الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لقاء غامض بعرافة .. وبداياته مع روز اليوسف "الحلقة الثالثة"

تناولنا فى الحلقة الماضية، بدايات «الريحانى» الفنيّة، وفصله من عمله أول مرة بسبب حبه للتمثيل، وانضمامه لفرقة الشّامى الرّحالة. ونستأنف فى الحلقة الثالثة سرد المزيد من المواقف والقصص الطريفة فى مسيرة صاحب شخصية «كشكش بك».



أثناء وجود «الريحانى» فى نجع حمادي؛ وصل رجل أجنبى كان منوّمًا مغناطيسيًّا، بصحبة زوجته، التى كانت بارعة فى قراءة الكف ومعرفة أحداث الماضى والمستقبل.

هنا، انحاز القدر لـ «الريحانى»، وحقّق له أمنيته بلقاء يجمعه مع تلك العرّافة، التى أخبرته عن أحداث مرّ بها فى ماضيه، وأخرى سيتعرض لها مستقبلًا.

وعن هذا اللقاء، يذكر «الريحانى» فى مذكراته مندهشًا «هذه السيدة أخبرتنى بأشياء حدثت لى فى الماضي، كما لو كانت معي. كان ذلك فى عام 1913، وأقسم بالله إننى ما زلت حتى الآن أجتاز من أدوار حياتى مراحل سبق أن تنبّأت لى بها هذه السيدة!».

ومما أخبرته تلك السيدة أن حياته ستكون ضجّة صاخبة، وأن أموالًا كثيرة سيتداولها، وسينتقل من فقر إلى ثراء. ووقتها كان «الريحانى» موظفًا بسيطًا، ولا يوجد ما يُبشّر بصلاح أحواله. ويُفسّر لنا «الريحانى» سبب عدم اقتناء سيارة خاصة، مرجعًا ذلك إلى خوفه مما تنبّأت به العرّافة من تعرّضه لحادث سيارة، وهى النبوءة التى أزعجته طيلة عمره، وجعلته يخشى استقلال مركبات «التاكسى»، وتفضيل عربات الخيل فى أغلب الأحيان.

قسط الممثلين!

فى عام 1914؛ فوجئ «الريحانى» بخطاب يفيد بفصله من شركة السكر لأسباب لم يذكرها؛ فحزم حقائبه قاصدًا العودة إلى القاهرة، وفى محفظته 70 جنيهًا كانت بمثابة مكافأة نهاية الخدمة.

وفى مساء يوم؛ حضر «الريحانى» مسرحية «أوديب الملك» لفرقة «جورج أبيض»، وفور إسدال الستار؛ طلب منه سليم أبيض، مدير إدارة الفرقة وشقيق جورج، من «الريحانى» طلبًا غريبًا.

وفى تلك اللحظات؛ همس سليم فى أذن «الريحانى» راجيًا مساعدته « الليلة لازم الممثلين يقبضوا القسط، والإيراد مخسّع، وعشان كدة قصدتك يا نجيب أفندى فى حسبة 25 جنيهًا، وتاخدهم بعد يومين، وأخويا جورج ضامن».

فى ذلك الوقت، لم يكن فى جيب «الريحانى» غير 26 جنيهًا، وهو آخر ما تبقى معه بعد أسبوعين من عودته للقاهرة؛ لكنه اضطر للاستجابة وإقراض سليم المبلغ المطلوب.

وبعد أسابيع قليلة؛ عرض جورج أبيض على «الريحانى» الانضمام لفرقته الجديدة، التى شكّلها بالاشتراك مع سلامة حجازي، على أمل حصوله على المبلغ الذى أقرضه لسليم أبيض.

يقول:«رأيت بين أفراد الفرقة السيدات روز اليوسف، سرينا إبراهيم، نظلى مزراحي، والأساتذة عمر وصفي، محمود رحمي، فؤاد سليم، عبد العزيز خليل، عبد المجيد شكري، والمنشد الشيخ حامد المغربي».

وكُلّف «الريحانى» بأداء دور صغير، وهو شخصية ملك النمسا فى مسرحية «صلاح الدين الأيوبي». وقتها كانت الحرب العالمية الأولى فى بدايتها، وكانت الصحف المصرية والأجنبية تنشر صور ملوك وحُكّام الدّول المتحاربة، ومن بينهم فرانسوا جوزيف، إمبراطور النمسا حينها.

