الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات الشيخ الحصرى.. رفض التــجارة بكتــاب ربنـــا

قبل ميلاده بأيام، رأى والده فيما يرى النائم كأنما يخرج من ظهره عنقود من العنب يطعم منه الناس، وكلما ذاق أحدهم منها واحدة قال مادحاً ومعجباً: «الله!».



فقصَّ على شيخ القرية رؤياه، فأخبره أن الله سيجعل من ذريته من ينتفع الناس بعلمه، ونصحه أنه إذا رزقه الله بولدٍ أن يُحفّظه القرآن، فجاء إلى الدنيا الشيخ محمود خليل الحصرى ليصبح «شيخ المقارئ المصرية».

 

روى عنه أنه كلما ذهب إلى قريته نزل من سيارته قبل شجرةٍ معينة ثم ترجَّل، حتى إذا ما جاوزها ركب مرةً أخرى، فلما سُئل عن ذلك أخبرهم أنه قد أتمَّ حفظَ القرآن تحت هذه الشجرة، فيستحى أن يمر من أمامها راكباً، وأصرَّ على شراء الأرض التى بها تلك الشجرة، فأقام عليها معهد الحصرى التعليمى.

ولد الشيخ محمود خليل الحصرى، فى غرّة ذى الحجة من عام خمسة وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، السابع عشر من سبتمبر عام سبعة عشر وتسعمائة وألف ميلادياً، بقرية شبرا النملة، مركز طنطا، محافظة الغربية.

كانت نشأته فى القرية وفى كتاتيبها، واهتمّ والده به محفزاً له على حفظ القرآن الكريم مبكراً، ودخل الكتّاب من عامه الرابع، واستمر يحفظ القرآن وأتم حفظه فى العاشرة من عمره.

يحكى المقربون أنه كان ذكياً، ويظهر ذلك فى حفظه القرآن مبكراً، كما كان يهتم بتحفيظ أهله القرآن فيما بعد، وحفظ أحفاده على يديه بعض أجزائه، وكان يوقظ أسرته لصلاة الفجر ويؤمهم فيها.

لم يأت حتى الآن من يملأ فراغ الشيخ الحصرى أو يتجاوزه، وقد مر ما يزيد على ستين عاماً من أول نسخة قرآن كريم مسجلة بصوته، فجميع قرّاء القرآن فى العالم الإسلامى ربما يبرعون بعض الشىء، ولكن إذا ما ذُكِرَ الحصرى تراهم موضع التلميذ من الأستاذ.

كان الحصرى متفرداً فى تلاوة القرآن بالحرف، يقرأ القرآن بالحرف كما يقول كثير من أهل القرآن عنه، ولم يكن الحصرى مهتماً فى المقام الأول بالصوت العذب، بل بجودة القراءة، وأحكام التلاوة، والوقوف عند كل حرف وإعطائه حقه فى المخارج والأحكام، فكان كما لو أنه يفسّر القرآن بتلاوته كما يفسره المفسرون فى كتبهم.

وامتدت رحلة الشيخ الحصرى لأكثر من خمسة وخمسين عاماً ما بين تلاوة وتفسير وتحفيظ وتجويد لكتاب الله، ففى عام 1944 تقدم الحصرى لاختبارات الإذاعة، واجتاز الاختبار وتم التعاقد معه، وكانت أول قراءة له على الهواء مباشرة عام 1944.

وعين الحصرى شيخًا لمقرأة سيدى عبدالمتعال بطنطا، وفى عام 1948 صدر قرار بتعيينه مؤذناً بمسجد سيدى حمزة، لكنه طلب أن يكون قارئاً للقرآن يوم الجمعة، فصدر قرار بنقله إلى وظيفة قارئ سورة بنفس المسجد، ثم قرار بإشرافه الفنى على مقارئ محافظة الغربية، قبل أن ينتدب للقراءة بمسجد أحمد البدوى بطنطا حتى توفى قارئ مسجد الحسين بالقاهرة الشيخ الصيفى، فعين الحصرى خلفًا له مقرئًا بمسجد الحسين وانتقل للقاهرة.

يروى أحد أبنائه: «كان يعطى كل من حفظ سطراً قرش صاغ بجانب مصروفه اليومى، وإذا أراد زيادة يسأله حفظ المزيد من آيات الله، وكانت له فلسفة فى ذلك، فهو يؤكد دائماً على حفظ القرآن الكريم حتى نحظى برضا الله علينا ثم رضا الوالدين فنكافأ بزيادة فى المصروف وكانت النتيجة أن التزم كل أبنائه بالحفظ.

يضيف ابنه: أذكر أنه عام 1960، كان يعطينا عن كل سطر نحفظه خمسة عشر قرشاً وعشرة جنيهات عن كل جزء من القرآن نحفظه، وكان يتابع ذلك كثيراً إلى أن حفظ كل أبنائه ذكوراً وإناثاً القرآن الكريم كاملاً والحمد لله».

عام 1960 قررت الحكومة المصرية أن يكون هناك نموذج صوتى لتلاوة القرآن يكون مَرجعاً.

جمعت الحكومة أفضل القرّاء ذلك الوقت، وطلبت منهم أن يكتب كل قارئ المبلغ الذى يريد أن يتقاضاه لتسجيل المصحف المرتل كاملاً فى مظروف، ثم يعطيه للجنة المختصة من الإذاعة، ولكنَّ قارئاً واحداً كان فى مظروفه عبارة: «لا أتقاضى مالاً على تسجيل كتاب الله».

كان هذا هو الشيخ محمود الحصرى، وتم أول تسجيل كامل للمصحف المرتل بقراءة حفص عن عاصم، وبصوت الشيخ الحصرى، ثم تلا ذلك تسجيله بقراءات عدة، مثل ورش عن نافع وقالون والدورى عن أبى عمرو، وظلّ القرآن الكريم لعشر سنوات يُتلى آناء الليل وأطراف النهار على إذاعة القرآن الكريم بصوته.

وعام 73 كان الشيخ الحصرى أول من رتل القرآن الكريم فى أنحاء العالم الإسلامى وفى الأمم المتحدة أثناء زيارته لها بناء على طلب جميع الوفود العربية والإسلامية.

عام 1978 رتل القرآن الكريم فى القاعة الملكية وقاعة هايوارت المطلة على نهر التايمز فى لندن ودعاه مجلس الشئون الإسلامية إلى المدينتين البريطانيتين ليفربول وشيفلد ليرتل أمام الجاليات العربية والإسلامية، وكان أول من ابتعث لزيارة المسلمين فى الهند وباكستان وقراءة القرآن الكريم فى المؤتمر الإسلامى الأول.

عام 1980 بدأ المرض يداهم «الحصرى»، حيث كان مريضاً بالقلب، وتوفى عام 1980 بعد أدائه صلاة العشاء، وكان الشيخ يقوم بنفسه بمتابعة إتمام بناء المعهد الدينى ببلدته ومسقط رأسه «شبرا النملة» قبل وفاته بعام واحد، وكان يحاول الانتهاء من بناء مسجد آخر.

يحكى أن الراحل كان يحرص على إهداء كل ضيف يزوره كتاب الله، ولم يكتفِ الشيخ بأن يهب حياته كاملةً للقرآن، بل أوصى قبل مماته بترك ثلث ثروته للأعمال الخيرية، وقرَّر طلابه أن يُنشئوا بها مركز الحصرى، الذى يشمل المعهد الابتدائى والإعدادى والثانوى.