الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الاختيار.. دراما الدمـــــاء الذكيــة والفـــداء بالمســـتندات

الاختيار.. دراما الدمـــــاء الذكيــة والفـــداء بالمســـتندات

توجيه الفنون ليس عيبًا. بالعكس؛ الأصل فى الإبداع التوجيه. ليس هناك ما اسمه إبداع محايد.. ولا إعلام محايد. الحياد فى المعارك خيانة.. وفى النظرية أن الإبداع هو استخدام ما لدَى المبدع من وسائل إبهار لبيان واقع. 



توجيه الفنون ليس عيبًا؛ خصوصًا لو كان التوجيه، توعية بواقع، وشرحًا لحقائق، وتحذيرًا من مؤامرات؛ خصوصًا لو كانت الفنون وسيلة لديها من قدرات فائقة على كشف النذالات، وبيان الخيانات، واستيضاح ما كان يحاك، ولا يزال يُحَاك،  فى حق الوطن والبلد وناس البلد. 

لذلك تبقى نوعية الدراما بالمستندات (مسلسل «الاختيار» نموذجًا) نوعًا من أنواع فنون الخلط بين التسجيل بالصوت والصورة، وبين المَشاهد فى الاستوديوهات، بوقائع مصورة، وأحداث موثقة، تبقى أكثر أثرًا.. وأشد تأثيرًا..

 

 فى ذهنية مجتمع، لا بُدَّ أن يعرف كثيرًا مما حدث.. وكثيرًا مما يحدث.. ولا بُدَّ أن يعى أكثر مما وعَى.. فى معركة لا تزال مستمرة، وخيانات لا تزال هى الأخرى مستمرة.. وحيث اللعب بالأدمغة.. والضحك على الذقون مستمر أيضًا. 

(1) 

فى أزمة سابقة، وسنوات سابقة، تمسك بعضهم بجمل «فاضية»، وشعارات مبتورة عن «حرية الفن»، ورقابة المبدع على نفسه. كانت كلها حُجَجًا استغلها بعضهم، وركب عليها آخرون.. فمرمطوا سُمعة الفن فى الأرض، وعَفّروا بأعمالهم وجْه المجتمع فى التراب. 

مَن قال إن حرية الإبداع مرادف لإطلاق عنان خبائث على الشاشة، أراد أصحابها حشرها فى خانات الفن، رغمًا عن الفن، وزنقها فى الإبداع، غصبًا عن الإبداع. 

من قال إن الفن مفهومٌ مطلقٌ.. يطلقه مَن أراد على ما يريد؟ مَن يمكن أن يقول، ومن يمكن أن يصدق، أن حرية الفن، لأنها حرية، فإنها يمكن أن تساوى ما بين الإبداع الحقيقى ورسالة الفنون، وبين ما يجب أن يُلقى فى سلات المهملات، وصناديق القاذورات. 

معلوم، فخلال الخمسين عامًا الأخيرة، صدرت عشراتُ الأفلام، ومئاتُ الأعمال الدرامية، وألوفٌ من مسرحيات، لو أردت تقييمها، بَعد مرور سنوات على ظهورها، لا يصح إلّا أن تنقلها بيدك إلى صناديق المهملات. 

وصناديق المهملات، مرّة أخرى، يعنى صناديق الزبالة بالعامية الدارجة؛ حيث قاذورات الزمن.. ومُلقيات التاريخ. 

الفنون أمن قومى، ورسالة الفنون استراتيجية، لذلك كان لا بُدَّ من استعادة الدولة لزمام الفنون. كان إمّا أن تستعيد الدولة المبادرة، وإمّا أن تستعيد مؤسّسات وطنية المعادلة؛ حيث الفنون رسالة موجّهة أقوى من الرصاص، وحيث القوة الناعمة، على حقيقتها، أشد تأثيرًا من دانات الـ«آر بى جى». 

ما أشاعه الجزء الثانى من مسلسل «الاختيار» من أجواء فى الشارع دليل، وما تركته أحداث المسلسل من روح فى الذهنية الجمعية إشارة. 

فإذا كان هناك مَن يلعب على وتر الشارع فتّ فى عضد الشارع، فلا بُدّ لرسائل التوجيه الفنى، أن تنفذ هى الأخرى للشارع.. إذ لا تستوى ملامح التضحية والفداء صونًا للوطن والعرض أبدًا، مع مؤامرات ونذالات واستغفالات تجار الدين.. ولصوص الأوطان. 

