الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سمير غانم .. وداعًا أسطورة الضحك

يوم الخميس الماضى، خالف سمير غانم الاتفاق الذى أبرمه مع جمهوره لأول مرة منذ ستين عامًا، اتفاقًا كان ينص على أنه كلما ظهر سيضحكون، أيًا كانت طبيعة ومساحة وظروف هذا الظهور، على المسرح، على الشاشة، ممثلاً، مطربًا، ضيفًا فى برنامج، صورة فى مجلة، بطلًا رئيسيًا، بطلاً ثانيًا، ضيف شرف، صامتًا، متكلمًا، ثابتًا، متحركًا، سيضحكون، لم يتخل الطرف الأول عن الاتفاق إلا رغمًا عنه، صعدت روحه إلى السماء فترك الطرف الثانى حائرًا.



 

 كيف يبكى ستة عقود من «العشرة» والمحبة والأُلفة والسعادة فيما كل الذكريات تتدافع لتتحول إلى ابتسامات زرعها سمير غانم فى ذاكرة جمهوره بحب وإخلاص، ورواها بصدق وإنسانية فأثمرت كوميديا لا تهزمها متغيرات الزمن ولن ينال منها مصير كل إنسان، الموت الذى جاء ليفسر من جديد كيف تحول الضلع الباقى من ثلاثى أضواء المسرح إلى «أسطورة» ستبقى عابرة للأجيال، أسطورة كوّنها صاحبها ليس بموهبته فقط؛ وإنما بسمات شخصية فريدة قلّما أن تتكرر فى فنان آخر.

تمامًا عندما تذهب إلى سرادق عزاء لتواسى أهل المتوفى فتجد نفسك فى حاجة لمن يواسيك، هكذا فقد المصريون والعرب أحد أهم وجوه بهجتهم لسنوات طويلة بعد نحو أسبوعين من أزمة صحية، أثارت الجدل حول سبب وفاته الحقيقى، هل هى الكورونا أم مضاعفات أخرى، لكن الجمهور نفسه لم يتوقف لحظة الوفاة عند تلك التفاصيل، وإنما كانت الصدمة فى أن المفارقة قد وقعت، مطلوب أن نبكى رجلًا طالما أضحكنا بكل ما أوتى من قوة وموهبة وفطرة وخفة ظل، كان التناقض كبيرًا وربما غير متوقع، أن يجد الناس وهم ينعونه على مواقع التواصل الاجتماعى أنفسهم يكتبون إيفيهاته رغمًا عنهم، ليس واحدًا أو اثنين أو عشرة، بل مئات من المواقف التى تجعل سمير غانم بحق هو أسطورة الضحك التى تكونت عبر الزمن ووضعت الكثيرين فى مأزق القدرة على تحقيق ولو نصف ما تركه من سعادة.

 

 
 
الرئيس ينعى الراحل
الرئيس ينعى الراحل

 

صاحب الرسالة

مثال بسيط على المفارقة، المشهد الشهير بين سمير غانم وفريد شوقى فى «يارب ولد»، مشهد «تعيش إنت يا حاج»، حيث يكتب أحدهم «سمير غانم.. تعيش إنت يا حاج»، فتستدعى الذاكرة على الفور مشهد تقدمه لخطبة ابنة الحاج الأسيوطى، فتجد «حبل الإيفيه» يطول، ويمتد ليشمل المشهد كله، ثم باقى مشاهد الفيلم، مع إسعاد يونس وأحمد راتب وإكرامى، مشهد الفرح، مشهد الكتاكيت، ومواجهته مع الحاج صقر فى مغلق الخشب، «هتكتب عقد هكتب عقد»، «ابقوا تعالو بكرة يمكن أبيع لكم المحل»، «احنا داخلين على طمع بس مبنقولش»، كل هذا فى فيلم واحد مضى على إنتاجه حوالى 40 عامًا، قصته غاية فى البساطة، لكنها سر الفن، سر سمير غانم القادر على أن يخرج بالضحكة أيًا كانت الملابسات، أنت تشاهده ومتوقع مسبقًا أنك ستضحك، من خلاله هو، من خلال رد فعله على الممثل المقابل، من خلال صمته أو حركته، طبق الناس بعد خبر الرحيل نفس المثال السابق على ما اشتهر من أعماله، هو الذى كان يصور أربعة أفلام فى نفس الوقت، لا يقول لا للعمل، يرفض تعبير أفلام المقاولات، يرفض انتقاد سينما الضحك للضحك، يرى أن الضحك فى حد ذاته رسالة وقد أوصلها للناس فاحتفظوا بها واستعادوها لحظة الرحيل فبكوه بصعوبة حين غلبتهم الابتسامات.

