الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إشراقة خمسينية.. عيــون المــها "الحلقـــة الثـــامنة"

إشراقة خمسينية.. عيــون المــها "الحلقـــة الثـــامنة"

«اكتشفت فجأة أنها فى منتصف الخمسينيات من عمرها.. تلتفت حولها بعدما أفاقت من صدمة العمر الذى تسرسب دون أن تدرى..  فإذا بها تبصر ما لم تبصره من قبل..  وتستشعر معانٍ لم تدركها فى حينها..  و تمارس طقوسًا لم تألفها فى نفسها..  و كأن القدر أراد أن يمنحها فرصة جديدة لاكتشاف ذاتها  فكانت تلك اليوميات».



«سلامة عينيك» نبهتها زميلتها بمجرد أن رأتها إلى ارتخاء جفنيها وانكسار نظرة عينها وذبولها تساءلت بينها وبين نفسها فى خجل كيف لم تلحظها بنفسها أمام مرآة بيتها.. لقد كانت مشغولة كعادتها دائما ويا دوب أنهت مهامها وارتدت ملابسها على عجلة لتلحق بموعد الشغل.

لا بأس.. لعله إجهاد فقط.. هكذا أجابت زميلتها ولم يشغل بالها الأمر طويلا.

اليوم التالى.. بدأت عمل كمادات لكن لا استجابة. جفونها تكاد أن تتطابق.

فى اليوم الثالث قررت الذهاب إلى طبيب عيون فى المركز الطبى القريب من البيت.. فلا وقت تضيعه فابنها وزوجته سيصلان مصر بعد 48 ساعة من الخارج لقضاء آخر أيام رمضان وإجازة العيد وهناك قائمة أعمال طويلة عليها أن تنجزها من ترتيب منزل ومشتريات وإعداد طعام بالإضافة للعزومة التى تعد لها منذ أيام لأفراد العائلة الحريصين على لقاء ابنها فى إجازته القصيرة جدا. 

فحصها الطبيب جيدا دون أن ينبس بكلمة ثم جلس على مكتبه يكتب تقريرا من عدة نقاط ثم رفع وجهه نحوها قائلا (لا بد أن تعرضى نفسك فورا على طبيب مخ وأعصاب والأفضل أن يكون فى مستشفى لأنه سيطلب منك أشعة مقطعية على المخ.. وفحوصات أخرى دقيقة فلا تضيعى وقتا.. عيناك كنظر سليمة لا مشكلة فيهما ولكن ما حدث مؤشر لأشياء أخرى خطيرة ليست فى مجال تخصصى!!

لا تعرف كيف خرجت من عنده ذاهلة وصلت لسيارتها وجلست شاردة واجمة تنظر للتقرير وتدقق لعينيها بمرآة السيارة.. وتتذكر كلماته الصادمة وهى لا تستطيع أن تستوعب الأمر. 

معقول الأيام القليلة التى تنتظرها من العام للعام لتروى شوقها لابنها ستضيع فى المستشفيات وعيادات الأطباء.

هل يعقل كل برامج الزيارات واللقاءات العائلية والرحلات التى تعد لها من شهور ستذهب أدراج الرياح.

و الأهم ما نوعية المرض التى ستواجهه؟ لقد هاجم فى الجولة الأولى أجمل ما فى ملامحها الشكلية فما هو فاعل بها بعد ذلك.. ويا ترى ماذا تحمل لها الأيام المقبلة.

بعد دقائق من التفكير مرت وكأنها ساعات قررت أن تطوى التقرير وتضعه فى أحد جيوب حقيبتها وتسقط من ذاكرتها كل كلمات الطبيب وكأنها لم تسمعها.

لقد قررت تأجيل الأمر كله لمدة أسبوعين هما مدة إجازة ابنها ثم ليقضى الله أمرا كان مفعولا.

حمدت ربنا كثيرا أنها كانت بمفردها عند الطبيب وبالتالى فلن يعرف بالأمر أى أحد من أسرتها وهذا سيسهل مهمتها ستدعى أن الأمر مجرد التهاب بالعين بسيط لا يحتاج سوى لقطرة.. وكمادات وعدم القراءة فى التابلت والموبايل.. رددتها على الجميع وتعللت بأن معظم الأطباء بدأوا إجازة العيد.

فى اليوم التالى لسفر ابنها وزوجته بدأت الرحلة.

أشعة مقطعية على المخ.. رنين مغناطيسى.. رسم عصب.. فحوصات شاملة ودقيقة.. تحاليل كاملة وساعات انتظار طويلة. 

لم تتعلم فيها الصبر فحسب ولكن تعلمت الرضا بما قسمه الله.. والحمد على اعتبار «أننا أهون من غيرنا» باختصار تعلمت أن تتأدب فى حضرة «الابتلاء» وألا تعترض على مشيئته واختباراته.

إنه «نقص مناعى شديد» أدى إلى «وهن عضلات» هكذا كان التشخيص وأصبحت «الروشتة» النوم الكافى لمدة لا تقل عن 8 ساعات. 

عدم الانفعال.. عدم الحزن.. لا للقلق.. لا للإجهاد البدنى.. لا للحزن والضغوط النفسية.

كانت تبتسم فى استسلام المتيقن باستحالة تنفيذ وصفة العلاج إلى أن صدمها الطبيب الكبير قائلا لها «أى عضلة لا إرادية مهددة بالإصابة.. وضرب لها مثلا بعضلة البلع» بعدها أصبح لديها هاجس يدفعها لاختبار مقدرتها على البلع كل لحظة.