(2)

تدريجيًّا، وخلال خمسين عامًا مضت، كانت الأزمة الكبرى فى تسليع الفن فى غياب يد الدولة. تدرج غياب الدولة هو الآخر، حتى وصل الأمر، إلى مرحلة منتصف الألفية الجديدة، حينما دخلت الأعمال الفنية وقتها،  هى الأخرى مضمار التثوير، وتأليب الرأى العام.. وحيث أصبحت شاشات السينما، على يد بعضهم وقتها،  كروتًا للتآمر، يلعب بها على مائدة القمار أدوارًا سامة تُعَبَّأ فى علب فاخرة، وتزوّق بالأوراق المفضضة؛ لتُطرَح فى الأسواق بخلطات معروفة يغلفها فى الظاهر عسل.. بينما فى باطنها سم العقارب! 

ساهمت أفلامٌ شهيرة فى الدفع إلى فوضى يناير.. لا شك. ساهم تجار سينما فى الوصول بالشارع إلى حافة الهاوية فى الطريق ليناير.. لا جدال. كلهم وجّهوا الفن.. للعب من تحت الترابيزات، وكلهم روّجوا للضرب تحت الحزام.. كلهم عَلقوا السيناريوهات فى جرابات الظهر كالطبنجات غير المرخصة.. ثم أخرجوها وأطلقوا منها رصاصات عشوائية غير شرعية فى وجوه الشارع وظهور المجتمع. 

آن للفن، أن يعود أدراجه؛ للمضمار الصحيح. وآن الأوان لأن يعود الرصاص إلى مخازنه الشرعية؛ حيث الفن سلاحليك فى معركة الوطن،  بدلاً من أزمنة كان فيها الإبداع حيلة فى أيدى مستهدفى الوعى.. ومستهدفى الدولة.. بحجة الحريات والحاجات والمحتاجات.

 

(3)

عانت أجيالٌ سابقة من آثار فنون مزيفة عشوائية، أخذت فى الظاهر الأسماء، بينما ضربت برسائل الإبداع فى الواقع عرض الحائط. دكت تلك الأعمال حصون المبادئ، وحطمت قلاع الُمثل، مرّات بحجة «الفن للفن»، ومرّات أخرى بدعوى شرعية الضحك للضحك.. وكلام فارغ آخر، وصل بنا فى بدايات السبعينات إلى «مدرسة المشاغبين».. وأفلام من فصيلة «رمضان فوق البركان».. و«شعبان تحت الصفر».. وهلم جَرّا. 

مع منتصف السبعينيات، تحقق تراخى يد الدولة عن الفنون، فتداعت الرسالة، وتقلبت أمواج التجارة مع إيرادات السينما والمسرح، فى بدايات حقيقية لأعمال شرخت فى المفهوم الجمعى، ولعبت بالضمير الجمعى، وبثت شعارات غريبة على الضمير الجمعى. 

من السبعينيات وأنت طالع، كان أن شبت أجيال على «سلوجان عادل امام الشهير: «صاحبى قرشى.. وعمى دراعى»، أطلقه على مجتمع كان يعانى، من تداعيات انفتاح، ومن آثار لخبطة.. مجتمع كان يعانى من تشوهات سياسية، وكان يعانى من مردودات انتكاسات اقتصاد.. كان مجتمعًا فى حاجة إلى توعية.. لا إلى تغمية، لكن حجج حرية الفنون.. كانت قاتلة.. وقاضية.. وكانت التجارة فى بورصة الفنون قد وصلت إلى الثمالة. 

نحن أجيال، لم ينجُ منها إلّا من رحم ربى، عانت مفاهيم مقلوبة، رسّختها سينما المقاولات، وتلقت سمومًا بثها نجوم إنتاج غير منضبط، امتد من السبعينيات إلى ما قبل يناير 2011 على الشاشات.. وصولاً إلى آخر مراحل التدنى فى تاريخ السينما بنماذج من عينة أفلام «صرخة نملة».. و«حين ميسرة».. و«كلمنى شكرًا»! 

نحن أجيال عانت من تجارة فن تنامت وامتدت وتفرعت، لما خفت يد الإنتاج الوطنى، ولما تركت الدولة الحبل على غاربه، لكيانات تاجرت بما كان أكثر خطورة من تجارة المخدرات، فتلقى الشارع، بدءًا من السبعينيات، مرورًا بالثمانينيات، وصولاً إلى قنابل الشاشات فى الألفية الجديدة، جرعات كاملة من مضادات الانتماء ونوازع الوطنية، وهوادم القيمة والقيم.. باسم الفنون.. وبحجج حرية الإبداع. 

