الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عندما صارحته: ما بحبش أم كلثوم!

مع وردة
مع وردة

كان يصحبنى إلى ماسبيرو لأحضر معه تسجيل أغنية أو بروفة لعمل جديد، «تحبِّى تيجى معايا النهاردة؟»، أوافق على الفور... يضع يده فى يدى لنصعد سُلّم مبنى الإذاعة والتليفزيون، يتلقَّى التحيات المعتادة من العاملين بالمبنى ويردّ بابتسامته الرحيمة ويحيِّى كلًّا منهم بالاسم! «إنت حافظ أسامى الناس دى كلّها إزاى؟»، فيردّ أحد العاملين كأننى كنت أسأله: «عمّ سيد إحنا اتربينا على إيده هنا».



 

تحضيرات أغنية يا مسهرنى
تحضيرات أغنية يا مسهرنى

 

 نقف وقتًا طويلًا أمام باب الأسانسير فيضحك: «الأسانسير دا كان أصله سلحفة»، نلتقى ونحن قيد الانتظار عديدًا من الفنانين، فأميل على أذنه «أستاذ فلان»، فيردّ بيقين: «عارف، نفَسُه سابْقُه»، وتبدأ الضحكات والقفشات تملأ بهو المبنى الكبير ويتردَّد صداها فى كل مكان إلى أن يقول: أهو عمّ الأسانسير جه. قبل أن يفتح الأسانسير نفسه أبوابه دليل الوصول، نذهب إلى استوديو 45 أو 46 لنجد فرقة الرائع أحمد فؤاد حسن الموسيقية فى انتظاره، والعبقرى زكريا عامر، أهمّ مهندس صوت عمل فى الإذاعة المصرية على حدّ علمى، وكما كان أبى دائما يحدّثنى فقد كان شديد الحرص على أن تكون جميع أعماله من هندسة زكريا عامر. بعد التحيات المتبادَلة والضحكات التى أصبحت آلَفُها من جمع كهذا، تبدأ الفرقة الموسيقية فى الاستعداد بضبط الآلات لتصبح فى تناغم عجيب، وتعمّ البهجة المختلطة بأصوات الموسيقى التى وقعتُ فى سحرها بسبب تلك البروفات، تطلّ السيدة وردة الجزائرية التى كان لى الحظّ أن أحضر أغلب بروفات ما قدّمَته مع أبو السيد، تأتى بطفولتها وضحكتها المبهجة وتداعب أبو السيد: «إيه دا؟ جاى قبلى؟! إنت عيان ولا إيه؟ خلينى أشوف حرارتك كدا»، وتضع يدها علٍى جبهته وتعلو أصوات الضحكات مرة أخرى. تنتظم أصوات الآلات الموسيقية ويصبح الحلم جاهزًا كى يُصبِح واقعًا. أكثر ما كان يلفتنى فى تلك المنظومة شديدة التعقيد شديدة البساطة عِدُّة أشياء، أولها تلك الروح البهيجة التى تحيط بالجميع، البعيدة عن الأحقاد والغيرة وعصبية العمل، جميعهم سعيد فرِح كأن هذا اللحن وتلك الكلمات والأغنية برمتها ملك خاصّ لكل فرد منهم، وهو مسئول عن نجاحها بشكل شخصى، فيتوقف الأستاذ أحمد فؤاد حسن ويطلب الإعادة للتحقُّق من أن الجميع قد حفظ اللحن عن ظهر قلب. ثانيها هذا الاحترام الشديد بين الحضور؛ أنا لم أسمع أبو السيد يتحدث مع الموسيقيين قَطّ فى رحلتى معه إلا بكلمة «يا أساتذة»، «من فضلكم لو سمحتم معلش نعيد الحتة دى تاني»! كلمات بها كثير من التقدير والأدب، كذلك السيدة وردة التى دائمًا ما كانت تحرص على أن تدخل الاستديو وهى محمَّلة بكثير من الهدايا للموسيقيين، أو تقرِّر بعد أن تنتهى البروفة أن يكون هناك غداء أو عشاء يجمعهم على عيش وملح، وتهتف مثل الأطفال بعد أن تحفظ اللحن والكلمات: «الله! أنا حفظت! يا حلاوة البسبوسة!»