الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الـدولار واليــوان.. «كـش مـلك» النظـــــام العالمـى

الدولار واليوان
الدولار واليوان

أصبحت التكنولوجيا المالية هاجسًا كبيرًا يواجه المؤسَّسات المالية والمصرفية فى مختلف دول العالم، وعنصرًا مُهمًّا من عناصر  التنافسية التى تواجهها، جعلت البنوك المركزية التى تقف على قمة النظام المالى والمصرفى فى أمريكا والصين معنية بالتكنولوچيا المالية. وتحاول كلتا  الدولتين  تبنى  تفهمًا كبيرًا للتأثيرات الواسعة لصناعة التكنولوچيا المالية ووجدت أنه لا بديل عن قرار اعتماد وتبنّى هذه الصناعة لرفع وتيرة الاستعداد للمرحلة المقبلة.



 وصار للتكنولوچيا المالية «العملات الرقمية» كلمة فى صراعات النظام المالى العالمى، وانتشر نظام «الجمعية» الشهير أصبح له تطبيقات إلكترونية تقوم بنفس وظيفته، تحويل الأموال عبر مَحافظ تليفونك المحمول. 

هذه التغييرات فرضت نفسها على معركة مالية، تدور بين أكبر اقتصاديين فى العالم،  

فأصبح السؤال الآن هو : هل من الممكن أن يحل اليوان الصينى محل الدولار الأمريكى كعملة دولية؟ وهل تفوز بكين فى صراع السيادة على النظام المالى العالمى الذى تسعى إليه؟  

أكثر الأساليب فتكًا لم تستخدم بعد فى هذه المعركة، كما لو أنها تحدث على رقعة شطرنج، فلكل خصم تحركات قوية، واشنطن تريد حماية عرش عملتها والحفاظ على الإيقاع المالى للعالم أمريكيّا ، وبكين ترغب فى تدويل عملتها اليوان لتنهى هيمنة الدولار.

 المباراة رُغْمَ حدتها؛ فإنها تتسم بالهدوء، فأى تحرك خاطئ لأى من لاعبيها سيزلزل اقتصاد العالم بأسره، وبالرغم من هيمنة أمريكا وسيادتها الحالية على النظام المالى العالمى؛ فإنها تُعد  للخطوات الصينية ألفَ حساب، والأمريكيون يعرفون أن الصينيين على مدى قرون لا ينظرون تحت أرجلهم وشعارهم أن «التنمية هى النظرية الوحيدة».

 

البنك الصناعى والتجارى الصينى
البنك الصناعى والتجارى الصينى

 

بداية الصراع

 معركة اللعب على النظام المالى العالمى بدأت أواخر عام 2017، عندما وقّع البنك المركزى الصينى 37 اتفاقية بقيمة تجاوزت 3 تريليونات يوان بهدف تسهيل استخدام العملة الصينية فى الأعمال والشركات والبنوك غير الصينية حول العالم.

وعام 2018 كانت خطوة بكين الأولى نحو تشكيل نظام تسعير للبترول والغاز فى السوق العالمية بغير الدولار من خلال افتتاح بورصة شنغهاى للطاقة تمت فيها التحويلات باليوان.  

وعام 201٩ أعلن صندوق النقد الدولى أن قيمة اليوان الصينى تتماشى مع العوامل الاقتصادية الأساسية للصين بينما يزيد الدولار الأمريكى عن قيمته الفعلية بنسبة بين 6 إلى 12 %، وهى الخطوات التى ردت عليها الإدارة  الأمريكية فى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب   بتصنيف الصين متلاعبًا بالعملة وهو ما يمنحها حق فرض عقوبات عليها.

جاء القرار بعد ساعات من سماح بكين لعملتها بالهبوط لتسجل أدنى مستوى فى 11 عامًا، وهو ما اعتبره البعض وقتها طريقة لمواجهة التهديدات الأمريكية بفرض مزيد من الرسوم الجمركية على الصين.  

 وخرجت الصحيفة الرسمية الناطقة بلسان الحزب الشيوعى الحاكم فى الصين، لترد على القرار قائلة إن الولايات المتحدة تدمر النظام العالمى عن عمد، فى حين قالت واشنطن أنها ستتشاور مع صندوق النقد  للقضاء على المنافسة غير العادلة مع بكين، لكن سرعان ما تراجعت واشنطن مسقطة ذلك الاتهام عن بكين.  

