الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
إشراقة خمسينية.. العصيــان.. والفــرار "الحلقـــة الخامسة"

إشراقة خمسينية.. العصيــان.. والفــرار "الحلقـــة الخامسة"

«اكتشفت فجأة أنها فى منتصف الخمسينيات من عمرها.. تلتفت حولها بعدما أفاقت من صدمة العمر الذى تسرسب دون أن تدرى..  فإذا بها تبصر ما لم تبصره من قبل..  و تستشعر معانٍ لم تدركها فى حينها..  و تمارس طقوسًا لم تألفها فى نفسها..  و كأن القدر أراد أن يمنحها فرصة جديدة لاكتشاف ذاتها  فكانت تلك اليوميات»



 

لا أتذكر كم مرة هددت بها وحلمت بتنفيذها.. (و الله لأسيب لكم البيت وأهرب لمكان محدش يعرفه علشان أرتاح وتعرفوا قيمتى)!! ودائما هو حلم لا يتحقق ووعيد لم ينفذ أبدا لكن هذه المرة قدرت ونفذت (خدت فى وشها وطفشت) بمعنى الكلمة.. لكن لماذا هذه المرة (قدرت)؟! الحقيقة أنها لا تملك إجابة. لم تكن تلك هى المشاجرة الأولى ولا الأكبر ولا الأخطر مع زوجها وابنتها فهناك معارك كثيرة سابقة موجعة كانت تستلزم هذه الوقفة.. وتتطلب البعاد لكنها لم تنفذ سوى هذه المرة.. طقم واحد فى شنطة صغيرة جدا وفتحت الباب.. وخرجت. لم يشعر بها كل منهما. كل فى غرفته يمارس حياته. دون أن ينتبه لحضورها أو غيابها وحتى لو شعر أحدهما بغيابها سيظن أنها ذهبت لشراء متطلبات البيت كالعادة.

وهى فى الشارع تمشى مسرعة على غير هدى وكأنه الهروب الأعظم. قررت ألا تستخدم سيارتها.. وفكرت أن تسافر إلى شقة الإسكندرية بأى وسيلة.. لن تذهب لأختها أو صديقتها.. تريد أن تخلو لنفسها دون أن تتكلم.. تبعد وتتأمل وتراجع وتعلن العصيان والفرار وكأنها تفر من (خنقة) الضغوط والمسئوليات وعدم التقدير. تذكرت وهى تبعد.. أنها نسيت دواء الضغط وأنها لم تحمل معها نقودا كافية فهل تفكر فى العودة.. (لا) قالتها لنفسها فى حسم.. فلتشترى الدواء من أى صيدلية.. ولتسحب من الفيزا ما تحتاج إليه من نقود ولن تفكر فى أى التزامات مادية كالرخصة التى ستجدد فى الأسبوع القادم والالتزامات المادية الأخرى و.. و.. قالت لنفسها: (لن أفكر فى شىء ولن يمنعنى شىء أنه الهروب الذى لا تراجع عنه) 

فى موقف الميكروباصات المسافرة للإسكندرية وقفت تائهة.. كانت المرة الأولى التى تستخدمها.. والمرة الأولى التى تسافر دون رفيق.

(اتفضلى يا أبلة.. إسكندرية الموقف الجديد) أومأت برأسها واتجهت إلى حيث أشار.. من النظرة الأولى للميكروباص أدركت أنهم فى انتظار الراكب الأخير فى الكابينة الأمامية حيث كانت تجلس سيدة أربعينية كادت أن تنزل لتدخل فى المقعد المجاور للسائق.. بإصرار قالت صاحبتنا سأجلس بجانب الشباك.. استسلمت السيدة على مضض وجلست فى المقعد الصغير الضيق.. داهمها إحساس بالذنب تجاهها.

بالتأكيد لن تكون مرتاحة فى هذا المقعد الصغير. همست صاحبتنا (لا لن أفكر فى الآخرين.. ليذهب الجميع إلى الجحيم كفا إحساسا بالمسئولية والتعاطف تجاه الآخرين على حساب نفسك.. هذا الشعور الذى تدمنه ويستنزف طاقتها كثيرا) « تشعلقت» فى غضبها.. وفى مقبض السيارة العلوى وقفزت للمقعد الأمامى.. أغلقت الموبايل بعد اتصالين متتالين من زوجها.. أخيرا.. أخيرا انتبهت أننى لست بالبيت! أكيد دافعه الفضول وليس الاهتمام.. لن يجول بخاطره أبدا أنها أخيرا فى حالة «تمرد».

سمعونا الفاتحة يا جماعة.. والمسيحى يمجد سيده علشان نوصل إسكندرية بالسلامة.. توكلنا على الله.. قالها السائق وانطلق الميكروباص. 

عندما وصلت للإسكندرية انتبهت أنها لم تتناول أى طعام طوال اليوم.. تذكرت الأكل الذى سيكفى يومين والذى أعدته صباحا.. طبعا هيقوموا يتغدوا.. ولا يهمهم.

