السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
لا نريد جزاءً ولا شــــكورًا

لا نريد جزاءً ولا شــــكورًا

لا يعيد التاريخ نفسه كل الأوقات.. فأحيانًا ما يجبر بعضهم التاريخ على اجترار الماضى.. وحوادث الماضى.. بلا دروس مستفادة من آثام الماضى.. وبلا رغبة فى التعلم من خطايا الماضى.



بعضهم يتاجر بالتاريخ، ويضع بين بضاعته رقاب الأبرياء. وبعضهم يحمل آثامه وأخطاءه وبلاويه، ويلقى بها على ظهر مصر.. وعلى كاهلها.. وعلى عاتقها، بينما مصر الكبيرة تتفهم، وتستوعب، وتحتوى، وتُقيم الدنيا فلا تقعدها.. وتحشد العالم ولا تتركه.. تحقيقًا لثوابتها الأخلاقية.. وانطلاقًا من أدوار تاريخية.

تنطلق مصر نحو الأزمة الفلسطينية، كما العادة، وكما دائمًا، من مسئوليات جينية، استجابة لمحددات التاريخ، ومقتضيات الجغرافيا.. مدفوعة بمقومات فيزيائية القدرة.. وكيمياء المسئولية. 

على مواقع التواصل، وكالعادة صيد فى ماء عكر، ومحاولات دس السم. شبق إخوانى رهيب، منذ اندلاع الأحداث فى غزة لقلب الصورة، وتشويه الواقع، بإدمان نظر فى مرايات مقعرة.

العادة غالبة، والغرض مرض، لكن تقول إيه؟ 

على السوشيال ميديا تكثر قلب الحقائق، وتزيد مخدرات الفكر، وهلاوس الألسنة، وكلها تخرصات، وتلسين ليس خالصًا لوجه الله.

 

(1) 

فى الأزمات تحين الفرص للقفز على الواقع والحقيقة، وعادة ما تكون القاهرة قبلة محاولات الصيد فى الماء العكر، ففى الأزمات يُلقى الخراصون الشباك، طمعًا فى نجاح محاولة ضرب تحت الحزام هنا.. أو أملاً فى نجاح محاولة إحداث قدر من بلبلة هناك. 

فى الأزمات تحلو الفرص، وترتفع معدلات الهرى، لكن معلوم.. لا تدار الأزمات من على مواقع التواصل. ومعلوم أيضًا أن إدارة الحوادث الكبرى، والأمور الجلل، لا يجدى معها طعن إرهابى هارب يقبض بالدولار فى أنقرة، ولا إخوانى تالف يركب الرانج روفر، ويتعطر ببرفانات باريسية صباحًا فى لندن، قبل أن يبدأ رحلته فى النضال دعمًا للقضية الفلسطينية مساءً من على كى بورد الآى باد!!. 

مصر كبيرة.. وتصغر فى عين الكبير الكبائر. لكن للإنصاف، مازال بعضهم يفسد الماء العذب شرقًا، ثم يدفع بالمشاكل، والعقبات، والأزمات، فيصرها فى ملايات ملطخة بدماء الأبرياء، ويضعها عند أقدام القاهرة انتظارًا للحلول!

والقاهرة كما هى دائمًا، تتحمل مسئولياتها، بجهود لا تتوقف، ورحلات مكوكية لا تهدأ حقنًا للدماء، وصونًا لأرواح أبرياء.. ودعمًا لقضية قدمت فيها مصر وحدها أكثر مما قدمه العرب.. وحققت فيها مصر أكثر مما حققه العرب.. ودافعت فيها مصر عن العرب.. أكثر مما دافع فيه عن العرب.. العرب.

لا تريد مصر جزاءً ولا شكورًا.. فقدر الكبير أن يكون كبيرًا.

