الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إلهام أحمد رامى: هذه قصة «الخاتـــــم».. ولهذا غضب والدى من أم كلثوم!!

أحمد رامى مع ابنته وحفيدته
أحمد رامى مع ابنته وحفيدته

من منا لم يطرب ويشرد فى بدايات حبه على نغمات وكلمات وصوت أم كلثوم وهى تشدو وتقول «حيرت قلبى معاك وأنا بدارى وأخبى.. قوللى أعمل ايه وياك ولا أعمل إيه ويا قلبى»، ومن منا لم يغب عنه حبيب ويعود يشرد على كلمات «جددت حبك ليه بعد الفؤاد م ارتاح»، أو «هجرتك».



لم تجد أرقى أو أصدق عشقًا وتيهًا وتوحدًا من كلمات مثل «عودت عينى على رؤياك.. وقلبى سلم، سلملك أمرى»، ولأن الكلمة هى الأصل، فى البدء كانت الكلمة، ثم تلاها كل شيء، فشاعرنا الكبير أحمد رامى هو الأصل وهو البداية، وهو من نحتفى به فى ذكرى وفاته فى حوار مع ابنته المهندسة إلهام أحمد رامى، وحديث طويل عن شاعر الشباب الملهم والرقيق والمحب والعاشق.

 

 كشفت إلهام أسرارًا كثيرة عن حياة رامى، وعلاقاته وصداقاته وقصته مع سيدة الغناء العربى «أم كلثوم».

ارتبط العديد من الألقاب بالشاعر الكبير أحمد رامى، فهو شاعر الشباب، والحب، والرومانسية، وخليفة أمير الشعراء أحمد شوقى، وكلها ألقاب كانت تواكب نجاحه فى عالم الأغنية مع كوكب الشرق وموسيقار الأجيال، فمع أم كلثوم قدم أروع أغنيات الحب ورافقها طيلة حياتها، ووضع الاثنان نموذجًا فريدًا فى الحب العذرى الذى لم يكتمل بالزواج، وتحول إلى لهفة وشوق وعذاب خرجت منها أجمل وأرق الكلمات التى أطربت العالم العربى على مدى أكثر من أربعة عقود من القرن الماضى.

مع عبدالوهاب كان تلاقى الإبداع والموهبة، ربطت بينهما صداقة مبكرة فى كرمة ابن هانئ بيت أمير الشعراء أحمد شوقى كان نتاجها أعمالا غنائية رفيعة المستوى.

كان سؤالى الأول عن البدايات والنشأة وكيف أصبح رامى الذى نعرفه بهذا الإبداع؟

قالت إلهام: تنحدر أصول رامى إلى التركية، فجده لوالده الأميرالاى التركى حسين بك عثمان الكريتلى، ووالده الطبيب رامى حسين عثمان الكريتلى، وأمه سيدة مصرية من عائلة عريقة.

ولد 1892م فى بيت بحى الناصرية على مقربة من حى السيدة زينب، وكان أبوه طالبا فى مدرسة الطب وشغوفا بالفن والأدب، حيث كانت تجتمع فى بيته كوكبة من أهل الفن والأدب.

وبعد تخرج الأب فى كلية الطب عينه الخديو عباس الثانى طبيبًا لجزيرة «طاشيوز» الصغيرة التى كانت ملكًا خاصًا لعباس الثانى قبل أن تستردها اليونان بعد ذلك، عاش فيها شعراء الإغريق العظام هوميروس وهيرودوس.

ذهب رامى إلى هذه الجزيرة وعمره سبعة أعوام وقضى فيها عامين ليتفتح خياله على غابات اللوز والفاكهة والبحر واللعب بين مروج النرجس وليعيش حيث عاش شعراء اليونان الأقدمون.

وخلال هذين العامين تعلم التركية واليونانية، ثم عاد وحيدًا إلى مصر ليلتحق بالمدرسة بعد أن ترك أبويه فى طاشيوز، وأقام عند بعض أقاربه فى بيت يقع فى أحضان مقابر الإمام الشافعى.

كانت لقريبه هذا مكتبة عامرة آنس إليها رامى وراح يقضى بها معظم وقته، وتصادف أن كان أول كتاب قرأه رامى «مسامرة الحبيب فى الغزل والنسيب» وهو مختارات من شعر العشاق والغزليين، ونستطيع أن نؤكد أن هذا الكتاب قد قرر مصير الفتى وحكم عليه بالسير دومًا فى طريق العشق والعاشقين.

