السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الزعيــم فــى مســرح كشـكـش بيـــه

سعد زغلول
سعد زغلول

تناولنا فى الحلقة الماضية تطوُّر مسرح نجيب الريحانى، وانتقاله إلى تياترو «الإجيبسيانة»، وكيف أدخل عنصر الاستعراض إلى أعماله، واكتشافه للمؤلف بديع خيرى، وضم سيد درويش إلى فرقته كملحن.



افتخر نجيب الريحانى فى أكثر من موضع بتردد سعد باشا زغلول، القيادى الوفدى وزعيم الأمّة، على مسرحه مرارًا وتكرارًا، وإبداء إعجابه بتمثيله فى مناسبات عدة.

فيقول:«كان الزعيم سعد زغلول يتفضّل بتشريف حفلاتى، والتردد باستمرار على مسرحى لمشاهدة تمثيلى».

وكانت الفترة التى سبقت ثورة 1919، مُلهمة بشكل كبير للمؤلفين؛ إذ التهبت المشاعر الوطنية، وتعالت الأصوات المطالبة بالاستقلال. ويخبرنا «الريحانى» أنه استثمر جماهيرية مسرحه فى توجيه الرأى العام.

يوضح:«حين رأيت الإقبال من الجمهور المثقف، وعامّة الشعب؛ راعيت فى ألحان الروايات أن تكون أداة لإيقاظ الجمهور، وترسيخ حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغنّى بمَجده».

وكان سعد زغلول فى تلك الفترة يؤلّف الوفد المصرى للسّفر إلى مؤتمر الصلح بفرساى لعرض قضية استقلال مصر، وكان ينادى بضرورة تلاحُم جميع فئات الشعب، مَهما تباينت الأديان.

ويشير «الريحانى» إلى تأثُّره بدعوة سعد باشا؛ فضمّن رواية «إش» بـ لحن تلقيه طائفة من سُيّاس الخَيل، تقول خاتمته « لا تقول نصرانى ولا يهودى ولا مسلم.. يا شيخ اتعلّم.. اللى أوطانهم تجمعهم.. عمر الأديان ما تفرّقهم».

ولم يكتفِ «الريحانى» بتسخير مسرحه لقضايا الوطن؛ ولكنه تبرّع من ماله الخاص لخزينة الوفد، وشكره لذلك فتح الله بركات، القيادى بالوفد حينها.

وأمر مستر هورنيلو، مدير الأمن العام حينها، بمصادرة رواية «الريحانى» الجديدة «قولوا له»، ولكن لم تمضِ أيام حتى قامت ثورة 1919؛ فخرج «الريحانى» مع فرقته فى المُظاهرات، ينشدون على أنغام أوركسترا الفرقة نشيد الكشّافة.

دسيسة إنجليزية!

فى خضم الثورة؛ تعرّض «الريحانى» لوشاية من أحد خصومه، اضطرته إلى الهروب من منزله لفترة.

ويحكى أن فى إحدى الليالى جاء الكاتب مصطفى أمين إلى منزل «الريحانى»، وهو يلهث من التعب، يخبره « انج بنفسك يا نجيب فإنك الليلة مقتول لا محالة».

وفسّر «أمين» تحذيره بأنه أتى من الأزهر الشريف؛ حيث عقد اجتماع حافل، وفيه وقف شخص من خصوم «الريحانى» على المنبر، وأشاع أنه دسيسة إنجليزية، أمدوه بالمال ليلهى الشعب برواياته؛ فهتف الناس ضده، وتوّعدوا بقتله.

وفى دقائق؛ هَمَّ «الريحانى»، وأخذ عربة، وأقام بفندق «هليوبوليس هاوس» بمصر الجديدة لعدة أيام، لكنه كان يتردد على مسرحه فى كل صباح للاجتماع بأعضاء فرقته للاتفاق على المشاركة فى المظاهرات؛ حيث إن المسارح كانت مُعَطلة وقتها بأمر السُّلطة.