 

 

 

قواعد الأسطورة

أسطورة سمير غانم تكوّنت على مهل، عبر قواعد وضعها هو لنفسه وكان الأكثر التزامًا بها، كان يشعر من داخله كما يقول أن لديه الموهبة، لم يكمل دراسة الشرطة ولا الحقوق، استقر فى الزراعة ليتفرغ للمسرح، كان طموحه أن يقدم فنه ولم يفكر فيما هو أبعد، حتى تكوّن الثلاثى، سمير والضيف أحمد وجورج سيدهم، وتكونت على إثرها الفرقة المسرحية باقتراح الضيف الذى كان أول من غادر، ليكمل سمير وجورج، ثنائى متفاهم له مذاق خاص رفضا أن يستبدلا فنانًا آخر بالضيف أحمد، معادلة الفن لا تتحمل تلك المخاطرات، ومعادلة سمير غانم ظلت تحافظ على قواعدها بعد غياب الضيف ومرض جورج.

قواعد سمير غانم كانت واضحة منذ البداية، أريد للناس أن يضحكوا، أن يشعروا  بالسعادة، أن يرتاحوا كلما رأونى على الشاشة أو فى الشارع، عندما يضع أى فنان – قل أى إنسان- لنفسه القواعد مبكرًا، فإن كل شىء يصبح معقولًا بعدها، والإجابات على الأسئلة تصير أسهل، لم يرد البطولة وشباك التذاكر، تعامل مع الثروة على أنها رصيد من الضحكات لا الجنيهات، لهذا لم يسع لأى منافسة، حتى النقد السلبى الذى طاله أحيانًا لم يعطله، لم يغير من قواعد المعادلة، اقتنع بما يقدمه وظل ينتجه متفاهمًا مع متغيرات الأمور فى الحياة وفى الفن، حتى إنه الفنان الوحيد الذى غيّر شكله تمامًا ولم يشعر الجمهور نحوه بأى غربة، بل تحول شعره المصطنع نفسه دليلاً على تصالحه مع الزمن فظهر بباروكة بيضا تليق بسنه أحيانًا، وظلت ملابسه واكسسوارته لا يرتديها إلا سمير غانم، فهو عصى على التقليد بعيد عن التكرار . 

ما فعله سمير غانم ببساطة، أنه أخلص للضحك، ولم يقدم غيره للجمهور، قرر أن يقدمه سواء بطلاً لفيلم أو مساعدًا للبطل، أو ضيف شرف، وعندما تقدم به العمر لم يرفض أن يظهر فى مشهدين أو أقل ومع كل الأجيال، لم يكن يقول لا لأن الجمهور دائمًا ما يستقبله بنعم، وعندما كبرت البنتان، وقف إلى جوارهما دون أن يجد متفرجًا واحد نفسه يقول أن سمير يقدم هذا الدور لأنه والد النجمة، أو أن دنيا وإيمى تجاملان  والدهما بدور لا يليق عليه، بالعكس كان هو الداعم الذى يدفع ظهوره العمل للأمام وكأنه يستعيد أيام البدايات عندما كان منتشرًا فى معظم أفلام الستينيات، فجاء العقد الأخير ليشهد انتشارًا يليق بأسطورة فشل جمهورها فى البكاء عليه، فهو من أضحكهم حيًا وسيظل يضحكهم حتمًا بعد الرحيل.