الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إشراقة خمسينية.. دمــوع القلــب "الحلقـــة التاسعة"

إشراقة خمسينية.. دمــوع القلــب "الحلقـــة التاسعة"

«اكتشفت فجأة أنها فى منتصف الخمسينيات من عمرها.. تلتفت حولها بعدما أفاقت من صدمة العمر الذى تسرسب دون أن تدرى..  فإذا بها تبصر ما لم تبصره من قبل..  وتستشعر معانٍ لم تدركها فى حينها..  و تمارس طقوسًا لم تألفها فى نفسها..  و كأن القدر أراد أن يمنحها فرصة جديدة لاكتشاف ذاتها  فكانت تلك اليوميات».



طرقت باب الشقة ودخلت واجمة صامتة.. تفحصت وجوه الجميع كبارًا وصغارًا بعيون ذاهلة وكأنها تبحث عن وجه تتمنى أن تراه وسطهم فلما لم تجد ضالتها. اتجهت دون أن تنطق بكلمة واحدة نحو إحدى الغرف.. سحبت مخدة صغيرة وألقت بها على الأرض وضعت رأسها عليها ونامت نومًا عميقًا.

لم يستطع أحد من الحضور فهم طلاسم الموقف.. سوى جدتها التى انفجرت فى بكاء مكتوم قائلة فى حزن بالغ: «خلاص الموضوع انتهى.. ربنا أنزل الصبر على ابنتى مفيش فايدة.. الابتلاء واقع لا مفر منه.. إنا لله وإنا إليه راجعون».

لم تفهم صاحبتنا شيئًا كان عمرها لم يتجاوز الـ18 سنة إلا بشهور قليلة ولا تدرك سوى أن خالتها كانت مرافقة لابنتها الكبرى فى المستشفى منذ عدة أيام وتركت أولادها الصغار فى بيتهم ليكون الصغار فى رعاية أمها وجدتها. ولم تترك المستشفى أبدًا طوال الأيام السابقة سوى فى هذه اللحظة التى فوجئوا بها أمامهم فما الذى دفعها إلى ذلك وهى الحريصة على ألا تترك (كاميليا) (غادة) الجميلة؟

ساعات قليلة وقبيل الفجر كان الهاتف يحمل لهم الخبر الصاعقة وإذ بالجميع يهرول باكيًا صارخًا: (غادة ماتت). هذا المشهد لم يمح أبدًا من ذاكرة صاحبتنا رغم أنه يرجع إلى 38 عامًا مضى، ولكنه كان –بلغة السينما- (الماستر سين) فى علاقتها بالموت ودهاليزه.. والحزن ودروبه.

لم تكن غادة مجرد ابنة خالة بحسب؛ بل كانت الصديقة الأثيرة لصاحبتنا، حيث كانت تصغرها بسنة وعدة شهور، وكانت قد أنهت المرحلة الثانوية وتستعد للالتحاق بالجامعة.

كانتا صديقتين تتقاسمان الأحلام.. والأسرار.. والتفاصيل اليومية.

كانت غادة اسمًا على مسمى فعلاً.. جميلة ورقيقة ذات وجه ملائكى وشعر كستنائى ناعم وكانت صاحبة حضور طاغٍ يلفت الأنظار.

خلال شهور قليلة وبدون مقدمات شعرت بمتاعب فى الكبد.. وتدهورت الحالة سريعًا إلى أن لقيت ربها راضية مرضية.

كانت الصدمة قاسية على الجميع.. العروس الجميلة ذات السبعة عشر ربيعًا تودع الحياة فجأة.. تذكر كلمة لجدتها فى أيام العزاء الطويلة الممتدة شهورًا قالت فى تأمل حزين: (غادة رخصت الحزن) وأوضحت وكأنها ترثى لحالها شخصيًا (بعد وفاة غادة.. مهما كان المتوفى غاليًا لن يكون له نصيب من الحزن عليه فأى مصيبة ستهون بعد مصابنا فى الغالية).. شعرت صاحبتنا بحالة من انكسار الروح والحزن الذى يسكن فى كل التفاصيل اليومية) الأحلام المشتركة والحوارات الممتدة ذهبت إلى غير رجعة وكان عليها أن تواجه الحياة بلا ونيس ولا سند. حاولت أن تكون لخالتها عوضًا عن فقيدتها الغالية، لكن نظرات حزن الثكلى المكلومة كان يؤكد لها نفس المعنى الذى استشعرته دومًا أنه لا يمكن للبديل أن يملأ فراغ الأصل أبدًا.