 

(2) 

أدارت مصر سبل إيقاف الإعتداءات الغاشمة الإسرائيلية على غزة بليل موصول بالنهار منذ اندلاعها، وفقًا لثوابت وطنية، وانطلاقًا من يقين عروبى لا يمليه إلا واجب تاريخي، ومقدرات معلومة قادمة من زمن ماضٍ.. فى اتجاه الآتى.. بطيب خاطر.

على طول مسار التاريخ لم تتوقف مصر دعمًا لحلول عادلة للقضية الفلسطينية، ويبقى وراء الكواليس أكثر مما يظهر أمام الكاميرات.. والمواقف المصرية فى المكاتب المغلقة؛ أكثر من الحزم فى أروقة الجامعة العربية ومكاتب مجلس الأمن.

لم تتوقف مصر عن سد الثغرات المفتعلة فى حوائط السياسة، ولا عن التعامل مع التقلبات المتعمدة على خريطة الإقليم. تدعم مصر حقوق شعب عربى جريح فى الحياة بلا جدال، لكن للإنصاف، يبقى التأكيد على أن فى الثوب رقعًا كثيرة، وخلف الأمور أمورًا أكثر.. بينما لم تتوقف مصر الكبيرة عن رأب الصدوع، ورتق القطوع.. وتخطى الدسائس.. التى كثيرًا ما وصلت إلى الداخل المصرى.. مع أن العدو فى الاتجاه الآخر ؟!

متى تخلت مصر عن فلسطين؟

إن جيت للحق، حتى السؤال بتلك الصيغة ليس منصفًا.. والأوقع أن يكون السؤال: ما الذى قدمه الآخرون للقضية مقارنة بما قدمته مصر ؟

دعم مصرى دائم للقضية الفلسطينية
دعم مصرى دائم للقضية الفلسطينية

 

 (3) 

فى الأزمة الأخيرة، وفى قلب تل أبيب حذرت مصر بحسم من عواقب التصعيد.. وهددت بتجميد ملفات عدة إذا لم تتوقف آلة الحرب الغاشمة ضد الفلسطينيين فى غزة.

من الجامعة العربية، وحتى مجلس الأمن حشدت القاهرة رأيًا عامًا خرجت فيه الدبلوماسية الدولية والصحافة الأوروبية منددة بمواقف إسرائيلية عدائية، لتقع تل أبيب تحت ضغوط صخرية ثقيلة، بدا منها، بالضرورة، ولعوامل عدة أنها لن تُقدم على أى عملية برية ضد غزة تزيد الأمور سوءًا.. وتزيد الوحل وحلاً، وأنه لم يبقَ أمامها إلا وقف الافتراء.

من غير القاهرة أخذ على عاتقه اللعب بالأوراق كلها وحده؟ من غير القاهرة يدير الأمور وحده مع كل أزمة، ومع كل تشابك.. ومع كل حريق؟ من حمل وتحمل غير القاهرة وحدها آثام البعض.. وأهواء آخرين؟ 

حملت القاهرة آثام الجميع وحدها، ولعبت بالأوراق وحدها، وأدارت الأمور وحدها، وسدت الثغرات وحدها، وقدمت أبناءها وحدها، وأقامت الليل بالنهار وحدها، ثم يجىء أحدهم محاولاً «خربشة» الواقع من غرفة مكيفة فى تركيا، أو شقة فخمة فى حى ماى فير الإنجليزى، بكلام فارغ، وهلاوس حاقدة، وأحاديث لم تعد تنطلى على أحد.. قبل أن يقوم لصلاة العشاء.. بعد عشاء فاخر.. وينام؟ 

من يصدق أن تؤثر فى الواقع «خربشات»؟ 

(4) 

فى أزمات الإقليم الكثير مما لا يعرفه العامة، والكثير مما لا يفطن له إلا أصحاب القرار. إدارة الأزمات الكبرى غالبًا ما تختبئ تفاصيلها فى الكواليس.. وكواليس الأزمة الفلسطينية تكثر فيها الستائر السوداء، تمامًا كما ترتفع فيها معدلات الأهواء السوداء.. والماورائيات السوداء! 

