الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
دولة الصبر الاستراتيجى.. والعين الحمراء

دولة الصبر الاستراتيجى.. والعين الحمراء

اصطحبت مصر العالم فى رحلة فريدة من نوعها للتاريخ من ميدان التحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط. تحوز مصر مفاتيح الحضارة على سلالم الأزمنة. 



عيون العالم كانت على مصر فى موكب نقل المومياوات، فهذه دولة حازت التاريخ وامتلكت الجغرافيا، على جدران المعابد الفرعونية، تظهر أياد مصر ممدودة بالسلام فى ميادين حضارات الماضى.. وتبقى نفس الأيدى ممدودة فى زمن أحفاد الفراعنة.. بسياسات رشيدة وبقدرات عالية على البناء والتنمية... وعلى الردع أيضًا.

 

بالتزامن مع بدء الخبراء فى متحف الحضارة تجهيز المومياوات الملكية الـ 22 للعرض، بفك كسبولاتها، تمهيدًا لمستقرها الأخير فى الفتارين بعد وصول موكب التاريخ، كانت قد بدأت فى العاصمة الكونغولية كينشاسا تمهيدات الدقائق الأخيرة لجولة جديدة من مفاوضات سد النهضة. 

وصلت الموميات إلى متحف الحضارة فى رسالة سلام للعالم، وبالتزامن كان وفد قد وصل إلى كينشاسا الكونغولية، فريق التفاوض المصرى فى سد النهضة، بثوابت راغبة فى التعاون، وبأيادٍ ممدودة للحوار، وفق خطوط حمراء رسمها رئيس الدولة المصرية من عند قناة السويس الأسبوع قبل الماضى. 

يدخل المفاوض الإثيوبى الجولة الجديدة، تحت ضغوط شديدة. هذه جولة مختلفة على طريق المفاوضات، ضيقت سبل الاستمرار فى المماطلات هذه المرة على أديس أبابا بعد رسائل حاسمة وجهها الرئيس السيسى للعالم من عند قناة السويس. 

اعتمدت مصر مؤخرًا، خطوطًا حمراء فى الجنوب الإفريقى، بعد خطوط حمراء فى الغرب الليبى أعادت تشكيل الواقع نحو تسوية سياسية هناك. 

تنتهج مصر سياسات الصبر الاستراتيجى انطلاقًا من مبادئها السياسية.. لكن هذا لا يمنع أن تفرض الدولة خطوطًا حمراء عند الاقتضاء. 

هذه مرحلة جديدة من مراحل مفاوضات سد النهضة.

 

 
 
سياسات مصر رشيدة لا تهديد ولا اعتداء على أحد
سياسات مصر رشيدة لا تهديد ولا اعتداء على أحد

 

(1) 

طوال سنوات مضت، تعتمد القاهرة التفاعل مع ملف السد الإثيوبى بسياسات الصبر الاستراتيجى. تنطلق محددات تلك السياسة من محددات مصرية ثابتة تعلى قيم الحوار، ضامنًا أول لا حياد عنه فى التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية.

لكن بالتوازى مع استراتيجية الصبر، فإن لدى مصر عينًا حمراء وخطوطًا وحدودًا لم تسع القاهرة وفق سياسات رشيدة إلى خشونة هى تملك قدراتها بجدارة، لم تسع مصر إلى اعتداء، ولم تسع إلى تهديد. لكن كل شيء خلقناه بقدر، وكل شىء قدّرناه تقديرًا. 

اعتمدت مصر سياسات الصبر الاستراتيجى خيارًا أساسيًا منذ 2014 فى أكثر من ملف، حققت سياسات النفس الطويل انتصارات ملحوظة على خريطة الإقليم. كلها كانت معارك وصلت إلى طرق كانت تبدو مسدودة لدرجة جعلت كثيرًا من المراقبين يعتقدون أنه لم تعد هناك حلول.

