ به، وعندما قدم إلى المحاكمة أصر أيضا على أن يتحدى قوانين إثينا فى محاكمته.. وشاء أن يستفز قضاته لكى يصوروا عليه حكماً بالموت عندما قال لهم أن العقوبة التى يرى أنه يستحقها هى أن تعطيه الدولة مجانا بقية حياته «لأنه أنفق هذه الحياة فى تعليم الاثينيين وتهذيبهم.

ولكنا نجده -بعد أن سُجن - قد غير منطقه وأصر على احترام القانون ورفض أن يهرب من السجن عندما دبر له أصدقاؤه وسيلة إلى ذلك.

لقد كان فى إمكانه فى أثناء محاكمته أن يظفر بعطف قضاته ولكنه أصر على السخرية بقانون الدولة وهو يعلم أن ثمن هذه السخرية هو الموت.. ثم هو يرفض أن يهرب من السجن احتراما لقانون الدولة وهو يعلم أن ثمن رفضه هو الموت!!

أليست هذه هى صورة لغموض نفس الإنسان، يقدمها لنا التاريخ مع أول فيلسوف أثر فى حضارة الإنسان ولاتزال آثاره تدرس حتى اليوم؟!

وأخيرا ماذا فعل إنسان «القرن العشرين» لقد حاول أن يستكشف أغوار نفسه وصنع عقل الإنسان العقل الإلكترونى ولكن عرف الإنسان أنه إذا أراد أن يصنع عقلا إليكترونيا يؤدى كل المهام التى يؤديها العقل البشري، فإنه سيحتاج إلى أجهزة علمية فى حجم الكرة الأرضية (!!!)

وبهذا الفهم للحياة المعقدة التى يعيشها الإنسان، وبهذا الاقتناع بالأدوار الغريبة المتناقضة التى يؤديها الإنسان على مسرح الحياة الطويل العريض.. كنت أسعى إلى نجوم الأرض قارئا عنها.. أو متحدثا إليها أو مودعا لها وهى تغرب عن الحياة.

ويكمل الأستاذ «موسى صبري» قائلا:

ولا يستطيع الإنسان.. ومن ثم لا يستطيع الصحفى لكى يكمل حياته إلا أن يكون له موقف من أخيه الإنسان، متحمس متعاطف، أو متحمس معارض، وقد ينخدع فى مسيرته إلى موقفه! وقد يخدع ولكنه موقف على أية حال، لأننا لا نستطيع البقاء على الأرض دون أن نحدد موضعنا عليها.. وموضعنا مما عليها.. وسبيل الإنسان إلى موقفه هو عقله الغامض.. هو جهازه السحرى المغلق عليه وسبيله إلى التعبير عن موقفه هو الكلمة!!

وهذا الكتاب هو مجموعة من الكلمات.. عن النجوم ومع النجوم، إنه ألبوم مصور بعض صوره مثل لقطات الكاميرا الصحفية عندما تفاجئ نجوم الأرض فى حركة أو لفتة أو همسة، وبعض صوره مثل الرسوم تخطها ريشة على تأمل وأناة!

وأنا أطالب القارئ بأكثر من أن يقلب صفحات هذا الألبوم.. تماما كما يجيئنا ضيف عزيز ونعرض له بعض ذكريات النفس.. وأقول بعض.. لأننى لم أضمن هذه الصفحات لقاءات عديدة مع كثير من المشاهير.. لقاءات عديدة مع كثير من المشاهير.. لقائى مع «مصدق» - الزعيم الإيرانى - فى طهران فى قمة أزمته الخطيرة مع شاه إيران.. لقاءاتى المتعددة مع «عبدالسلام عارف» و«عبدالكريم قاسم» فى ثورات العراق.. لقاءاتى مع نجوم الأحداث فى سوريا.. لقاءاتى مع «فيدل كاسترو» وزعماء الثورة الكوبية.. وغير هذه اللقاءات التى جاءت فى موضعها فى مؤلف آخر من رحلاتى الصحفية، أو التى لا أزال  أحتفظ بها فى صدرى المثقل حتى يحين لها منطلق إلى النور!

ويختتم الأستاذ «موسى صبري» مقدمته الجميلة بقوله:

وبعد فكل ما أرجوه لقارئى الإنسان أن يشاركنى الفرحة والتأمل فى هذه الصفحات المسترسلة فى مزيج من الصورة والفكرة والرأى الحر.. ولكنها قد تشكل صورة للإنسان فى بعض وجوده على هذه الأرض.. والأرض تدور ونحن عليها ندور إلى أن تحتوينا قطعة من تراب ومن التراب جاء الإنسان وإلى التراب يعود الإنسان.

ثم تبقى الذكريات يتأملها قادم جديد ويكتبها لقارئ آخر فى المجهول فى الطريق لكى يحتل موضعه، وتبقى الأرض ويبقى الإنسان لكى يواجه المجهول».