الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الغنـاء علـى منبـر جامـع أبوطبـل!

سلطنة الشيخ سيد
سلطنة الشيخ سيد

«تعالى يا أميرة»، قالها بابتسام وأنا ابنة الثالثة عشرة أقف أمام باب غرفته أختبر للمرّة الألف بعد الألف قدرته على الإبصار، نعم، كنت أعامله كما يجب أن يكون الرفيق الجيِّد لكفيف، «إنتى أحسن واحدة باعرف أمشى معاها». قالها لى ونحن نسير معًا بعد إحدى الحفلات فى قاعة المؤتمرات بمدينة نصر بالقاهرة، «بس أوعى تقولى لحدّ لاحسن تبقى حكاية».



 

.. مع أشهر المعجبين فى بيته.. رحلة سماع
.. مع أشهر المعجبين فى بيته.. رحلة سماع

 

دخلت غرفته بعد أن فاض بى الكيل أن أقف ولو لمرّة وحيدة أمام بابه دون أن يعلم أننى أنا الواقفة هناك، مرَّت بضع ثوانٍ وأنا أحدّق إلى وجهه... كيف عرف أننى من يقف بالباب؟! فإذ به يباغتنى: «بتبصّى لى كدا ليه؟!»! يووووووه! الراجل ده بيشوف بقى، أنا زهقت. أبو السِّيد وُلد فقيرًا فى حارة قبودان بالسيدة زينب لأسرة مُثقَلة بثلاثة أبناء وثلاث بنات، وفقر يأكل الأرواح، أصابه مرض ما فى عينيه وعالجَته أمّه بفقرها وجهلها وبساطتها بإضافة مسحوق البُنّ فى عينيه، «مش كانوا يحطُّوا لى شاى أظرف؟!». أخذ بصره فى الرحيل رُويدًا رُويدًا إلى أن حلّ الظلام مكان النور. «أنا كنت باشوف النور من الضلمة لحدّ سنتين». ظللت إلى أن أتممتُ السابعة من عمرى على يقين أنه مُبصِر، فكيف وهو لا يرى يتحرَّك بهذه الأريحية؟ يلعب الدومينو بحرفيةِ قاهرٍ لا يستطيع أحد أن يغلبه! يُصلِح الأجهزة حين تتعطّل فى المنزل، يُديِر كل شىء بروح وعقل مُبصِر. إلى أن رأيته يومًا دون نظارته السوداء وعلمت أن أعيُننا لا تتشابه. أمسكت الورقة وبدأت فى قراءة كلمات نَصٍّ من المفترض أن يُلحّنه لمطربة ما فى الإذاعة، أدار جهاز التسجيل الصغير الذى لا يفارقه وسَجَّل الكلمات بصوتى وأنا حريصة كل الحرص على نطق كل حرف بوضوح، وأختلس النظر إلى وجهه حتى أنال تلك الابتسامة العطوف التى تُنبِئ بأننى مَحلّ رضاه، «شوفى يا ستّ ميللو، علشان تقرى لى الكلام كويس لازم تفهمى معناه الأول، لازم تفهمى كل كلمة وتحسِّى بيها علشان تعرفى تقوليها، مش مهمّ يبقى صوتك حلو وبتقولى زى بتوع الإذاعة، بس مهمّ تعرفى تحسِّى الكلام وتعرفى تقفى فين، هاتى بقى الجهاز ونقول من الأول، بس الأول هاتى بوسة». كان هذا واحدًا من عشرات الدروس التى علّمنى إياها بلطف خفىّ ونعومة فائقة. انتهيت من القراءة وانتظرت، فوجدته يبتسم ويقول: «أهه كده»، ويسجل بصوته للنص عنوانًا. فتحت عينَىّ فإذا بى فى غرفته أغفو. - إلى متى أيها الحاضر المسافر سأظلّ أرى حياتى معك تتكرّر فى المنام؟- ودى حاجة مضايقاكى يا ست ميللو؟- لا يا بابا بالعكس، بس مش فاهمة ليه باشوف حاجات بعينها؟