الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايتــى مــع «أبوالسِّيــد»!

مُقدمة لا بُدَّ منها…



حكايتنا إحنا الاتنين هى أول أغنية عاطفية لحنها أبويَا وكانت للرقيقة ليلى مراد، وأول خطوة فى مشوار شهرته الحقيقة، وأعتقد أن حكاياتى التى تخص علاقتى بسيد مكاوى الأب والقدوة والفنان والفيلسوف، لن أجد لها عنوانًا أفضل من حكايتنا إحنا الاتنين، «أنا أحبك وأفضل أحبك وإنت عذابى ودمع العين» «مش بس حكاية قلبك دى حكايتنا إحنا الاتنين».

 

 
 
 

 

«مش هتشوفى حاجة».. هكذا أجابنى أحدهم حين طلبت أن أدخل الغرفة. أجبته: «مش مشكلة»، فلم أكن أعرف وأنا التى قاربت ربع قرن ما يعنيه الرجُل ولا معنًى لإجابتى. وجدته ملفوفًا فى قماشة بيضاء، نحيلًا من تحت عباءة الموت كان. أول مشهد للكفن تراه عينى، وأول مَلمح لغيابه يصدمنى. قبل دقائق كنت أجلس بجواره وهو «ميت» كما يزعمون، أحكى له وأطمْئِنُه أن لا يخاف، وتلك الابتسامة الهادئة على وجهه لا تذبل، فقط حرارة جسمه تتناقص ولا أراه يشعر ببرد، والابتسامة لا تفارقه. لماذا ألبسوك هذه العباءة البيضاء وأحكموا إغلاقها عليك وجعلوا رؤية وجهك مستحيلة؟ ما الذى جعلك تصلّين لى الركعتين بعد أن حدّثوكِ أن لا أمل وأننى لم أعُد حيًّا؟ تَلَفَّتُّ حولى فإذا أنا وحيدة على الأرض مع الجسد المسجَّى فى العباءة البيضاء! لقد بدأ اضطراب غيابك يظهر علىّ يا أبو السِّيد.. أتحدّثنى وأنت لست على قيد الحياة؟ أغمضت عينى وقرأت الفاتحة فإذا صوته يسكننى كأنه يتحدث من داخلى: إيه اللى جرَّاكى كده تصلّى ركعتين؟ «تصدّق مش عارفة»، هكذا أجبت. - قومى شوفى لنا الدنيا برّه إيه حكايتها وتعالى قولى لى. خرجت من باب غرفتى حتى أنفّذ ما طلب منّى كعادتى معه. نعم غرفتى. لا تعتقد عزيزى أننى أهلوس.أطفأ ملك الموت أجهزة أبى وقبض روحه فى غرفتى أنا. ربما اعتقد البعض أنها مصادفة، ولكننى الآن بعد ما يقارب عشرين عامًا على الرحيل لم أعُد أرى للصدفة محلًّا، فقد أصبحت على يقين من أن القدر هو الذى أراد لى أن أكون شاهدة على كل انتكاساته الصحية، وأن أكون أنا وحدى مَن يرى أوراقه تتساقط واحدة تِلْو أخرى على فترات زمنية متباعدة، وأن أكون أنا الوحيدة التى بجانبه. كنت معه وحدى فى العاشرة من عمرى حين سقط أمامى على سُلّم مترو الأنفاق فى مدينة قساة القلوب لندن، ظللت أصرخ وأنادى «بابا» وأنا أراه يتكور على نفسه ويلتهمه السُّلَّم الطويل جدًّا حتى وصل إلى منتهاه. لم يُصَبْ بأى عَرَض جسدىّ، ولكن الندبة النفسية التى تركتها فكرة السقوط أمامى ظلّت محفورة فى وجدانه... إلى أن أطلق سراحها فى إحدى جلساتنا السّرّيّة التى لا يعلمها سوانا، كنت أنا الشاهدة على زيارات الطبيب فى المنزل لقياس تَدَهوُر سَمْعه نتيجةَ الجلوس فى الاستوديوهات حين كان صغيرًا، كنت مساعدةً للطبيب، وتلك المُلِحَّة بمئات الأسئلة للاطمئنان عليه، وحين داهمته الأزمة القلبية اللعينة كنت أنا أول من سمع آهات صرخات قلبه ليلًا، حينها كنت أنا ابنة السابعة عشرة أذاكر للثانوية