اشترت كيس عيش وعلبة تونة وزبادى وزجاجة ماء وحملتها معها.. أخيرا وصلت للعمارة.. تفرستها زوجة البواب مندهشة.. هو حضرتك لوحدك.. من غير البيه والأولاد؟ إجابتها وهى تسرع الخطى نحو المصعد.. (أيوا أصل أنا فى مؤتمر شغل يومين بس كده) ضغطت على الزرار وهى تتحاشى نظراتها.. كان كل شىء فى الشقة يعلوه التراب.. والجو خانق فمنذ ما يزيد على العام لم تفتح.. همست لا يهم.. المهم أنها نفذت أخيرا ما كانت تحلم به.. تناولت علبة الزبادى ودخلت لغرفة النوم.. أزاحت المفرش من على السرير ونامت منهكة.. أفاقت مذعورة على خبط متواصل على الباب.. وجرس متقطع نظرت فى الساعة كانت تشير إلى الثانية عشر مساء.. من وراء الباب تساءلت بقلق (مين.. مين؟!) (أيوه يا أستاذة أنا نصر البواب.. البيه بيقول لحضرتك أن موبايلك مقفول لو سمحتى افتحيه هو كلمنى وأنا طمنته إنك وصلتى بالسلامة من كام ساعة. لو سمحتى افتحى الموبايل وطمنيه بنفسك يا أستاذة!!).

جلست وراء الباب تبكى وهى تهمس من بين دموعها هو عرف المخبأ إزاى..؟!

بعد سويعات من نوم متقطع فتحت عينها كانت الساعة السابعة. قامت تهرول من غرفة لأخرى لتنظف الشقة.. ابنتها أرسلت لها رسالة باكية بالأمس تعتذر لها وتقول لها أن البيت وحش من غيرك يا ماما.. أكيد ستجيئ مادامت قد عرفت مكانها.. لكن هل ستجيئ وحدها أم مع والدها؟! تنصت بلهفة لباب الأسانسير عندما يفتح وتبدأ فى رسم السيناريو.. سأرسم تكشيرة مصطنعة واهتف من وراء الباب لماذا جئتم ألم أقل لكم أنى لا أريد أن أراكم؟!

تنهى تنظيف الشقة سريعا تدخل لتغتسل وتنتظر.. يمر الوقت تنتظر من الشرفة تتابع السيارات العابرة أمام العمارة.. لا أحد.. هل أنزل أتمشى على البحر قليلا أم أنتظرهما لننزل سويا.

الخامسة إلا 13 دقيقة.. ستتصل ابنتى.. سيرسل زوجى رسالة.. السابعة وعشر دقائق.. لا رسالة.. ولا اتصال.

هاهو الموبايل يرن أخيرا.. إنها أختى توصينى أن أحدثكم لأطمئنكم علىٍ.. أحدثكم..؟! هل لازلتم هناك.. هل لم تسمعا كل عتابى لكما منذ الأمس..؟! والأكل الذى أعددته.. والشقة التى نضفتها.. لمن كل هذا؟ّ اطفأت نور الشقة كله ودخلت لتنام.. على السرير انفجرت فى البكاء وهى تقول لنفسها (أنا حزينة.. مهما ادعيت عكس ذلك.. حزينة جدا إحساس إننى كم مهمل يعذبنى لم يفكر أحدهما أن يعتذر لى عما بدر منه فى حقى.. لم يفكرا أن يطيبا خاطرى لم يحضر أحد منهما وهما يسعيان لأصدقائهما فى أى وقت وكل وقت. لكن أنا أصبحت على الهامش.. لا حاجة لهما بى ولا يهمهما مشاعرى كل يدور فى فلكه وأنا غبية أعذب نفسى بحسن ظنى بهما. ابنتها كانت دائما تسخر من رومانسيتها قائلة لها (يا ماما بلاش العشم فى الناس الغلط) فعلا لماذا تتسول الحب والاهتمام منهما.

كرهت عينيها المعلقتين بالموبايل.. أذنيها المرهفتى السمع لوقع الأقدام تفكيرها ومشاعرها التى تنجذب لهما فى غيابهم.

نامت ودموعها تغطى وجهها لتصحو على دقات باب متواصلة.. وجرس متقطع.. من؟ قالتها فى توجس لم يجب أحد.. نظرت من العين السحرية رأتهما.. زوجها وابنتها.

رقص قلبها فرحا.. أفندم عايزين إيه.. هى الواحدة متعرفش ترتاح لها يومين إيه اللى جابكوا دلوقتى.. 

يهمس زوجها من وراء الباب (معلش أصل أنا نسيت حاجة هنا وعايزها) باستنكار قالت: عايز إيه؟!

 أجاب بحنان (عايز قلبى اللى هنا) مرت لحظات من الصمت قبل أن تدير المفتاح وتفتح الباب لترتمى ابنتها فى حضنها قائلة: ماما يلا نفطر علشان ننزل البحر!!