وانتشرت الشائعة نفسها بعد ذلك، عند عرض «الريحانى» لمسرحية «العشرة الطيبة»، التى كانت تتحدث عن استبداد الشراكسة؛ فاستغلَّ خصومُ «الريحانى» ذلك، وأشاعوا أن القصد من الرواية هو تجسيم مساوئ الأتراك فى عيون المصريين، وتقريب الإنجليز لقلوبهم.

ولدحض تلك الشائعة؛ استعان «الريحانى» بـ مرقص حنّا، القيادى بالوفد حينها، ودعاه للحضور إلى المسرح ومشاهدة الرواية والحُكم عليها؛ فنشر «حنا» بالصحف فى اليوم التالى، وبرّأ ساحة «الريحانى».

وتعتبر «العشرة الطيبة» أول عهد الأوبريت فى الفن المسرحى، وهى مقتبسة من رواية فرنسية تُدعَى «اللحية الزرقاء»، التى كلّف «الريحانى» محمد بك تيمور بترجمتها وتمصيرها، وألّف ألحانها بديع خيرى، وعهد بها إلى سيد درويش لتلحينها.

واستدعَى «الريحانى» صديقه عزيز عيد العاطل عن العمل، وطلب منه تشكيل فرقة جديدة، واستأجر له مسرح كازينو «دى بارى»؛ ليشرف «الريحانى» بذلك على فرقتين.

 

حوادث كشكش بك
حوادث كشكش بك

 

وتألفت الفرقة الجديدة من «روزاليوسف، محمود رضا، منسى فهمى، مختار عثمان، استيفان روستى، والمطرب زكى مراد، والمطربة برلنتة حلمى، ونظلى مزراحى».

أصيب «الريحانى» بتدهور مادى ومعنوى بعد ذلك، بسبب نكبات متوالية تعرّض لها فى حياته الشخصية والعملية. واشترى «الريحانى» بجزء كبير من مدخراته كميات هائلة من الليرات والفرنكات، والأسهم، والماركات، ولكنها هبطت أسعارها جميعًا، ما تسبب له فى خسارة مالية كبيرة.

فى تلك الفترة؛ وقع خلاف بين «الريحانى» وعزيز عيد، والشيخ سيد درويش، أدى إلى انفصالهما عن الفرقة. والنكبة الكبرى فى تلك الفترة كانت وفاة والدة «الريحانى»، بالإضافة إلى اختفاء شقيقه الأصغر والأقرب إلى قلبه فى ظروف غامضة؛ فلم يعلم أحد مصيره من بعدها، وسر الاختفاء.

فتوات وبلطجية!

يحكى «الريحانى» عن ظهور طوائف البلطجية فى تلك الفترة، الذين التفوا حول أولاد الذوات من روّاد المسرح، وكيف استغلَّ خصوم «الريحانى» هؤلاء فى إثارة القلاقل والمشاجرات داخل التياترو.

ويكشف «الريحانى» عن أن نيران البلطجية كانت ستصيبه فى كثير من الأحيان؛ فيقول: «لا أنسى أن رصاصة مسدس أطلقت علىَّ شخصيًّا أثناء التمثيل، ولكن الله سَلّم، وفى ليلة أخرى أطلق نحوى حصا نبلة كادت تصيب عينى إلا قليلًا».

وإزاء ذلك؛ فكر «الريحانى» فى حيلة للقضاء على تلك الظاهرة؛ فاتفق مع يوسف شهدى، زعيم هذه العصابات، على العمل داخل التياترو مقابل أجر ثابت؛ فوقفت المشاغبات نهائيًّا.

وفى إحدى الليالى؛ زار «الريحانى» صديقٌ له، وبصحبته فتى صغير، لطيف المَظهر، فى عينيه دلائل النبوغ، وطلب الصديق من «الريحانى» إلحاق هذا الفتى بفرقته، لأنه يمتاز بحنجرة موسيقية نادرة، وصوت خلاب.