 

 

 

(4) 

استعادت الدولة السنوات الأخيرة زمام الفنون. عادت الدولة، وعادت الكيانات الوطنية.. عودًا حميدًا.. والعود أحمد. كان قد آن الأوان؛ لانتزاع محددات أمن قومى، فنزل سلاح الدراما أرض المعركة، جنبًا إلى جنب الدبابة والميج والرافال. وسلاح الدراما فى معارك الوعى أقوى من الميج.. وأشد من الرافال. 

آن الأوان للدراما الوطنية أن تستعيد جرعات الشحن الوطنى، بأضواء كاشفة، وتفاصيل مكشوفة لأدوار  مكشوفة، ووقائع مكشوفة. آن الأوان للفن أن يستعيد رسالته الأولى وسماته الأساسية؛ تصويرًا للبطولات، وملامح الفداء.. ويقدمها على حقيقتها، لمواطن تعرّض كثيرًا للتغرير.. بأحاديث كاذبة عن التغيير، والنتيجة أن نزل بعضهم فى الشارع ضد الدولة وضد الوطن.. بحجة حرية الوطن. 

كان جنونًا، ساهمت فيه ما أسموه فى أزمنة ما فنونًا.. وهى لم تكن كذلك.

استعادت دراما «الاختيار»، مساحات مترامية من أرض مما كنا قد فقدنا.. وافتقدنا خلال سنوات، تحوّل فيها المعيار الوحيد لمفهوم الإنتاج الفنى إلى ما يجلبه الإنتاج الفنى من موارد، وعوائد، بصرف النظر عمّا وراء الموارد والعوائد من آثار على المجتمع.. وبغض النظر عمّا يمكن أن يصنعه تجار الفن لجلب العوائد والموارد. 

للإنصاف.. كان كثيرٌ من الإنتاج الخاص وبالًا على الفن وعلى المجتمع فى زمن ما. كان كثيرٌ مما سمى مجازًا بالإنتاج الفنى طامة كبرى فى أزمنة سابقة؛ خصوصًا على المجتمع المصرى. 

ليست هذه دعوة لتأميم الفنون، لكنه فى نفس الوقت نقاشٌ عمّا يمكن أن تصل فيه ألاعيب استغلال الفنون (فى غياب يد الدولة) لتصبح وسيلة للهدم، وتتحول إلى وسيلة للعب بالعقول.. واللعب بالدماغ . 

هذا حديثٌ، مناسبته أعمال وطنية، السنوات الأربعة الأخيرة، استعادت الرسالة التوعوية، فى أكبر أدوار الفن، من خلال مؤسّسات إنتاج وطنية، عرفت كيف تدير الصناعة، وعرفت كيف توازى ما بين الفن كمضمون، وما بين الصناعة كأرباح وتعاملات تخضع لقوانين الربح والخسارة. 

سلاسل الدراما الوطنية من أول «الاختيار»، مرورا بـ«هجمة مرتدة»، و«القاهرة كابول» كنماذج.. وسينما «الممر» نموذج آخر.. استطاعت أن تضرب معادلات تسليع الفن فى أساسها. 

مَن يستطيع القول إن الدراما الوطنية، رمضان الجارى، لم تحقق ارتفاعًا على مؤشرات الربح كصناعة.. والإنتاج؟ 

لكن، وقبل مؤشرات الربح والخسارة، وهذا هو الأهم، مارست هذه الدراما دورها فى معركة وعى، وضعت به المواطن فى مكانه الصحيح فى معركة وطن؛ ليعرف كثيرًا عمّا جرى، ويعرف أكثر عمّا كان يحاك فى الظلام. 

كشفت هذه الدراما كيف لعب على المواطن ملوك الثورات، فخدعوا البعض، وتلاعبوا بأذهان آخرين، فى الوقت الذى كان هناك على الجانب الآخر رجال من نوع خاص يقاتلون، ويدفعون دماءهم رخيصة، فى ملاحم غير اعتيادية؛ لتجنيب الوطن تداعيات خطايا حمقى.. وآثام ألعوبانات. 

دراما «الاختيار»، دراما توثيق بالمستندات لمعارك بطولة خاضتها الدولة، وبطولات سطرها رجال ستخلد أسماؤهم على جدار الوطن.. ما بقى الوطن. 

وهذا الوطن سيبقى.