الجوانب متعددة، وفى الأزمة الأخيرة تزيد الاتجاهات عن الاتجاهات الأصلية الأربعة. صحيح ليس كل الكلام مباحًا، لكن أحيانًا ما تكون أطراف الخيوط حقائق لابد أن تُقال. 

للإنصاف، غطت صواريخ الفصائل بامتياز على دعم عالمى للفلسطينيين بعد واقعة الشيخ جراح. وللإنصاف أيضًا، وضعت مسالك بعض الفصائل الأبرياء فى غزة على طبق من ذهب أمام حكومة إسرائيلية مهددة بالرحيل، فى فرصة تحينتها تلك الحكومة محاولة كسب أبناط على حساب مواطنى غزة.

فى تل أبيب كثيرون سفاحون، وفى الأزمة الأخيرة، استغل نتنياهو فرصة صواريخ أطلقتها الفصائل، رغم ضآلة تأثيرها، اقترابًا من مدار انتخابات إسرائيلية تقترب، وفى أيام يسعى فيها نتنياهو لئلا تكون الأخيرة له على رأس الوزارة. 

ناور نتنياهو على حساب فلسطينيى غزة، لكن، ووفقًا لسوابق الماضى، وللإنصاف مرة رابعة، كثيرًا ما منح رموز بعض الفصائل فى غزة الفرصة لأن تقام الحكومات الإسرائيلية على عظام نساء وشيوخ وأطفال لا يعرفون عن السياسة، ولا عما تعنيه مصطلحاتها.. أو معادلاتها.. أو مناوراتها. 

تحاول الحكومة فى إسرائيل بالقوة الغاشمة حصد أصوات يمين متطرف هناك، وتغازل بدماء الفلسطينيين أصوات الأصوليين اليهود. 

لكن فى الجانب الآخر، من الضفة الغربية إلى غزة، تخفى الانتخابات الفلسطينية المؤجلة فى كواليسها مزيدًا من التفاصيل المتشابكة.. والمعقدة.

من غزة يستهدف بعضهم إضعاف سلطة فتح فى الضفة، مستغلاً الفرص ولو على حساب أبرياء، لإذابة حبائل تواجد أبومازن على رأس السلطة. يتاجر هؤلاء بدماء أبرياء الفلسطينيين فى مواجهة آلة حرب إسرائيلية لا ترحم، بينما ينزلون هم للمخابئ، قبل أن يخرجوا بعد انتهاء القصف إعلانًا للانتصار والصمود!!

أطلقت مصر تحذيراتها فى غزة تمامًا كما أطلقتها فى تل أبيب. عادت حماس توافق على هدنة كانت قد رفضتها، وعادت إسرائيل لرفض ما كانت قد قبلته.

لم تتوقف مصر على الطريق الصعب لإيجاد حلول، ورغم محاولات بعضهم إبقاء الحرائق مشتعلة، لعبًا على حبال المقاومة والصمود وشعارات أخرى لا يدفع من يطلقها ما يدفعه المواطن الفلسطينى ثمنًا على الأرض.  تدفع مصر كما دفعت مرارًا ثمن مسئولياتها التاريخية. تحوز مصر أغلب المفاتيح.. وكل المفاتيح.. هذا صحيح، لكن مازال هناك من يصر على إغلاق الأبواب من الداخل بالضبة والمفتاح.

فى غزة تطحن الغارات الإسرائيلية الأرض وتسحق الأبرياء، بينما هناك من يزعم إدارته المقاومة من مخابئ ازدحمت حوائطها بالشعارات، قبل أن يخرج هؤلاء ليعلنوا الانتصار.. فى معارك غير متكافئة لم توقفها إلا مصر. قدر ومكتوب على مصر.. لم يسبق أن سعت القاهرة إلى جزاء ولا شكور.