الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أوراق من حياة سيد مكاوى ـ الحلقة الرابعة ـ

أبــوالسيــد بطــل سينمائــى!

فى البيت مع أميرة وإيناس
فى البيت مع أميرة وإيناس

«أنا متأسف جدًّا، أنا مش عارف أكفّر عن الغلطة دى إزاى؟». تلك كانت كلماته لى قبل الرحيل بيومين. لم أصدِّق أن هذا الرجل لا يزال يعتذر، «يا بابا أنا بجد مش زعلانة. إنت إزاى لسه بتتكلم فى الموضوع دا؟ وبعدين ما أنا قلت لك إنى رجعت تانى». بدأت القصة وأنا ابنة الرابعة عشرة. كتبت نصًّا على لسان شجرة، نصًّا بسيطًا على ما أذكر، لكننى أحببته، وأذكر جيدًا أننى كنت من القليلات اللاتى يحصلن على الدرجة النهائية فى موضوع التعبير، فاعتقدت أننى كاتبة صغيرة مُهِمَّة.



 

شريكة حياة الراحل
شريكة حياة الراحل

 

نقَّحتُه وأعدت كتابته فى ورقة جديدة، وذهبت إلى أمى، شجَّعَتنى وأثنت على النَّصّ. أمى التى سيأتى الحديث عنها بالتأكيد فى فصول كثيرة، قارئة نهمة، ومثقَّفة كبيرة، وناقدة لا تخشى إلا الله وضميرَها الحى. - جميل يا أميرة. - يعنى أروح أقراه لبابا؟ أخذتنى من يدى ووقفت على باب غرفته. «سيِّد، أميرة كاتبة حاجة حلوة وعايزة تقراها لك». تركَتنا وذهبَت، لم ألحظ أنه كان منشغلًا، فقد كانت رغبتى فى أن أُرِيَه وأُسمِعَه أول ما كتبت وأن أدخل السعادة على قلبه بأن ابنته من الممكن أن تكون موهوبة طغت على ملاحظتى انشغالَه، وربما أيضًا ضِيقَه. استأذنت أن أقرأ عليه ما كتبت، فأجاب: حاضر. تركتُه فترة ظننتُ أنها كافية وسألت مرة أخرى، فتلقَّيت نفس الإجابة... انتظرت وسألت: ها، أقرا؟ أجاب بحزم وصوت خفيض حازم ضَجِر: يعنى هاسمع أحمد شوقى يا خى؟ غلب الصمت على كلينا، ولم أترك أنا فرصة لأى حديث بيننا، فقط خرجت من غرفته مسرعة كى «لا يرانى» وأنا مكسُوَّة بالخجل والدموع حبيسة فى عينى. دخلت غرفتى وبكيت كثيرًا حتى أجهدَتْنى الدموع، مزَّقت ما كتبت واتَّخذت قرارًا أننى لن أكتب شيئًا بعد الآن... بعد قليل سمعت طرقات على باب غرفتى، استأذن فى الدخول، وبدأ يداعبنى حتى يُزِيل الحرج بيننا: بتعملى إيه يا ست ميللو؟ معلش أنا آسف؛ كنت مشغول وكان فيه مشكلة فى الشغل، يلَّا سمَّعِينى كتبتى إيه. فأجبت: قطَّعته. رفع حاجبيه دهشةً وسأل: قطعتيه؟! واختلج وجهه، ثم ابتسم وقال: مش حكاية، تكتبى حاجة تانية وتسمعيهالى، هو إحنا قد إن الست ميللو تكتب حاجة؟ وخرج من باب غرفتى يسرع الخطى كأنه يهرب. فى اليوم التالى سألنى: كتبتى؟ أجبت بالنفى، فابتسم ذات الابتسامة الخجلى التى ابتسمها بالأمس وقال: شِدِّى حيلك. أسبوع كامل يسأل كل يوم، وأنا أجيب بالنفى، وللأمانة فقد حاولت أن أكتب ولكننى فشلت، كنت أريد أن أمحو تلك اللحظة بيننا. أنا أحفظ تلك الاختلاجة التى تظهر على وجهه حين يكون شديد الحزن ولا يريد للدموع أن تنهمر من محجريه. توقف عن السؤال وتوقفت أنا عن المحاولة، لكنه لم يتوقف عن إبداء حزنه لعديد من أصدقائه: يا أخى أنا عملت حاجة بايخة بشكل، البِتّ أميرة كانت كاتبة حاجة وأنا مزاجى ماكانش قد كدا وزعَّلتها، ومش عارف عملت كدا إزاى. مرَّت أشهُر... كنا نجلس فى شرفة منزلنا بالإسكندرية، شرد قليلًا ثم بدأ يتحدث معي: أنا مش عارف إزاى عملت معاكى كدا؟ أجبت: عملت إيه؟ - إزاى أنا بغباوتى خليتك توقفى كتابه؟ إزاى أنا أبقى سبب فى إنك تبطَّلى حاجة كنتى حاسَّاها وممكن تبقى حلوة؟ لا مش ممكن، أنا متأكد إنك كنتى كاتبة حاجة حلوة جدًّا، إزاى أنا أعمل كدا وأنا أكتر واحد عارف قسوة قتل الهِمَم؟! أنا متأسف جدًّا. كنت أسمعه وأنا مشدوهة ورأسى يتحدث: هو أنت بتتكلم بجدّ؟ كتابة إيه؟ الحكاية مش أكتر من إنى كتبت حاجة وقطّعتها، عادى يعنى... ويقاطع الحديث الدائر فى رأسى: أنا مايصحِّش أعمل كدا، مايصحِّش.. حقِّك عليا، أنا متأسف، بس وحياتى عندك ابقى حاولى تانى. وأجيب: حاضر. يعود بعد أشهُر ويسأل: ها، كتبتى حاجة جديدة؟ كأن لدى قديمًا من الأصل، فأجيب: لا. فيبتسم ويقول: طيب. ويعود ويحكى فى جمع من أصدقائه: أميرة كانت كاتبه حاجة وأنا مزاجى ماكنش قد كدا، زعَّلْتها وقطِّعِتْها وبطَّلِت تكتب، تَخيَّل! كان ممكن تطلع كاتبه البنت دى وأنا عملت لها عقدة، مش عارف أغيَّر الحكاية دى إزَّاى يا أخى. ظلَّ يكرِّر اعتذاره بشكل دورىّ كلما جمعَنا حديث وحدنا، فيتحدث عن خطئه الجسيم، وكيف أنه ارتكب جُرمًا لا يستطيع أن يغفره لنفسه. وأنا أحاول أن أثنيه عن شعوره بالذنب، وأقنعه أنها كانت حالة ومرّت، وأننى لا أريد أن أصبح كاتبة... إلى أن أتت المرة التى أطلق فيها سبب شعوره بالذنب: أنا لَمَّا حبيت أبقى مطرب شوية من أصحابى قالوا لى: «يا عمّ تبقى مطرب إيه بس، ما أنت ابتديت تبقى معروف فى التلحين وبتغنِّى فى الإذاعة من غير ما حدّ يشوفك، المطرب ده لازم يكون شكله جميل وشعره مش عارف إزاى وماعرفش بيبتسم إزاى ويبص للناس وهو بيغنى، وإنت مش هتعرف تعمل الحكاية دى، فسيبك منها وخلِّيك فى التلحين». الحكاية دى زعّلِتنى خالص وأحبطتنى. ويدير وجهه إلى الناحية الأخرى ويقول: زى ما أنا عملت فيكى كدا. يكمل: رحت حكيت لواحد صاحبى مخرج اسمه أحمد بدر خان، سمع منى الكلام وقال لى: «طيب»، وضحك، طنّشنى يعنى، قلت الراجل شكله اتكسف يقول لى عندهم حق... بعد شوية لقيته مين؟ جاى بيقول لى: «عندى دور فى فيلم اسمه «العروسة الصغيرة» هتمثل فيه دور ملحِّن وجار البطل»! استغربت قوى بس وافقت... وبعد ما خلّصنا تصوير الفيلم قال لى: «ها يا حلو، أصحابك اللى أحبطوك وقالوا لك ماينفعش تبقى مطرب علشان مش بتشوف يعرفوا يعملوا اللى إنت عملته فى الفيلم دا؟»، قلت له: «لا»، قال لى: «يبقى تتّكل على الله». أهه أنا بقى عملت فيكى زى اللى أصحابى دول كانوا عايزين يعملوه معايا، ينفع أنا أعمل كدا؟ أحد عشر عامًا يعتذر وأنا أحاول إقناعه بأننى بدأت محاولات الكتابة، أجبته وهو على فراش المرض حين تَحدَّث عن عدم تَمكُّنه من غفران ذنبه أننى بدأت أكتب، وسأقرأ له ما كتبت حين يستعيد عافيته. أحببت أن أطمئنه وأن أمحو هذا الذنب الذى لا يريد أن ينمحى. كان صوته ضعيفًا جدًّا: الحمد لله ريَّحتِينى. أقسمت له بحياته أننى سأكتب، وسأكتب ما يرضيه، وأن لا ذنب حدث منه حتى أغفره، ووعدته أننى سأقرأ له ما وعدته به، بس يقوم ويشد حيله. أجاب: ما انتى شايفة إنى باحاول أهه. رجوته ألا يشعر بالذنب، فأجاب: لا خلاص، ما دام هيبقى فيه كتابة يبقى أنا كدا فـُلّ. ضحكنا... ورحل قبل أن أقرأ له ما كتبت. هنالك تَخلَّص من شعوره بالذنب، وها أنا ذا أكتبه، حتى يستريح كلانا.