فى هذا الوقت عرف رامى جمعية «النشأة الحديثة»  والتقى بمجموعة من فحول الأدباء، وفى الرواق الأسبوعى للجمعية قرأ أول قصيدة وهو فى الخامسة عشرة من عمره وكانت وطنية يقول مطلعها : «يا مصر أنت كنانة الرحمن.. فى أرضه من سالف الأزمان».

وعام 1910 نشرت مجلة الروايات الجديدة أول قصيدة له ومطلعها «أيها الطائر المغرد رحماك... فإن التغريد قد أبكانى».

حصل رامى على البكالوريا 1911 وفكر بعدها فى الالتحاق بكلية الحقوق ولكن حبه للأدب دفعه إلى الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا تخرج فيها عام 1914.

عُين رامى بعد تخرجه مدرسًا بمدرسة القاهرة الابتدائية.. وبعد عامين انتقل إلى مدرسة القرية الأميرية وكان يدرس الإنجليزية والجغرافيا والترجمة، ثم انتقل إلى مدرسة المعلمين العليا التى تخرج فيها ليعمل أمينا لمكتبتها، وفى تلك المكتبة قرأ فى شتى المجالات بالعربية والإنجليزية والفرنسية، خاصة أنه قد أصبح شاعرا معروفا.. واتصل بكبار الشعراء وعلى رأسهم شوقى وحافظ وخليل مطران، وإن كان أكثر ميلا إلى حافظ وأكثر قربا منه إنسانيًا.

عام 1918 أصدر رامى ديوانه الأول الذى أثار جدلًا  كبيرًا بين رواد المدرستين القديمة والحديثة حيث جاءت قصائد الديوان رومانسية ظهر فيها رامى أكثر تحررًا من شعراء الكلاسيكية ولكنه أقل جرأة من معاصريه الرومانسيين.

وفى عام 1920 صدر ديوانه الثانى، وفى عام 1923 صدر الثالث وقد صدرت هذه الدواوين بمقدمات لكبار الشعراء أحمد شو قى، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم.

أرسلته فى ذلك الوقت مدرسة المعلمين العليا فى بعثة إلى فرنسا لدراسة فن المكتبات، وهناك قرأ رباعيات الخيام فوقع فى هوى هذا الشاعر الفارسى العملاق، وقرر أن يدرس اللغة الفارسية والتحق بالسوربون لدراسة اللغات الشرقية.

ورامى أول من نقل رباعيات الخيام شعرا إلى العربية من الفارسية مباشرة؛ حيث تمت ترجمتها أكثر من مرة إلى الإنجليزية كما تمت ترجمتها أكثر من مرة نثرا وبذل رامى جهدا كبيرا فى ترجمة رباعيات الخيام وذلك لوجود الكثير من الرباعيات المدسوسة على الخيام.

ونشر رامى 140 رباعية من مجموع 800 رباعية للخيام.

وأثر الخيام ورباعياته كثيرا جدا فى وجدان وعقل أحمد رامى؛ بل وفى مسيرته الشعرية حيث أكد رامى أنه أنه لم يكتب الشعر الدينى اكتفاء بما ترجمه من رباعيات الخيام.

حرص رامى طوال إقامته فى باريس على أن ينشر أشعاره فى مجلتى «السفور» و«الشباب» وكل من المجلتين كانتا تصدران فى مصر وتمثللن علامة فارقة فى مشوار حياته حيث بدأ بنشر أشعاره بشكل منتظم فى مجلة «الشباب» لصاحبها عبد العزيز الصدر، وقد أطلق الصدر على رامى لقب «شاعر الشباب» نسبة إلى المجلة، وظل لصيقا به طوال مشواره.

أما مجلة «السفور» فقد نشرت لرامى وهو فى باريس قصيدة «الصب تفضحه عيونه» فأعجب بها الشيخ أبو العلا محمد الذى كانت تربطه علاقة ود وصداقة بأسرة رامى فأخذها ولحنها وغناها، وكانت أم كلثوم قد ظهرت خطوات واثقة فى عالم الغناء واحتضن الشيخ أبو العلا صوتها وأعطاها قصيدة رامى لتغنيها وأصبح الصوت والقصيدة حديث الناس فى مصر.