، وهكذا كان حال عديد من المطربين والمطربات الذين عاصرت عملهم مع أبو السيد. تبدأ البروفة فيتحوَّل هذا الجوّ المرح إلى جو آخر ملىء بالمحبة لا تفارقه الجدية أبدًا، وأعتقد أن هذه الروح وهذا الدَّأَب هو الذى أثمر النجاح الذى اتَّسم به هذا الجيل وحقَّق له فى وجدان كثيرين ما لم يتحقق مع جيل آخر... بعد جلسة حضرتها بينه وبين الأستاذ عمار الشريعى كانا يستمعان فيها إلى تسجيلات نادرة للسيدة أم كلثوم ويهيمان طربًا وسعادة ويصرخان إعجابًا بما تشدو، ذهبتُ إليه لأعلن عمَّا آمنتُ أنه شجاعة مني: أنا مش باحب أم كلثوم، ولا باحب صوتها، ومش فاهمة إنت وأونكل عمَّار بقالكو تلات ساعات مُعجَبين بإيه! صوتها تخين ورجالى، ثم إزاى أنا أصدّق واحدة عندها سبعين سنة وبتقول «يا مسهرنى»؟ لاحظت وأنا أحدِّثه أن الابتسامة لم تفارقه، مما جعل حَنَقى يزيد اعتقادًا أنه غير مهتمّ بما أقول، وأن اعترافى مبعث لابتسامته. «خلّصتى؟»، سألنى بمنتهى الوُدّ، أجبت: «أيوة»، أجاب: عندك حقّ، هى صوتها بالنسبة ليكى غريب لأنك بتسمعى نوع تانى من الغنا، ومش المهمّ صوتها تخين ولا رفيع يا ست ميللو، هى بتغنى سليم ومظبوط، دا أول حاجة، ثانيًا هى عندها حِسّ وصوت جميل ومساحة صوت مش موجودة عند حدّ، ثالثًا المهمّ والأهمّ إنك تسمعيها كويس علشان تعرفى هى ليه بقالها العمر دا كله عايشة عند الناس، ليه فيه جيل بيحبها وجيل بعده وبعده رغم إنها هى نفسها ماتت من سنين كتير. فيه حاجتين يا ست ميللو يا فصيحة يخلُّوا البنى آدم عايش بعد ما يموت، أولًا صِدقُه فى اللى بيقدِّمه، ثانيًا حاجة اسمها الأصالة، يعنى مايتكبَّرش على الناس اللى هو منهم ويتفذلك كدا ويجيب لهم غُنا غربى على جُمَل غربى ويحوِّلها لحاجة شبهنا ويقول دى مزيكتنا. رُوحِى اسمعيها، واسمعيها كويس، وبعدين ممكن تختارى تسمعى غيرها بس ماتقوليش ماباحبّهاش، لأنها عظيمة، وبعدين يقولوا عليكى الست ميللو مش بتفهم فى المزيكا وانتى بنت فللى. ويربت على خدى ويعيد: أقول لك، فيه حاجة ليها اسمها «فى نور محياك» هتلاقيها عندى فى الشرايط، اسمعى ونشوف. بحثت فى أشرطة الكاسيت الخاصة به ووجدت التسجيل، كان مسجَّلًا من التليفزيون، فقد كان لأبى عادة أن يسارع إلى تسجيل ما يحلو له على جهاز صغير ذى أشرطة صغيرة الحجم، يستمتع بالمباهاة بها أمام الجميع، فقد كان يحرص على مجاراة أحدث المستجدَّات فى عالَم الصوت. سمعت اللحن عشر مرات، وفى كل مرة أكتشف مواطن للجمال غير المرة السابقة لها... وفى نهاية المرة العاشرة كنت أحفظ الأغنية عن ظهر قلب. أغلقت الموضوع حرجًا من الرجوع إليه والاعتراف بأننى بدأت أحبها. أعَدتُ شريط الكاسيت إلى مكانه، ولم نتحدث، فقط رأيته يبتسم ابتسامة رضا حين ضبطنى مرة أدندن لحن «فى نور محياك»، ولم نتحدث عنها بعد ذلك سوى أننا كنا نشترك فى ليالٍ تكون بطلتها الست أم كلثوم وآهاتى أنا وأبو السيد ملء المكان. لم أتعلم على يديه فقط أن أحب الموسيقى، بل وأن أحترم من يحبها وينتجها ويسمعها، وأصبحت الموسيقى ميزانًا أقيِّم به ارتباطى بآخرين. النداهة التى ندهته