لم يكن هذا صحيحًا، فقد أوجدت مصر الحلول، وفق أولوياتها، ووفق ما تراه من مصالح ووفق مبادئ شريفة فى زمن عز فيه الشرف. على محاور مختلفة، وفى ملفات شتى، ودفع الصبر المصرى الاستراتيجى الأسماك إلى أن تطفو على سطح البحيرة من تلقاء نفسها.

(2) 

تفوقت معادلات الصبر الاستراتيجى فى معركة غاز المتوسط. بتأسيس منتدى الغاز فى التوقيت المناسب وبالشكل المطلوب، وتخطيط مصرى هو واحد من أهم عوامل التأكيد على أن السياسات الرشيدة وفق متوالية الصبر تمنح فرصًا ليس فقط لتغيير شكل وملامح الأزمات، إنما لها القدرة أيضًا على تغيير المعادلات الإقليمية على نطاق واسع بالكامل، رغم ما كان البعض يراه من أن تلك المعادلات شديدة التعقيد. 

للإنصاف، فإن القدرة على اعتماد سياسات الصبر فى المعادلات الدولية والإقليمية ليست بتلك السهولة، ولا ذلك اليسر. إذ إنه ليس فى استطاعة الدول طبقًا لعلوم السياسة اعتماد سياسة الصبر الاستراتيجى دون أدوات لفرض الإرادة، ودون قدرات حقيقية قادرة على رسم حدود المصالح، وغرز نقاط الثوابت. 

فى علوم السياسة، تزيد قدرات الدول القوية على فرض ما ترسمه من أطر خلال الأزمات، زيادة طردية مع زيادة قدراتها على الردع. 

وتزيد أيضًا قدرات الدول القوية، فى تلوين المناطق على الأرض، تدرجًا من اللون الأخضر إلى الألوان الحمراء كلما حازت تلك الدول قدرات دبلوماسية تدعمها من الخلف بمهارات حشد سياسية دولية وإقليمية. 

لا تستطيع الدول القوية فرض معادلة الصبر على نغمات الإيقاع فى الإقليم، وعلى نقاط تحددها على خرائطها إلا مع امتلاكها قوة كافية، وإرادة واضحة، وأهدافًا محددة، بإيمان عميق بعدالة القضية، وفهم حقيقى وواع بأسس العلاقات والتشابكات الدولية وتعقيداتها.. وإدراك كامل لتوازناتها. 

خاض عبدالفتاح السيسى معارك الإقليم بأنواعها منذ العام 2014 برؤى واثقة وثوابت مؤكدة، تنطلق من أنه لا تنازل عن حقوق مشروعة للدولة المصرية، تتراوح ما بين حريتها الكاملة فى استغلال ثرواتها، وبين قرارها الأكيد فى اتخاذ ما تراه مناسبًا لحماية أمنها القومى والاستراتيجى، وتحقيق مصالحها القانونية دون اعتداء أو تهديد.

عدلت الرؤية المصرية بمنهجية الصبر الاستراتيجى الموازين فى المسألة الليبية، وبعد مراحل تطورت فيها القضية حتى وصلت للحدود التى حسم فيها عبدالفتاح السيسى الأحداث بخطوط حمراء، فى خطاب اقتضى وقتها، الانتقال من سياسات الصبر.. إلى قرارات ترسيم الخطوط الفاصلة.

دفعت خطوط مصر الحمراء المعادلة الليبية لاستدارة كاملة، بتحركات عادت فى اتجاه زاوية الـ 180، وفى توقيت غير اتجاهات الريح، واختصر مسافات الزمن، وحطم طموحات تصور أصحابها أن لأحلامهم احتمالات التحقق.

وجاء إعلان القاهرة جامعًا مانعًا لاستيقاف سلسلة تطورات كانت فى الطريق لأن تصل بالمسألة الليبية إلى بحر الظلمات، واضعًا أسسًا جديدة لتسوية سياسية، تحقق طموحات الشعوب، وبلا تدخلات خارجية. 

تأسيسًا على استراتيجية الصبر الاستراتيجى أيضًا، حققت مصر نصرًا فى ملف تعلقت فيه تركيا بطموحات هوجاء، لتجد أنقرة نفسها فجأة على طريق صحراوى, بدا أن تعمد الاستمرار فيه بتجاهل الواقع سوف يقطع بعد خطوات قليلة كل طرق العودة بسلام. 