العامة، وحين اعترضَت رئتُه على كمّ التلوُّث المحيط وسلّمَت رايتها بأنها لم تعُد كُفأَة للعمل. فى احتفالات العيد ببلد الحياة بيروت كنت أنا صاحبته وصحبته. ومعى أربعة وعشرون عامًا أحملها على كتفى، وعاد من مستشفى الشرطة بالعجوزة لينام فى غرفتى لكى يرحل من مكانى لا من مكانه. خرجتُ من الغرفة فوجدتهم فى عالَم آخر، منهم من ينتحب ومنهم من يُجرِى مجموعة من الاتصالات. ناس رايحة بنوك وناس بتخلّص ورق. زيطة وزمبلبيطة فى الصالون، وأنا لا أبكى، وأطمْئِنُ الجميع أنه بخير، حاولت إقناعهم أنه تناول إفطاره وصلّى الفجر قبل أن تذهب روحه إلى بارئها، وأن هذه علامة طيبة، كما أنه عائد لتوّه من الحج الذى أدّاه نيابة عنه زوج شقيقتى... والجميع ينظر إلى تلك البلهاء الصغيرة فى الخبرة والسنّ ويتعجّب مما تقول، بل إن بعضهن بدأ فى إعطائى التعليمات الواجبة فى مثل هذه الظروف: يجب أن لا أجيب الهاتف (علشان الناس تعرف إننا متضايقين). لا تبتسمى فى وجه أحد. اجلسى فى مكان واحد. كفاية تطمّنى الناس، المفروض همّا إللى ييجوا يطمّنوكى. ذهبت إليه وقلت له: «اطمّن»، وحكيت له بالتفصيل ما يحدث فى الخارج. «أميرة سيد مكاوى».. الآن أعرّف نفسى هكذا. قبل رحيله كنت أكتفى بـ«أميرة مكاوى». كانت تتملّكنى رعونة الشباب أننى أنا وحدى دونه أستطيع أن أكون... «كيف يا مخبولة وأنت قطعة منّى خالصة، بك اكتملَت الحكاية بعد أن أتيتِ إلى الحياة؟»، داعبته وأنا ممسكة براحة يده التى طالما طابقتها على راحتى فى دهشة طفولية أن يدَىّ نسخة مكرَّرة من يديه. يبتسم ويلامس ذقنى ويقول: «دقنك حلوة، ينفع آخد دقنك وأديكى دقنى؟»، حديث دار بيننا فى بيروت وأنا أساعده فى ارتداء ملابسه قبل أن يذهب للغناء فى إحدى الخيام التى أقيمت للاحتفال بالعيد المبارك. أبتسم الآن كثيرًا حين أستعيد حكايات كثيرين بعد رحيله عن جلساتهم الخاصة معه وماذا قال وبِمَ أسَرَّ وبِمَ أوصى... مسكين أبو السِّيد؛ لن يستطيع الآن أن يكذّب أو يصدّق أى شخص يتناول شيئًا يخصّه. عدت إلى غرفتى وهى خاوية من جسده إلا من أثره. داعبت خاتمه فى يدى. أخذت من يده الخاتم ووضعته فى إبهامى لاختلاف حجم أصابعنا وهو مريض (لم يفارق يدى من حينها إلى الآن). كان يحب هذا الخاتم، وآخَر كان يضعه فى خنصره اختفى فى ظروف غامضة ونحن فى بيروت، «عارفة يا ميللو (هكذا كان ينادينى)؟ الخاتم ده معمول فى خان الخليلى. أنا كنت باروح هناك وأنا صغير واقعد مع أصحابى هناك واتفرّج على شغل الدهب والصاغة. كان فيه ناس شغلتها تلمّ التراب بتاع الورش وتنخله علشان بيبقى فيه بواقى الصنايعية. تلاقى فيه حتت صغيرة تجمعها وتبيعها»، ويضحك... ماذا كان يدور فى ذهن هذا الرجل؟! ما الذى جعله يهتمّ بأن يعرف تلك المعلومات؟! ولماذا كان يذهب إلى الصاغة؟ لماذا يستخدم فعل الفُرْجة فى قاموسه (كنت باتفرج)؟! والغريب أن بعض المبصرين يستخدمون فعل السمع للتعبير عن المشاهدة (سمعت المسلسل إمبارح؟). أغمض عينَىّ على رائحته فى فراشى، وأشعر بيديه تحتضنانى كما كان يفعل دومًا، وأنام.