وجعلته يشدو لها ويغنيها وينسى مهمته فى أذان الفجر. الوحى الذى يلهمه ما يسعد به آخرين... النور المصنوع من نغمات تُفرِح القلوب وتشارك الأحزان وتُفرِد للخيال صفحات وصفحات للإبداع وحتى الشطط. معه أيقنت أن الموسيقى أداة من أدوات الله فى الأرض، وأنها ليست -كما يدّعى أصحاب القلوب المشوَّهة- تُلهِى عن ذكره. كان «يرى» عكس ذلك تمامًا، وهكذا أصبحتُ أنا منذ أن بدأت أجلس معه لسماع الأغانى والتواشيح، فى سهراته الخاصة كنت ألحظ أن له مجموعة من الألحان يميل إلى غنائها دون غيرها، منها تَكوَّنَت ذائقتى الموسيقية الأولى. كان حريصًا كل الحرص على أن يشدو لداوود حسنى ثم زكريا أحمد ثم سيد درويش بدايةً كأنما يقدِّم التحيَّة لأساتذته فى بداية كل جلسة، ثم يشدو بما يطيب له من الألحان التى يحبها ويميل إليها لغيره من الملحِّنين، ثم أغانيه الخاصة، والغريب أن جزءًا منها غير قليل لم أسمعه إلا فى تلك الجلسات، فلم تخرج قصائد كتبها صالح جودت وأحمد عبد المعطى حجازى إلى النور رغم تمام لحنها. وحين سألته ذات مرة لِمَ لا تخرج تلك الألحان إلى النور، أجاب بأن الوقت غير مناسب وأنه إن قدّمها الآن فلن يستقبلها الجمهور كما يريد ويبتغى. لم أفهم ما يقصد إلا حينما أطلق أغنية «كان فى زمان يا حبيبتى» لعمّ صلاح جاهين، كان يشدو بها فى جميع جلساته الخاصة منذ كنتُ صغيرة، وقرَّر أن يُطلِق اللحن إلى الجمهور فى التسعينيات، وكانت تلك هى الأغنية المصوَّرة الوحيدة التى قدَّمها، أقنعَته شقيقتى إيناس بضرورة تصويرها، وقدمتها له مصوَّرة فى عيد ميلاده، ولا أعلم لماذا لا تُذاع على الرغم من رقتها الشديدة وعمق صورتها. أدركت حينها ما كان يعنيه، فاللحن حين أنتجه هو لم يكُن يوافق عصرًا يقدم الأغانى الكلاسيكية الشرقية المغرقة فى الحليات الموسيقية. وقتها أراد أبو السيد أن يتحدَّى نفسه ويقدِّم لحنًا شديد الحداثة على هذا الزمن، ولم يقدِّمه للجمهور إلا بعد أن مضى ما يقارب عشرين عامًا، وأصبح اللحن ملائمًا للعصر والذوق الغنائى الذى قُدّم له. كان يؤمن بأن الفن لا يصحّ أن يكون إلا مصدرًا خالصًا للبهجة، فالحياة تقدِّم أحزانًا مجانية للبشر، والفن هو ما يداوى تلك الأحزان، لذا لم يقدم أغانى أو ألحانًا بها مسحة من شجن، اللهم إلا لحنًا واحدًا كان عن بشاعة ما حدث فى مدرسة بحر البقر حين قصفها العدوّ الإسرائيلى سنة 1970، فقدّم وقتها أبو السيد أغنية «الدرس انتهى لِمُّوا الكراريس» من كلمات صلاح جاهين، وتَغَنَّت به القديرة شادية. الآن وأنا أستمع إلى ألحانه وأغانيه وجلساته التى أحتفظ بها فى مكتبتى الخاصة لا أمتلك سوى الابتسام، لا لأننى أستمع إلى موسيقى من إبداع والدى، ولكن لأن الروح التى تركها فى جميع ما صنع روح طيبة وَدُود ليس بها إلا ما يدعو إلى البهجة، تلك التراكيب اللحنيَّة البسيطة التى تجعلك تعتقد أنك تستطيع الغناء بسهولة وتحفظ اللحن والأغنية عن ظهر قلب، وفى نفس الوقت إن كنت موسيقيًّا لا تستطيع بسهولة أن تخلق لحنًا مشابهًا لها، وتلك كانت عبقرية أبوالسيد.