عاد رامى من باريس ليجد قصيدته على كل لسان فتعجب من تلك الفتاة الفلاحة التى تغنى أشعاره من دون أن تستأذنه، وذهب مع أحد أصدقائه إلى تياترو وحديقة الأزبكية ليسمعها، وجلس فى الصف الأول فوجدها تلبس ملابس الرجال والعقال فقال لها «عايز أسمع قصيدتى ياست لأنى كنت مسافر ولم أسمعها» وردت أم كلثوم بسرعة بديهة وذكاء فطرى كان أهم مكونات شخصيتها مترامية الأطراف «أهلا بيك يا سى رامى».

وغنت أم كلثوم ليجد رامى نفسه أسيرًا لهذه الفتاة صوتًا وشخصًا، وبعد أن أنهت وصلتها جلست أم كلثوم مع رامى وطلبت منه أن يكتب لها أغنيات خاصة بها، وكانت تلك هى البداية مع سيدة الغناء العربى.

يقول الكاتب الكبير صالح جودت: رامى فى نزوله من قمة الشعر إلى سهل الأغنية الدارجة، لم يهبط عبثا؛ وإنما حمل رسالة أدبية وقومية هى رسالة الوثوب بالأغنية الدارجة من السفوح إلى القُنن، فى الكلمة والمعنى معا، واستطاع أن يطوّع الصور والمعانى الشعرية العالية للكلمة العامية، وأن يرقق عواطف العامة بالأنين والذكريات، حتى صارت أغنية رامى مميزة على غيرها بشيء جديد، وحتى أصبح رامى زعيم مدرسة فى الغناء، لم يتأثر بها المؤلفون المحدثون وحدهم، وإنما امتد تأثيرها إلى روح الملحن وحنجرة المغنى أيضًا.

بعد سماعه أم كلثوم عام 1924 فى حديقة الأزبكية، قرر رامى تخصيص يوم فى الأسبوع لأم كلثوم يوم الاثنين إجازته من دار الكتب، وكان يحمل معه كتابا جديدا لتقرأه أم كلثوم ثم يناقشها فيه فى الأسبوع التالى فقدم لها جميع شعراء العرب.

أقنع رامى محمد القصبجى بالتلحين لأم كلثوم وحمل هذا المثلث الذهبى، رامى والقصبجى وأم كلثوم، طليعة التطوير والتغيير فى الغناء العربى، واستطاع رامى أن يحقق ثورة كبيرة فى عالم الأغنية، وبدلا من أن يقال إنه نزل من قمة الشعر إلى سفح الأغنية استطاع أن يرتفع بالأغنية فى الكلمة والمعنى، واستطاع أن يجعل أغنيته تقترب كثيرًا من الشعر؛ حيث تمكن من صنع توليفة لغوية رائعة تجمع ما بين الفصحى والعامية أو ما يمكن أن نطلق عليه «اللغة الثالثة».

لم يتزوج رامى إلا فى سن الثانية والأربعين، وغنت له أم كلثوم فى حفلة زفافه «اللى حبك يا هناه».

وعلى رغم زواجه كان يردد دومًا: «علاقتى بأم كلثوم لم تكن حبًا.. إنما كانت تقديسًا.. ما كان بيننا كان أكثر من الحب»، وكان يؤكد أن الحرمان هو أجمل ما فى الحب العذرى، وقد ارتضى أن يصبح درويشًا يدور فى فلك أم كلثوم الصوت والحبيبة، فعندما كان يسمع صوت أم كلثوم كان يصاب بحالة «دروشة»، ووصف نفسه قائلًا: «أبقى ومذهوبًا بى...».

لكن ماذا عن حقيقة الجدل الذى دار حول علاقة رامى بأم كلثوم؟

تقول ابنتة رامى إلهام أى شاعر له ملهمة وأم كلثوم كمطربة كانت ملهمة أحمد رامى، وأغنية «أقبل الليل» كنت أنا ملهمته فيها بعد زواجى وابتعادى عنه لفترة وحنينه لى.

تضيف إلاهم: والدى عمره ما فكَّر يتقدم للزواج من أم كلثوم ومسلسل «أم كلثوم» كان جيدًا ولم يغضب الأسرة، فى حفل تكريم لموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب فى دار الموسيقى العربية، وقع سوء تفاهم بين أم كلثوم وأحمد رامى، سرعان ما تفاقم عندما قالت له: «يا ليتنى ما عرفتك يا شيخ».