وبدا لأنقرة أيضًا وقتها، أن أسلم الطرق لضمان قدرتها على الاستمرار، هو قبول إشارات محددة على بوصلة قاهرية فرضت الدوران والعودة إلى اتجاه واحد وحيد. 

(3)

بمنهجية الصبر الاستراتيجى انتزعت القاهرة  حيلًا إخوانية ثعبانية أفعوانية، بدعم من دول معروفة، ووفق مخططات واضحة، حاولت قلب الموازين، والافتئات على الحقائق. 

وحققت القاهرة نجاحًا منقطع النظير فى ملف التوعية الدولية بحقيقة ملف الإرهاب، باعتباره لا يجب أن يكون معركة محلية مصرية، بقدر ما يجب أن يكون معركة عالمية، تتطلب الاتحاد لمكافحة تنظيم له تشابكاته وألاعيبه وحيله وخباثته وسمومه العابرة للقارات.

لم تنجح مصر فقط فى قطع يد الإخوان الإرهابيين وتعليقها على أبواب قلاع القوات المسلحة فى سيناء، إنما كشفت مصر بجدارة للدول الغربية حجم ومدى خطورة تلك التنظيمات الإرهابية بانعكاساتها على العالم كله. 

وفى الملف نفسه، أجهضت القاهرة محاولات توظيف ورقة الإخوان من قبل قوى كبرى وصغرى على خريطة العالم والإقليم.

يجوز بحكم الضرورة ونجاحات الواقع تطبيق مقاربة منهجية الصبر الاستراتيجى المصرى على ملف تنويع مصادر السلاح. 

ملف تنويع السلاح، يظل واحدًا من أهم الملفات التى حققت فيه مصر قفزات غير مسبوقة، بنجاحات مدوية فى فرض القرار، وبتغيرات جوهرية على الخريطة الدولية، وبتحولات كبرى وبنتائج كانت فى زمن ما غير متوقعة ولا متصورة.

نجحت مصر فى تنويع مصادر السلاح بصفقات كبرى مع دول الغرب ومع دول الشرق، بالتزامن، عن طريق إدارة شديدة الدقة، اختلط فيها عنصر الصبر مع عنصر القرار، مع تدرجات احترافية فى توازن دقيق بالاقتراب من معادلة شديدة الحساسية. 

رؤية من نوع خاص، هى التى جعلت القاهرة تنجح فى الاستفادة من كل التغيرات والمتغيرات على الساحة الدولية، موظفة المساحات البينية فى توجهات المصالح الدولية.. لصالح القرار المصرى. 

بعد سنوات قليلة من عام 2014، كانت مصر قد استطاعت حفر نقوش بارزة لواقع جديد فيما يتعلق بمسائل التسليح فى المنطقة، وبعد ما كان مجرد الميل إلى جهة فى أزمنة مضت.. يعنى بالضرورة خسارة الجهة المقابلة، بعواقب لا تضمن نتائجها. 

(4)

خاضت مصر أزمة سد النهضة وفق سلسلة طويلة من محددات سياسة الصبر على طريقة القاهرة المعهودة. 

ورغم مماطلات إثيوبية واضحة، ومحاولات ظاهرة للعب على وتر الوقت، ومساحات الزمن، أصرت مصر على استمرار التفاوض باعتباره حلًا وحيدًا حتى اللحظة التى يتفاوض فيها المصريون الآن فى كينشاسا.

قبل أيام، ومن عند أهم مجرى ملاحى مائى فى العالم ( قناة السويس ) تكلم الرئيس عبدالفتاح السيسى بنبرة كان لها معناها ودلالتها، مؤكدًا تمسك مصر بالتفاوض فى الطريق للحلول عادلة، وبإيمان كامل بقضية تتعلق بوجود الشعب المصرى، وفى دلالة حملتها إيماءات رئيس الدولة المصرية على قدرة تلك الدولة على حماية أمنها الاستراتيجى والقومى عندما تتطلب الأمور.

