السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الطفــل الســاكن جــواه!

سيد مكاوى فى البيت
سيد مكاوى فى البيت

لا أظن أن الطفل الساكن داخل أبوالسيد توارى أبدًا فى أى من مراحل حياته الطويلة؛ حكاياته عن مغامرات الطفولة لم تكُن تختلف كثيرًا عن أفعاله، وهو كبير السنّ كما يعتقد البعض، طالما اعتقدت أن جميع الرجال مثل أبى، قادرون على خلق البهجة أينما حلُّوا، ولديهم ذات القدرة على محاربة العقبات كلها بالضحك والأمل، لكن بعد أن أخذتنى الحياة فى رحلتها المرهقة، أدركت أن قليلين هم من نجحوا فى إبقاء الطفل الساكن فيهم حيًّا مثلما فعل أبو السيد.



 

مكاوى
مكاوى

 

بداية معرفتى بالطفل أبو السيد كانت فى مراحل طفولتى الأولى، كان يجمعنى أنا وأطفال الجيران ويلعب معنا «طلعنا كلنا»، تلك اللعبة البسيطة الساحرة التى أظن أنها خاصة بأبو السيد فقط، فلم أشاهد أى بيت يلعبها فى طفولتى إلا بيتنا، كان يجمعنا على طاولة، ونضع جميعنا إصبع السبابة متجهةً إلى أسفل على سطح الطاولة، ثم يبدأ أبو السيد النداء: «طلعنا كلنا»، فنرفع جميعًا أصابعنا إلى أعلى، «نزلت أنا وأميرة»، فأخفض أنا وهو سبَّابتينا لنعيدهما إلى الوضع الأول، «نزلت لوحدى»، «طلعنا كلنا»، «نزلت أنا وفلان»... قدر ما حاولنا التركيز فى أن نستمع إلى ما يقول حتى لا نخطئ أنا أو أى من الجيران أو أفراد عائلتنا، فإننا بالتأكيد كنا نخطئ، ويضحك أبو السيد حين تزيد أخطاؤنا وهو يزيد سرعة إصدار الأمر. والغريب أنه كان يعرف مَن المخطئ من ارتباك أنفاسه! وتنتهى اللعبة بضحكات تملأ المكان واستغراب من أعضاء جُدُد انضمُّوا حديثًا إلى اللعبة من كيفية معرفة أبو السيد لصاحب الخطأ، وهو لا يرى. كان سعيدًا وهو يلعب معنا، نعم، كان يلعب معنا ولم يكن يلاعبنا، والفرق كبير. فى سنوات مراهقتى بدأت اعتياد السهر مثله، أنتظره ليلًا حين يعود من مكتبه، وشهدت فيه الطفل مرة أخرى؛ على ناصية شارع منزلنا بالعجوزة كان يقف شاويش طيب القلب يحرس المنطقة، أبو السيد يعود إلى المنزل فى وقت متأخر يُلقِى التحية على الشاويش ثم يصعد الدَّرَج إلى منزلنا، طقس شبه يومىّ يتكرر... ذات يوم أفصح أبى لأحد أصدقائه عن رغبته فى امتلاك مسدَّس صوت، وبالفعل حصل على مسدَّسه الصغير، ولم يكُن يفارق جيب سترته، فقط تظلّ هناك مشكلة؛ ما فائدة المسدَّس وهو لم يستخدمه أبدًا؟ وهنا بدأ الطفل يخطِّط لاستخدام مسدَّسه الصغير، حانت اللحظة الذهبية، عاد أبى إلى المنزل ولم يجد الشاويش الطيب يقف فى مكانه المعتاد، سأل سائق التاكسى: هو مافيش شاويش واقف؟

 

 

 

 - لا يا عم سيد، أوصَّلك أنا لباب العمارة؟

 - لا، شكرًا يا فُلَّلى، أنا عارف لوحدى

اطمأنّ أبو السيد لرحيل سائق التاكسى، وأخرج مسدَّس الصوت من جيب سترته وأطلق فى الهواء طلقتين، وبدأ فى الركض على سُلَّم عمارتنا إلى أن وصل إلى المنزل. فتح الباب واتجه ناحية البلكونة المطلة على الشارع، وقف وعلى وجهه جميع ملامح الدهشة والفزع المصطنَع، بالطبع جاء الشاويش الطيب مسرعًا ليبحث عن مصدر الطلقات.

 - إيه الصوت دا يا عم فلان؟!

 - مش عارف يا عم سيد، حاجة زى ضرب النار بس لفّيت ومالقيتش حاجة. 

- يا خبر! دا كان صوت جامد قوى، خلّيك هنا بقى علشان نطّمّن، دا أنا صحيت من النوم على الصوت يا أخى! أصله كان جامد قوى. تصبح على خير.

 

مع أميرة طفلة
مع أميرة طفلة

 

ويخرج من باب البلكونة وهو يضحك، وأنا أسأل: هو ازَّاى ماخدش باله إنك بالبدلة؟ هو أنت بتنام بالبدلة؟ فيجيب: الخضة بتعمل أكتر من كدا، أحسن، أهى جت بفايدة؛ أنا جربت المسدَّس، وهو يتعلم مايسيبش مكانه.

 فى إحدى رحلاتنا إلى تونس الحبيبة كان الطفل مزهوًّا بنفسه وهو يستعرض أمامى قدرته على السباحة، أنا صاحبة التسعة عشر عامًا غير القادرة على الدخول إلى عمق حمام السباحة، يضحك ويقول: افردى ضهرك بسّ وحطى إيدك تحت راسك كأنك نايمة، وهتلاقى المية شالتك. وأحاول وأفشل، ويضحك ويعاود استعراض قدرته على السباحة، وأنا أنظر إليه وعقلى يتساءل: مَن منا الأصغر سنًّا؟ مَن منا الأكثر قدرة على التجريب والضحك والمغامرة؟ وبالتأكيد تقفز الإجابة بأنه أبو السيد. «يا ست ميللو، الدنيا دى مافيهاش حاجة خالص ماتقدريش عليها، إنتى اللى بتخوِّفى نفسك على فكرة، المية هتشيلك لو انتى صدّقتى إنها هتشيلك».

 نذهب إلى منزلنا بالإسكندرية لقضاء إجازة الصيف، ويهلّ العيد، فيختبئ أبو السيد صاحب الخمسين عامًا أو أكثر وراء حائط البلكونة، ويبدأ فى قذف البمب على سطح الجيران، ويعود ليختبئ خلف الحائط وهو يضحك. يبدأ جيران العمارة المجاورة فى التذمُّر فيُطِلّ أبو السيد ويشاركهم الغضب مِن ذلك الطفل المجهول الذى يصدر ضجيجًا غير مفهوم ويسبب إزعاجًا يؤرق الهدوء المحيط. طفلًا كان يختبئ وراء ما تكتبه الأوراق الثبوتية لعمر يقضيه هو بمرح ما زلت إلى الآن أتوقف أمامه كثيرًا، وأنا التى تعلم علم اليقين ما مر به من صعوبات تنهك شبابًا فى مقتبَل العمر، أدركت أن الطفل الذى أصرّ أبو السيد على إبقائه حيًّا هو مَن جعل صعوبات الحياة أقلّ وطأة، ولوَّن حياته ببهجة دائمة، وأصبح واحدًا من أهدافى أن أُبقِى طفلتى التى تسكننى حية قدر المستطاع.