بنهاية عام 2020 أطلقت الصين مجموعة تجارب للتعامل على عملتها الرقمية الجديدة اليوان الرقمى، التى قالت أنها تهدف إلى تسهيل التجارة وحركة الأسواق؛ خصوصًا فى ظل ثورة التداول على العملات المشفرة.  

بداية فكرة إطلاق اليوان الرقمى ترجع لعام 2014، عندما جذبت عملة «البتكوين» الاهتمام فى الصين وتحرّك البنك المركزى الصينى لتأسيس مجموعة داخلية للعمل على إصدار عملة رقمية شبيهة، وفى 201٦ أنشأ البنك قسمًا باسم معهد أبحاث العملات الرقمية لتكون العملة خاضعة لتنظيم وتحكم من قبل البنك المركزى الصينى،ومدعومة من الحكومة، وبدأت بكين التجربة مع المواطنين والشركات، وتخطط لاستخدام اليوان الرقمى فى أوليمبياد بكين الشتوية فى 2022.  

 وتعتبر بكين هذا التحرك مسألة حياة أو موت، فهى عازمة بلا تراجُع على إصدار هذه العملة على أساس أن العملات هى المستقبل، فهى بالتأكيد خطوة ستسوق لعملتها العادية وتضعف من قدرة أمريكا على تعقب تدفق الأموال.  

 وتسابق الصين الزمن لتحقيق الريادة فى إصدار العملة الرقمية مستفيدة من تقدُّمها الكبير فى التكنولوچيا المالية وتوسع الصينيين فى معاملاتهم النقدية بالتليفونات الذكية.

وهنا ردت إدارة الرئىس الأمريكى بايدن بخطوة جديدة؛ حيث أعلن جيروم باول  رئيس البنك المركزى الأمريكى أن إصدار العملة الرقمية لأمريكا باسم الفيدكوين أصبحت من الأولويات بالنسبة للبنك. 

لكن فى الوقت نفسه، أشار «باول» إلى أنه لا يمكن التسرع فى إصدار الدولار الرقمى؛ بل يتطلب الحذر، وهو ما لفتت إليه جانيت يلين- وزيرة الخزانة الأمريكية- من ضرورة دراسة مسائل كثيرة، من بينها حماية المستهلك وغسيل الأموال؛ حيث يفضل الأمريكيون التعامل ببطاقات الائتمان لسهولة استخدامها ولكونها أكثر أمانًا.  

 

شعار عملة البتكوين
شعار عملة البتكوين

 

 ولفهم أكبر لدوافع التحركات الصينية فى المباراة، علينا العودة للوراء كثيرًا، منذ 77 عامًا عندما انعقد مؤتمر «بريتون وودز» فى ولاية «نيو هامبشير» الأمريكية واعتبر فيه الدولار العملة الاحتياطية الدولية الرئيسية وتبلورت فيه فكرة إنشاء صندوق النقد والبنك الدوليين.  

 ومنذ ذلك الحين، اعتادت الولايات المتحدة على تسليح الدولار بتحويله إلى سلاح سياسى واقتصادى لمعاقبة الدول الأخرى والضغط عليها؛ خصوصًا مع هيمنتها على نظام العالم المالى، من خلال المدفوعات والقروض والاستثمارات العالمية والقدرة على طباعة النقود.  

 تسببت هذه التصرفات فى خسائر كبيرة وتهديدات لدول وشركات طالتها العقوبات الأمريكية وعلى رأسها الصين، وهو ما كان نتيجته عدة محاولات للتخلص من سُلطة الدولار والبحث عن بديل، ومن أبرز الأمثلة أمامنا تصاعد دور «اليورو» فى المعاملات الدولية.  

  مستقبل هذه المباراة الطويلة لا يمكن التنبؤ به بسهولة، فهى تعتمد أساسًا على تحدى ينتظر الولايات المتحدة، وهو التعافى الاقتصادى من آثار كورونا وبالتالى الحفاظ على الدولار أو استمرار صعود الاقتصاد الصينى ونجاح عملية تدويل اليوان أو أخيرًا اشتعال الخلافات التى تؤدى إلى انقسام النظام المالى العالمى وتدميره.  