فى السياسة الدولية، تنتج منهجية الصبر الاستراتيجى مجالات أوسع وأزمنة أكثر خصوصية لإيجاد التفاهمات، لكن المؤكد أيضًا، فى علوم السياسة، أن استراتيجيات الصبر المنهجية.. مهما طالت أو استمرت، فإنها لا تلغى بالضرورة استراتيجيات القدرة.

الأسبوع الفائت سيطرت كلمات الرئيس من عند قناة السويس على الصحف الكبرى فى أوروبا والعالم. تداولت أغلب الصحف الغربية صورة للرئيس السيسى خلال كلمته عند المجرى الملاحى، بتعبيرات وجه شديدة الحسم، وحركة إشارة باليد لها أكثر من معنى.

معلوم، أنه ليس هناك ولو فرصة لأقل احتمال قد يتصوره أحدهم بقدرته على الاستيلاء على نقطة واحدة من مياه مصر. 

قبل ساعات من كتابة تلك السطور، وصل فريق المفاوضات المصرى إلى العاصمة الكونغولية متمسكًا باستمرار التفاوض على حقوق مشروعة للمصريين ولآخر مدى. وصل المفاوض المصرى إلى كينشاسا، بينما ما زالت أصداء كلمات الرئيس السيسى متداولة فى صحف الغرب بتأكيدات أنه لا مجال لتجربة محاولة الافتئات على حق مصرى أو الجور عليه «اللى عايز يجرب يجرب».  الواقع، أنه لم تعد هناك مجالات لاستمرار الرهان الإثيوبى على الوقت، خصوصًا قبل أقل من 100 يوم من قرار إثيوبى سابق بالشروع فى الملء الثانى لسد النهضة، فى وضع يمثل خطورة لن تقبل بها مصر والسودان.

التصورات بأن هناك نقاطًا بعيدة عن القاهرة هى تصورات خاطئة، وهى حسابات غائبة عن الواقع منفصلة عنه. وحسب تقارير الصحافة الغربية، فإنه لا بد قبل أى محاولة لتعطيل التوصل لاتفاق عادل وشامل فيما يتعلق بالسد الإثيوبى استيعاب ما حققته مصر من طفرات على خطوط استراتيجيات الردع والقدرة.

لابد أن تقرب طاولة المفاوضات فى كينشاسا مسافة 2500 كيلو بين القاهرة وأديس أبابا، خصوصًا أن طريق المماطلات والتسويف تواجدت عليه الآن كثير من محطات الاستيقاف.

حسب الصحافة الغربية فإن الدولة المصرية بالتوازى مع اعتماد استراتيجيات الصبر، فإنها قد اعتمدت أيضًا منذ 2014 استراتيجات القدرة.

تصل قدرات المقاتلة الفرنسية «رافال» من مدى عمليات وطيران قتالى ما يزيد على 3500 كيلو إشارة، كما تتسع مجال عمليات الميج 29 الروسية ليصل مداها إلى 2900 كيلو هى الأخرى. والطائرتان من نماذج اعتماد استراتيجية القدرات المصرية جنبًا إلى جنب مع استراتيجيات الصبر. 

الأسبوع الماضى، أفردت صحف غربية مساحات لتفاصيل وأطر الاتفاقات العسكرية المصرية السودانية، فيما أشارت صحف أخرى إلى الصاروخ الروسى إسكندر التى قالت إنه ربما قد وصل إلى مصر. 

حسب صحف الغرب، فإن الصاروخ اسكندر هو الأحدث فى الترسانة العسكرية الروسية، بمدى قالت الصحافة الغربية إنه يصل إلى 500 كيلو بقدرات هائلة على تدمير الكتل الخرسانية والأسطح شديدة الصلابة. 

لكن فيما تتكلم صحافة الغرب عن قدرات القاهرة العسكرية، تصر مصر على الاستمرار فى سياسات الصبر الاستراتيجى، فهذه الدولة.. دولة سلام وقدرات رشيدة.