بعد سنوات طويلة عندما سافرت صاحبتنا لأداء العمرة  لم تنس أن تؤدى عمرة وتهب ثوابها لحبيبتها وصديقتها التى لم تنسها أبدًا.. غادة.

بروفة للنهاية

الغطس فى أعماق البحر 

دخولك فى جهاز أشعة محكم الغلق عليك

غرفة العلاج الإشعاعى الموحشة

العزلة فى مستشفى بلا وسيلة تواصل

مواقف مرت بها.. وشعرت خلالها وكأنها بروفة للحظات الأولى من نهاية الحياة.. وكأنها «محاكاة» للحدث الجلل الذى سنصل إليه حتمًا.

هناك أنت تعيش التجربة الغامضة لوحدك وإذا كان الآخرون على بعد خطوات فعليًا، لكنك لا أنت على اتصال بهم ولا هم على تواصل معك.

ترى وتسمع وتشعر بما لا يدركه أقرب الناس إليك.

هل كانت تخشى المغادرة؟! هل كانت تهاب اللقاء؟!

زمان عندما كانت والدتها على قيد الحياة كانت تدعو ألا يذيق أمها وجعًا كالذى اكتوت بناره خالتها.

كان حرصها على الحياة حبًا لأمها واستشعارًا لمسئوليتها تجاهها وحرصًا ألا تكون يومًا سببًا لحزنها.

بعد وفاة أمها لازمها شعور أقل حرصًا على الحياة. 

ولكن أصبح ما لا تقدر على احتماله فعلا هو فراق الأحباء، فمع غياب كل عزيز كانت تشعر برحيل جزء من روحها. فعندما يفقد المرء أحباءه واحدًا تلو الآخر يشعر بأن شجرة روحه أغصانها تذبل، وفجأة يكتشف أن الأغصان وهى تسقط قد سقط معها جزء من صلبه وكيانه سقوطًا يترك ثغرات وندوبًا لا تندمل إلى أن تسقط الشجرة نهائيًا.

بعد فقد والدها ووالدتها شعرت بأنها كبرت وعجزت، بل شعرت بالشيخوخة تدب فى أوصالها وتحاصر مشاعرها. كانت تظن أن مصل (الوجع والفقد) الذى تجرعته بغيابهما كفيل بالسيطرة على كل حزن آتٍ وأن عواقبه وأعراضه ستكون تحت السيطرة إلى أن فاجأتها الأيام بهجوم شرس للحزن أفقدها سيطرتها على جهازها المناعى فتداعى بشدة، مما أخضعها للعلاج لعدة شهور.

أم علاء.. لم تكن بالنسبة لها مجرد مساعدة فى البيت كانت بينهما علاقة تثير تعجبًا لكل من حولهما.

صاحبتنا رأت فى أم علاء نموذجًا محترمًا يستحق التقدير امرأة أمية، لكن تجارب الحياة علمتها الكثير.

ذات ضمير يقظ.. وأمانة.. وفطرة سليمة غير ملوثة بالغل أو الحقد أو الاستغلال. لم تخن ثقتها فيها أبدًا وكانت تداعبها قائلة: لو تعلمتِ لكان لك شأن آخر. 

أم علاء رأت فى صاحبتنا ما تفتقده محبة واحترام فاعتبرتها أمًا وأختًا وابنة وتعاملت معاها كإنسانة وصديقة وليست (كخادمة) ورغم ذلك لم تنادها يومًا إلا بـ (الأستاذة) ولم تتجاوز أبدًا فى أى كلمة أو فعل على مدى 20 سنة.

كانت ترى فى أولاد صاحبتنا أولادها حتى إنها فى فرح الابن فاجأتها بهدية .. لقد جاءت لها بعجل صغير اشترته من بلدتها بتحويشة العمر واشترت عباءة جديدة فى الفرح لتكون (أد المقام) وأحيت الليلة من قلبها بالزغاريد والورود.

فجأة أصيبت أم علاء بكورونا ودخلت المستشفى بعد تدهور سريع لحالتها وبعد يوم واحد فقط توفيت إلى رحمة الله.

فى آخر مكالمة بينهما تحدثت لصاحبتنا وكأنها تودعها شكرتها كثيرًا ودعت لها طويلاً ولزوجها وأولادها.

رحلت أم علاء لتفتقد صاحبتنا صديقة عمر وشقيقة روح.

الموت والحزن نقش على نفسيتها حرصًا أن تترك أثرًا طيبًا.. سيرة حلوة.. ذكرى حسنة.

الحزن علمها أن تحاول أن تسعد من حولها وتخفف عنهم أوجاعهم لعلهم يتذكرون لها يومًا ما كلمة.. فعلاً يكون لها شفيعًا عند خالقها.

وتتوالى الإشراقات