 ويمتلك كل خصم فى المعركة قطعًا يمكنه اللعب بها، فبالنسبة لواشنطن هى مسيطرة على المؤسَّسات المالية الدولية وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين وثلاث وكالات مسئولة عن أغلب تصنيفات بطاقات الائتمان فى العالم.  

 وتستطيع الولايات المتحدة عزل الصين عن نظام المدفوعات العالمى والمعاملات التجارية من خلال تقييد تعاملات البنوك الصينية ومنع اتصالها بالبنوك العالمية، عبر غرفة المقاصة فى نيويورك المسيطرة على نظم الدفع بين البنوك الدولية ويتم من خلالها توجيه جميع المعاملات بالدولار ومعالجة مدفوعات بقيمة 1.5 تريليون دولار يوميّا.  

 كما يمكن لواشنطن أن تضغط على جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك «السويفت»، ومقرها بلجيكا لطرد أعضائها من الصين وتجميد معاملات بنوكهم مع 11 ألف بنك يعمل مع المؤسّسة.  

 وهناك إمكانية أن تفرض الولايات المتحدة حظرًا ماليّا مع الصين، وتمنع استخدام نظامها المالى للدولار؛ خصوصًا أن التحويلات التى تتم باليوان تجرى عبر لندن وليس بكين؛ حيث تساهم المملكة المتحدة فى العمليات المالية العالمية بنسبة تصل إلى 34 %، وهو ما يُحمّل الصين تكاليف مرتفعة.  

 أمّا بكين فتعول على هيكلها المحلى الخاص للمدفوعات والتسويات المالية «سيبس» والذى يبسط المدفوعات العابرة باليوان، وتعلق آمالًا على مبادرات لخلق مؤسَّسات بديلة للمؤسَّسات المالية الدولية الحالية، مثل: بنك بريكس الجديد للتنمية وبنك الاستثمار الآسيوى.  

 وتدرس الصين فكرة الاشتراك فى شبكة بديلة لنظام «السويفت» مع الهند وغيرها مع استغلال نظام تمويل المستهلكين حول العالم الخاضع لنفوذها، بفضل شركات منصاتها الرقمية الأسرع انتشارًا مثل منصة «على بابا» و«آنت فاينانشال»، المقبولة من التجار فى 56 بلدًا.  

 وتحوز بنوك بكين أكبر أصول فى العالم وتبلغ 17 تريليون دولار لأربعة بنوك، هى: البنك الصناعى والتجارى أوف تشاينا (5 تريليونان دولار)، وبنك التعمير الصينى (4 تريليونات دولار)، والبنك الزراعى الصينى (4 تريليونات دولار)، وبنك أوف تشاينا (4 تريليونات دولار)، وبينما لدى أكبر بنكين أمريكيين أصول بقيمة 6.4 تريليون دولار فقط؛ حيث تبلغ أصول جى بى مورجان (3.4 تريليون دولار)،وبنك أوف أمريكا (3 تريليونات دولار.  

 ويمكن للصين فى حالة ما إذا اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بالحظر المالى عليها أن ترد بالمثل ولكن بالحظر التجارى والاستثمارى للبنوك والشركات الأمريكية مع منع استفادة أمريكا من العناصر الطبيعية والسلع الأساسية التى تسيطر عليها.  

والنقطة الأهم لدى بكين،  هى أسواق سندات الخزانة الأمريكية التى تمول منها واشنطن عجزها المالى المستمر، والتى تكتسب نكهة صينية؛ حيث يمكن أن تبيع الصين مخزونها البالغ 1.1 تريليون دولار، والذى يعادل 4 % من إجمالى المبالغ المستحقة وهو ما يسبب أزمة كبيرة لاقتصاد الولايات المتحدة الاقتصاد المعتمد أساسًا على الدَّيْن.  

 وهناك عدة عوامل تشير إلى حدوث نمو مستمر لليوان الصينى، وهو ما يضاعف من قوة بكين فى المباراة، أولها زيادة الطلب على السلع الصينية، وثانيها زيادة استخدام اليوان فى بلاد مشروعات مبادرة الحزام والطريق، وثالثها تطوير سوق السندات الآسيوية.

وأخيرًا تزايد الطلب على اليوان فى البنوك والشركات التجارية ضمن التحويلات التبادلية بين البنوك المركزية فى مبادرة «تشيانج ماى»، والتى تعتبر شبكة أمان مالى للدول الآسيوية.