وكان هذا الفتى هو الموسيقار الراحل محمد عبدالوهّاب. ورُغم ما توسّم فيه «الريحانى» من موهبة؛ فإنه لم يضمّه لفرقته، لعدم اتساع المجال لذلك وقتها.

فكّر «الريحانى» فى إنشاء مسرحه الخاص؛ فوقع اختياره على صالة بجوار مقهى يُدعى «راديوم» فى ملتقى شارع عماد الدين مع قنطرة الدّكة، وملاصقة لمسرح «رمسيس»، وأطلق عليه اسم «ريتس».

استأجر «الريحانى» الصالة من المسيو «عاداه» مقابل مبلغ ألف جنيه فى السَّنَة، وشرع فى بناء التياترو الجديد، فى أغسطس 1926، حتى انتهى التعاقد فى عام 1931.

وفى أحد أيام عام 1931؛ زار استيفان روستى صديقه «الريحانى» وبصحبته المصور السينمائى «كيارينى»، وعرضا عليه الاشتراك معهما فى إخراج فيلم سينمائى صامت؛ فرفض أول الأمر، لكنه وافق بعد إصرار.

وأخرج الفيلم باسم «صاحب السعادة كشكش بك»، بتكلفة 400 جنيه، وحقق النجاح الجماهيرى المطلوب منه، وكانت بداية «الريحانى» فى السينما.

وفى أواخر عام 1933؛ وصل لـ «الريحانى» برقية من الكاتب إميل خورى، وكان سكرتير تحرير سابق لجريدة الأهرام، ومعها تحويل بمبلغ 50 جنيهًا، يطالب فيها «الريحانى» بالذهاب له إلى باريس؛ لتصوير فيلم سينمائى.

ورُغم اعتراض «الريحانى» على أسلوب سيناريو الفيلم؛ فإنه اضطر إلى تمثيله بسبب تدهور أحواله المادية حينها. وانتهى الممثلون من تصوير الفيلم فى ستة أيام فقط!، وأطلقوا عليه اسم «ياقوت».

وقدّم «الريحانى» فيلمه الثالث بعنوان «بسلامته عايز يتجوز»، مقابل 800 جنيه، و5 فى المئة من الإيراد، وعهد الفيلم إلى مخرج مجرى، رُغم اعتراض «الريحانى» عليه، وجاء الفيلم ضعيفًا ومخيّبًا للآمال كما توقّع «الريحانى».

ويصف «الريحانى» ذلك فى مذكراته بقوله: «حين رأيت نفسى على الشاشة لم أكن أتصور أننى بمثل هذه الفظاعة المؤلمة، وأننى من السخافة على مثل هذه الدرجة التى ابتدعها المخرج من أفكاره البايخة».

وعرض أحمد سالم، مدير استديو مصر وقتها، على «الريحانى» تمثيل فيلم جديد، وحاول «الريحانى» الاعتذار له خوفًا من تكرار تجاربه السينمائية السابقة التى لم تحقق النجاح، ولكنه وافق تحت إصرار «سالم»، واشترك مع المؤلف بديع خيرى فى تصوير فيلم «الحل الأخير»، الذى حقق نجاحًا مقبولًا.

وكان نجاح هذا الفيلم دافعًا لـ «الريحانى» لاستكمال مشواره فى السينما؛ فقدّم بعدها فيلم «سلامة فى خير»، الذى ألّفه صديق عمره بديع خيرى، وأخرجه نيازى مصطفى. وحقق الفيلم نجاحًا كبيرًا عند عرضه، فى عام 1937.

وفى الفترة من 1937 حتى 1948؛ قدّم «الريحانى» أفلام «سى عُمر»، «لعبة الست»، «أحمر شفايف»، «أبو حلموس»، وأخيرًا «غزل البنات». وظلَّ «الريحانى» يجمع بين السينما والمسرح حتى وافته المنية عام 1949.