- علشان ترجعى تفهميها من الأوّل، ولو فى حاجة ناقصة أوريهالك أنا بقى. يلاحقنى صوته منذ أن اختفى جسده من الدنيا، فى البداية ظننت أننى لدىّ أحد تلك الأمراض النفسية التى يطلقونها على مسامعك متى تَحدَّثت بأن عرضًا يعتريك مخالف لِمَا اتفق عليه المجموع، ولكننى مع الوقت بدأت أدرك وجود شىء ما مختلف، فما يحكيه لى يكمل تفاصيل كثيرة بينى وبينه لم أكُن أعيها، لصغر سنِّى ربما، أو لقدر ما أراد أن تختفى من عقلى أشياء وتكتمل فى مرحلة أخرى. «ما تيجى توصّلينى بالعربية يا ست ميللو»، بالطبع لم أكُن لأرفض رغبته مع قليل من الغبطة التى تصيبنى وأنا أقود بجانبه السيارة وأستمتع بأنظار المعجبين به من طيِّبِى أهل بلدنا. كلّما توقفت السيارة فى إشارة أو بسبب الزحام وجدت من يهتف «منوَّر يا عمّنا»، «يا شيخ سيد يا فللى»، «حلوين من يومنا والله»، وهو لا يَكلّ عن رفع يديه جانب جبهته ويجيب: «أهلًا حبيبى»، ويضحك تلك الضحكة التى لا تسمعها أذناى منه إلا وهو محاط بمَحبة البسطاء. «هو أنت مش بتزهق؟!»، سألته فى إشفاق أمومى واضح. أجابنى بلطفه الدائم: «الناس دى هى إللى عملتنا يا عبيطة، مَحبتهم هى إللى ودّتك المَدرسة ورَكّبتك العربية، الناس دى أنا منهم، أوعى تفتكرى علشان انتى اتولدتى فى المهندسين إنك بنت حد تانى، أنا أبو السِّيد بتاع أبو الريش، يا ست ميللو إللى مايحبش الناس، خصوصًا البسيطة منهم، ويتعالى عليهم، يبقى هو إللى فيه خَلَل، يبقى مناخوليا يعنى». يا الله يا صاحب الروح المبصرة لو تعلم كيف كانت أحاديثنا الصغيرة تحفر لها أخاديد فى طباعى وقلبى قبل عقلى، عاجبَك كده؟! الناس دلوقتى شايفة إنى هبلة بسبب تلك الطباع فى زمن أحمد الله أنك لم تعايش قبحه وتلمس زيفه.. اعتدت منذ تَعلَّمت القيادة أن أقود سيارتى وأتولى مُهمَّة إيصاله إلى مكتبه فى وسط القاهرة. لم أسأله يومًا لِمَ اخترت وسط القاهرة وشارع شريف تحديدًا ليكون به المكتب، ربما ليكون أقرب إلى العالَم الذى تنتمى إليه روحه، مَمرّ «الأمريكين»، يحيِّينا عمّ إدريس حارس العقار، هذا النوبى الجميل الذى ما إن تنظر إليه حتى تعلم أن الحياة ملأته بأسرار جعلت عينيه تفيضان حنانًا وحفرت على وجنتيه نهرين لا يمكنك التغاضى عن التفرس فيهما، يُهرَع عمّ إدريس إلى أبو السِّيد فى كل مرّة ألقاه فيها بنفس الفرح الطفولى، ونفس إحساس المسئولية بأنه حارس للعقار وحارس لأبو السِّيد. يأخذ يد أبو السِّيد منِّى فى تَحَدٍّ واضح لأننى الآن فى منطقة نفوذه، ويبتسم أبى فى إشارة لى أن أتركه يفعل ما يريد، نصعد الدَّرَج قليل العَدد حتى ندلف إلى المكتب. يتركنا عم إدريس ويبادر أبى بالكلام ليجيب استغراب عقلى كالعادة دون أن أوجِّه إليه السؤال: «لو الواحد قدر يفرَّح حدّ ليه مايعملش كده مش فاهم أنا؟! يا شيخة يعنى عمِّك إدريس ده مثلًا إنه يمسك إيدى ويوصَّلنى دى حاجة تبسطة، رغم إنه بيمشِّينى زى الموتوسيكل، لكن معلش برضه بيتبسط. أنا وأنا صغير كنت بافرح لَمَّا حدّ بياخد باله من الحاجات اللى بتفرّحنى»- («والله حتى وانت كبير».. هكذا أجاب عقلى») وباين وأنا كبير برضه... الراجل ده والله العظيم فيه حاجة بقى، عارفة؟ أمّى لَمَّا جابت لى الأسطوانات وأنا صغير، كان الأهمّ من الموسيقى وقتها الاهتمام إللى اهتمّته بيّا. راحت اشترت أسطوانات علشان عرفت إنى باحبّ المزيكا، علّمتنى الحبّ السّت دى رغم إنها كانت لا بتقرا ولا بتكتب، بس مش الحب إللِّى بيعبَّروا عنه بالكلام، الحب اللى بيعبَّروا عنه بالفعل. أعمل لك شاى؟». لا أذكر كثيرًا عن «سِتِّى الحاجَّة»، هكذا كنا نناديها، سوى أن لى معها حديثًا سجَّله أبو السِّيد نتشاجر فيه أنا وهى... أنا صاحبة العامَين واللسان الزّالف، وهى صاحبة الأعوام الثقيلة والعقل الذى يعود إلى الطفولة فى إصرار على قطعة من فاكهة المانجو، وكل منا تدَّعى أنها لها، سجَّل لنا أبو السِّيد تلك المشاجرة ونحن فى منزلنا بالإسكندرية، لكنى أتذكَّر جيدًا منزلها فى أبو الريش، شقَّة فى إحدى البلوكَّات كما يطلقون عليها الآن، بها صالة مزينة بطقم أرابيسك تختلط نقوشه بأنفاس وروح صانع عكف على رسم منحنياته بدِقَّة، ثم تلك الغرفة التى يزيِّنها السرير النحاس الكبير والنافذة التى تُطِلّ على الشارع، وأسفلها الكنبة الإسطنبولى. رغم بساطة ذلك البيت فإن به شيئًا ما يدهش روحك كلما دخلته، فقط أتذكر انتظارى بائعَ الزبادى الذى يمرّ وهو يقود درَّاجته بحرفيه مدهشة، وعلى رأسه صينية مغطَّاة بالشاش الأبيض محمَّلة بأطباق فخارية بها هذا الزبادى الذى لم أرَ له مثيلًا منذ ذلك الحين، أتابع كيف يحمل هذا البائع الصينية ويحافظ على توازنه، وأومن أن له دورًا فى فقرة السيرك وقت الاحتفال بمولد السِّت (السّيدة زينب رضى الله عنها). ننادى البائع الذى يتوقَّف ما إن يسمع النداء، نُلقِى إليه السَّبَت المصنوع من البوص والمُعَلَّقَ فى النافذة حتَّى يُعطِيَنا أطباق الزبادى ويتسلَّم من السَّبَت ما قدَّره له الرحمن من رزق، ومشهد آخر لمجموعة من المراجيح كنت أهرول لركوبها كلما زُرت المكان. انقطعنا عن زيارة أبو الريش بعد أن رحَلَت جدّتى بقليل، والآن أدرك أنه لم يكُن ليحتمل بيتها خاويًا من حضورها. بعد أن فقد أبو السِّيد بصره أرسلَته جدتى لتعلُّم القرآن كما كان يحدث مع كل مَن كُفّ بصره، فما فائدته فى الحياة غير أن يكون شيخًا قارئًا للقرآن؟ وعلى الرغم من ذلك كان عقل وقلب هذا الصغير يتوقان إلى شىء آخَر، كان شيخه الذى يُعلِّمه القرآن كفيفًا أيضًا، «كان معاه خرزانة طويلة بيضرب بيها إللى مش بيحفظ. كنت أنا أعمل إيه بقى؟ أحط مخدّة جوَّا ضهرى علشان لَمَّا يضرب ماحسِّش بحاجة، أنا كنت عفريت قوى. كنت باركب العَجَل من العيال وأسوق كويِّس لحد ما ادخل فى الحيطة»، يحكى ويضحك وأضحك إلى أن يُرهِقَنا الضحك. يعود مُمسِكًا ستكانة الشاى الذى صمَّم أن يصنعه لنفسه وأنا أنتظر فى غرفة المكتب وأقرأ أبياتًا من المفترض أن يلحِّنها. «أما أبوكى ده كان راجل عفريت من صغره». أجلس على الأرض وهو يحكى. «كنت مرّة بأذّن فى جامع أبو طبل، وخدنى الغُنا ونسيت أأذن الفَجْر، وبدل ما أقول الأذان قعدت أغنِّى. شُفتِى جنان أكتر من كدا؟ المزيكا من وأنا صغير ندهتنى زى الندَّاهة. أنا عارف إنك بتحبى المزيكا. الموسيقى بتخلِّى الإنسان قلبه أطهر وإحساسه أعلى. قومى يلّا روَّحى»، وأعود وأنا أفكر كيف يعلِّمنى هذا الرجل بكل هذه البساطة هذا الكَمَّ من العمق