الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أسطــــورة صديقـــه الصـــدوق!

كان يصرخ وهو يحدِّثنى على الهاتف: «يعنى إيه يتدفن النهارده؟! سيد لازم تتعمله جنازة شعبية».



«معلش يا عمو، إكرام الميت دفنه»، هكذا أجبته وهو لا يزال يصرخ: «يعنى إيه؟! أنا جاى».

جمال مختار رفيق رحلة أبوالسيد الطويلة، الرجل الذى شبَبْت عن الطوق وأنا أرى ابتسامة

أبوالسيد تكبر فقط حين يسمع صوته، وضحكاته تزداد كلما كان عمو جمال جليسه وصحبته.

 

طالما اعتقدت أنهما صديقَا طفولة، وعلمت بالمصادفة منذ أشهر قليلة قصة تعارفهما الغريبة. فى أوائل السبعينيات علم جمال من صديق له أن أبوالسيد الآن فى أحد بيوت الإسكندرية، ولأن جمال كان يحب أبوالسيد مِن بُعد، فقد جازف وذهب إلى أبوالسيد فى منزل الرجل الذى لا يعرفه. قابل أبوالسيد وعرَّفه نفسَه حتى إنه أراد أن يُثبِت له بالدليل القاطع أنه يحبه، فعرض عليه أن يغنِّى له أغانيه التى يحفظها عن ظهر قلب، وسَرْعان ما بدأت صداقتهما العميقة الطيبة.

انتهت السهرة فى منزل الغريب عن جمال مختار، وواصل أبوالسيد وجمال سهرتهما التى امتدت إلى الصباح، وفى تلك السهرة بدأت رحلتهما معًا.

جمال مختار، هذا السكندرى الجميل، أحد كبار ضباط قُوَّاتنا البحرية المصرية، والرجل الذى أسَّس الأكاديمية العربية للنقل البحرى التى أصبحت فى ما بعد الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا، ظَهْر أبوالسيد الذى طالما اعتمد عليه فى المِحَن، وشريك أوقات السعادة الذى لم يغِب عن عائلتنا فيها قَطّ.

«مش عارف، حاسس إنه مش كفاية»، هكذا قال لى بعد أن أصَرَّ فى ذكرى الأربعين لأبوالسيد أن يُقِيم له تكريمًا يليق به، دعا إليه كل أحباء أبوالسيد الذين يعرفهم والذين لا يعرفهم، المختلف عنهم والمختلفون معه، وإكرامًا لأبوالسيد استقبل الجميع وكان أحرص الموجودين على أن تكون المناسبة لائقة بصاحب عمره وصُحْبته.

«طبعًا هاروح، جمال مش ممكن يطلب منى حاجة واتأخر عليه أبدًا»، كان هذا ردّ أبوالسيد على دعوة عمو جمال إلى أحد احتفالات الأكاديمية التى يقيمها.

تَعوَّدتُ منذ طفولتى أن عائلتنا ما إن تطأ أرض الإسكندرية حتى نكون تحت مظلَّة عمو جمال، شئنا أم أبينا، نصل إلى منزلنا فيكون أول اتصال من أبوالسيد لعمو جمال ليبلغه بوصولنا، ويتركنا أبوالسيد ليلًا ليذهب إليه، يضع ألحانًا لا يأتى وحيها إلا فى صحبة عزيزه الأقرب. كان يكفينى وأنا طفلة لأعرف مقدار جمال مختار أنْ ترك والدى أحد أعواده فى منزله، وهو الذى لا تفارقه أعواده أبدًا، فهو يعتبرها أبناءه ويعاملها كما الأطفال، فما بالك إذا ترك أحد أبنائه لدى جمال؟! ولم أعرف إلى اليوم من منهما كان يؤدِّى دور الأب للآخر، فلا قرار يخصّ أيًّا منهما إلا بعد مشورة الآخَر، لا حلّ لمشكلة إلا بعد أن يتدارساها معًا، لا فرح ولا حزن إلا وكتفاهما متلاصقان.

«عمك جمال ده عجيب يا شيخه! عسكرى مافيش منه، الأكاديمية دى عملها من الهوا، وشوفى الناس بتحبه وبتحترمه إزاي! جمال ده من نِعَم ربنا عليا».

تعلو الضحكات فى منزلنا، ووالدتى تتفنَّن فى تقليد مشية عمو جمال المميَّزة، وتحيطنا زوجته الرائعة بكرم لطفها الذى لم يغِبْ عنها لحظة.

تأتمن أمى زوجته على أسرارها، تترك لديها مفتاح منزلنا فى الإسكندرية ولا تتركه لشقيقاتها، وتشد زوجته البهية طنط سهيلة أَزْر أمى كلما اشتدَّت وطأة غياب أبوالسيد عليها.

«إنتى مش هتفهمى أبوكى ده بالنسبة ليا إيه غير لَمَّا تكبرى»، وبالفعل لم أدرك صداقتهما التى كنت أظنُّها فقط وطيدة إلا حين خبِرْتُ ما خبِرْتُ من الحياة الطاحنة.

ورغم تنوع صداقات أبوالسيد وعمو جمال، ظلّت علاقتهما بالنسبة إليّ هى المثال الأكبر والأشمل لِمَا تعنيه كلمة الصداقة، رأيت جمال مختار محاربًا يقف بقوة ضدّ مَن يطال أبوالسيد ولو بكلمه تندرج تحت قائمة الدعابة، وشهِدْت أبوالسيد يتحدث عن جمال كما لو كان يتحدث عن نفسه، لم يترك أبوالسيد مناسبة كان لجمال مختار إنجاز فيها إلا كان صوته يشدو احتفالًا بصديقه الدَّؤُوب الذى استطاع أن يُحِيل أكاديمية النقل البحرى إلى أحد - إن لم يكُن أنجح- الكيانات العربية الموجودة فى وطننا العربى، لم أعرف أبوالسيد إلا مُفاخِرًا بأسطورة صديقه الصدوق، ولم أرَ جمال مختار، هذا العسكرى والجامعى والإدارى الناجح، بين يدَى أبوالسيد إلا طفلًا يضحك ويغنِّى ويطوِّل عنقه مباهاة بأنه صديق هذا المبدع الإنسان.

يُصِرّ أبوالسيد على أن يغنى لأبناء صديقه فى أفراحهم أغانى كُتبت خصيصًا لتلك المناسبة، وهو ما لم يفعله معنا أنا وإيناس. تمرض والدتى فيستلزم جزء من علاجها أن نكون فى لندن، فيفتح لنا جمال مختار أبواب بيته اللندنى لنسكن هناك ونشعر أننا فى منزلنا لا فى مدينة تئنّ من الجفاء فى كل ما بها.

«عمِّك جمال ده من القليلين قوى اللى ممكن أعمل معاهم أى حاجة نِفْسى فيها، ماعندوش مستحيل، المهمّ نكون مبسوطين، وماعرفش يا عمّ بيلحق يعمل كل الحاجات دى إزاى!».

وفاءً لمشوار طويل ورحلة لم يتوارَ فيها هذا الرجل أو عائلته من جميع مشاهدها، وفاءً لعلاقة قلّما وُجدت فى زمن تغلب عليه المصالح... أكتب عن جمال مختار، العمّ، والأب الثانى الذى وهبه لى أبوالسيد دون أن يعلم.