لأول مره تشعر أن جسدها يمكن أن يتمرد عليها.

لقد حملته دائما فوق طاقته وكانت تفخر دائما بأنه «الخادم المطيع» الذى لم يخذلها أبدا.. فإذا به يغدر بها بلا مقدمات فمن أساء لمن.. هو أم هى.. وهل كان لا بد من هذه اللطمة القاسية لتنتبه وتراجع علاقتها به.

لقد أصبحت تخاف منه أكثر مما تخاف عليه.. تخاف من غضبه وتمرده. أصبح أقصى أمانيها ثبات الحالة.. خوفا من تدهور سريع وعواقب وخيمة.

عندما سألتها صديقتها وهى تستعد للسفر للحج عن الدعوة التى تتمنى أن تدعو بها فى الكعبة ابتسمت و قد غلبتها دموعها وقالت لها هامسة «ادعى ربنا يشفى عيون المها».

كو.. رو.. نا

(أنا لو وقعت مفيش حد حيسد ورايا ولا حيشلنى ولو حصل لى أى حاجة مش حتفرق معاكم وتعيشوا حياتكم عادى) 

لا تذكر كم مرة نطقت تلك الكلمات.. بمرارة وغضب.. وحنق حتى باتت من الأقوال المأثورة التى يتندرون بها ويسخرون منها وهم لا يدركون أنها ليست بالكلمات بل هو ظن بات يقينا فى وجدانها وكانت عادة تتهم نفسها بالتهاون فى حق نفسها والمبالغة فى تدليلهم (ليست أسرتها الصغيرة بحسب ولكن أصدقائهم ومعارفهم أيضا) حتى تحولوا إلى مدمنين للأخذ بلا عطاء.. وكائنات شديدة الأنانية..

و لا تنكر أنها حاولت مرارا الاعتراض.. الانسحاب.. التراجع.

لكن كل محاولاتها باءت بالفشل.. فلقد اعتادوا عطاءها حتى ألفوه حقا مكتسبا لا يحق لها مناقشته ولم يعد أمامها سوى التأقلم وإن كان الأمر لا يخلو من نوبات غضب ممزوجة بالمرارة كل حين.. إلى أن وقعت الواقعة.. أصيبت ابنتها بكورونا.. وبعد أيام قليله بدأت صاحبتنا تشعر بكل الأعراض ولكن بقسوة شديدة.

درجة حرارة تقارب الأربعين.. نوبات سعال حادة جدا جدا ومتواصلة وطويلة على مدار النهار و الليل.. و.. و.. و ..

و إذا بها وسط كل هذا الضباب الكثيف الذى يغلف أيامها تتراءى لها نفحات نورانية لم تكن تظن يوما أنها ستعيشها, أولى هذه النفحات.. رأتها من ابنتها التى طالما اتهمتها بحب الذات واللامبالاة فإذا بها وهى مريضة تخرج من عزلتها.. ومن ذاتها لتتولى بمفردها وبنفسها كل صغيرة وكبيرة تخص والدتها.. بداية بالاتصال بالاطباء مباشرة أو من خلال صديقة والدتها المقربة والتى كانت توجهها مباشرة بخبرتها الطبية.

أصرت أن تنزل بنفسها لتحضر أنبوبة الأكسجين.. وأيضا جهاز البخار.

أقنعت والدها بصبر وإلحاح شديد أن يغادر المنزل حتى لا يتعرض للعدوى مع تعهدها لوالدها وأخيها المقيم بالخارج بتقديم تقرير مفصل عن الحالة كل ساعتين.

كانت ابنتها تنام تحت أقدامها بكامل ملابسها تحسبا لتلبية أى شئ تحتاجه أمها أثناء ساعات اليل ولملاحظة أى طارئ على حالته.

استمرت أسبوعين فى رعاية طبية منزلية مكثفة إلى أن رأى الطبيب ضرورة الانتقال إلى المستشفى.. وعندما نزلت الأم من بيتها لتركب سيارة الإسعاف بكت الابنة ورجت المسعف ألا تترك والدتها.. ولما رفض بإصرار ووفقا للتعليمات جرت وراءها هى وخالها لتلحق بها فى مستشفى العزل البعيد لتقول لها على باب المستشفى (إحنا فى انتظارك يا ماما ارجعى لنا بسرعة بالسلامة).

فى المستشفى كانت تنام وتصحو على رسائل كثيرة من زوجها.. ابنها.. صديقاتها .. وصديقات ابنتها وأمهاتهم (وهى لم تر بعضهن سوى مرة أو اثنين فقط) وتلاميذها.. وزملائها.. وأخواتها وأقاربها حتى التى باعدت بينهم السنوات.

كل هؤلاء شكلوا كتائب دعم نفسى هائل ومتواصل جعل أيامها فى المستشفى رحلة استشفاء نفسى قبل أن تكون محطة استشفاء صحى وبدنى لم تستشعر وحدة وعزلة فى مستشفى العزل بل شعرت ونسًا وحبا وقربا إلى الله يبدد كل وحشة وهون أى أوجاع وعندما من الله عليها بالشفاء وتعافت دخلت بيتها فى موجة من الزغاريد عبر الموبايل الذى لم يتوقف لحظة.. ووجدت زوجها وابنتها وابنها وزوجته عبر التليجرام مستقبلينها بالورود وبالونات الهيليم.. وتورتة للميلاد الجديد.

لقد تعافت بحمد الله من الكورونا بالحب والاهتمام وليس بالدواء.

وتتوالى الإشراقات