وقعت كلماتها كالنصل الحاد فى قلب رامى وهو ما جعله يغضب ويقاطعها، استمرت القطيعة بينهما فترة طويلة تتعدى 4 أشهر.

ثم جسد مشاعره فى القصيدة التى تغنت بها أم كلثوم، بعد الصلح، حيث كتب فيها « أصون كرامتى من قبل حبى.. فإن النفس عندى فوق قلبى.. رضيت هوانها فيما تقاسى.. وما إذلالها فى الحب دأبى».

كانت تحرص حتى رحيلها على أن يجلس فى حفلاتها فى المقعد رقم 8 فى الصف الأول. كذلك، صممت على أن يصحبها فى رحلاتها داخل مصر وخارجها بعد حرب 67 عندما أحيت مجموعة كبيرة من الحفلات لصالح المجهود الحربى، وفى المقابل لم يكن رامى يغضب من أى تعديلات تجريها أم كلثوم على كلمات أغانيه طالما أنها لا تغيّر فى الموضوع، وطالما أنها تتم بالاتفاق معه، خصوصًا وأنه كان على يقين بأنها هى «ديوانه المسموع».

لم يتقاضى أجرًا مقابل أغنياته لأم كلثوم!!

حسب إلهام أحمد رامى: «كتب رامى لكوكب الشرق 137 أغنية، لم يتقاض أجرًا عليها، وعندما سألته أم كلثوم ذات مرة عن السبب قال: «أنا مجنون بحبك.. والمجانين لا يتقاضون ثمن جنونهم، هل سمعت أن قيس أخذ من ليلى ثمن أشعاره التى تغنى بها».

ماذا عن الخاتم الذى ارتداه رامى لآخر يوم فى عمره وقيل أنه هدية من أم كلثوم:

تقول ابنة رامى: «هذا الخاتم أهداه أحد الأمراء العرب لأم كلثوم عقب إحدى حفلاتها وعندما سألت الأخيرة رامى عن رأيه فى الخاتم قال لها «حلو بس رجالى» فردت أم كلثوم وهى تخلعه من يدها «يبقى حلال عليك يارامى».

 وكان يحمل الخاتم أول حروف اسمها، وظل رامى مرتديًا الخاتم لم يخلعه لحظة حتى آخر أنفاسه.

بدأت علاقة رامى بالسينما من خلال صديقه الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى عرفه قبل أن يعرف أم كلثوم، وكان عبدالوهاب يرى أن رامى «أمير الأغنية» كما أن شوقى «أمير الشعراء»،

 واستطاع رامى أن يجمع ما بين صداقة عبد الوهاب وأم كلثوم فى الوقت نفسه، رغم كل ما كان بينهما من اختلافات.. فقد كتب أغنيات الأفلام الأربعة الأولى لعبد الوهاب إلا أغنيتين هما «النيل نجاشى» وكتبها أحمد شوقى و«جفنه علم الغزل» وكتبها بشارة الخورى.

وبعد تجربته السينمائية مع عبد الوهاب كتب قصة فيلمى أم كلثوم:«وداد» و«دنانير».. وساهم فى الأغانى أو التأليف فى أكثر من عشرين فيلما سينمائيا أخرى.. كما قام بترجمة العديد من المسرحيات لوليم شكسبير، وقدم هذه المسرحيات لفرقتى يوسف وهبى وفاطمة رشدى، كما ترجم أيضا «سبيل التاج» لفرانسوا كوبيه و«سميراميس» لبلاران و«شارلوت كوفارى» ليونارى و«جان دارك» لبارييه و«يهوديت» لبرتشتين و«أرنانى وماريون دى لورم» لفيكتور هوجو.كما كتب رامى عدة مسرحيات من تأليفه وهى: «ابنتى» و«حبابة» و«غرام الشعراء».

و نال أحمد رامى فى حياته تقديرًا عربيًا وعالميا واسع النطاق لكنه أصيب بحالة من الاكتئاب الشديد بعد وفاة أم كلثوم ورفض أن يكتب بعدها حتى رحل فى 5يونيو1981.

أليس دمع عينى على الأسى علامة».

تقول إلهام أحمد رامى: «كان أبى مرحًا وطويل البال يشاركنا أنا وأخى كافة تفاصيلنا،أستطيع أن أقول أنه كان أبًا مثاليًا لأبعد الحدود».