وخطرت على بال «الريحانى» فكرة؛ فشرع فى تقمُّص مظهر إمبراطور النمسا وقتها، وحين جاء وقت ظهوره على المسرح؛ لم يتمالك الناس أنفسهم من الضحك.

وبسبب ما يصفه «الريحانى» بـ«مقالب» أعضاء الفرقة؛ خصوصًا عمر وصفي؛ صدر أمر بفصله من الفرقة، بدعوى عدم لياقته للتمثيل بتاتًا؛ ولكن هذا القرار كانت نقطة بداية أخرى فى مسيرته.

تدهورت أحوال فرقة «أبيض- حجازي»؛ فانفصل عنها عزيز عيد وروز اليوسف، وشكلا فرقة جديدة، انضمَّ لها «الريحانى»، وأمين عطا الله، استيفان روستي، حسن فايق، عبداللطيف جمجوم، والكاتب أمين صدقي.

وتطوّع خواجة يونانى بمنح الفرقة الجديدة مبلغ 10 جنيهات، وكان هذا الشخص يمتلك مقهى «متروبول» بشارع عماد الدّين، الذى كان يرتاده أعضاء الفرقة فى ذلك الوقت.

وأطلق على الفرقة اسم «الكوميدى العربي»، ووقع اختيارها على مسرح برنتانيا القديم؛ وافتتح موسم صيف 1915، برواية «خلى بالك من إميلى»، ونقلها عن الفرنسيّة أمين صدقي. وكُلّف «الريحانى» بأداء دور «برجيه»، والد إميلي. 

وحتى ذلك الوقت؛ كان اهتمام «الريحانى» مُنصبًّا على «الدراما»؛ فيقول:« كنت فى ذلك الحين أميل للدراما، ولم أكن أشعر نحو الكوميديا بأى عاطفة، وبدا لى أن السقوط سيكون حليفى إذا قمت بدور كوميدي».

ورُغم اعتذار «الريحانى» لأداء هذا الدور؛ فإن عزيز عيد أصرّ على تقديمه. وكان دور «فرجيه» بداية «الريحانى» فى المسرح الكوميدي؛ خصوصًا بعد النجاح الكبير وغير المتوقع الذى حققه.

وبعد مدة؛ انتقلت الفرقة إلى تياترو الشانزلزيه بالفجّالة. واستعانت الفرقة بـ «الست منيرة المهدية» بسبب شعبيتها الكبيرة وقتها؛ فغنّت بين الفواصل، ومثّلت بعض الأدوار لأول مرة فى حياتها، وكان الإيراد يُوزّع مناصفة بينها وبين إدارة الفرقة.

وتهاوت الإيرادات بعد أن قررت منيرة المهدية الانفصال؛ فـ اتفقت الفرقة مع فرقة «آل عكاشة» على العمل فى مسرحهم «دار التمثيل العربي» بالقرب من حديقة الأزبكية، على أن يتبادل الفرقتان ليالى العرض.

لم تدم الأحوال كثيرًا مع «العكاشيين»؛ فانتقلت الفرقة مرة أخرى إلى مسرح برنتانيا القديم، فى مارس 1916. بعدها وقع الخلاف بين «الريحانى» وصديقه عزيز عيد، مدير الفرقة، بسبب رفض الأخير وضع اسم «الريحانى» على إعلانات الفرقة؛ فقرر الانفصال، فى مايو من العام نفسه.

مفاجأة سارة

استفاد «الريحانى» من تلك التجربة؛ فاكتسب خبرة كبيرة فى التمثيل الكوميدى والإخراج المسرحي، ورُغم مكوثه لمدة شهر ونصف الشهر بعدها مُفلسًا، عاطلًا؛ فإن مفاجأة من صديق قديم قلبت أحواله رأسًا على عقب.

يحكى عن ذلك فى مذكراته:«فى مساء أول يونيو 1916؛ كنت جالسًا فى بوفيه تياترو برنتانيا، وإذا بى أرى شخصًا يهبط عليَّ فى سترة فاخرة، وعصا ذهبية المقبض؛ فلما جلس بجانبي، أخرج من جيبه علبة سجاير من الفضة، وفى حركة أرستقراطية ناولنى سيجارة».

ولم يكن هذا الشخص غير صديقه استيفان روستي!، وعن سر ذلك الثراء المفاجئ؛ ذكر له «روستي» أن هناك كباريه خلف برنتانيا مكان محل داوود عدس، يطلق عليه «أبيه دى روز»، وأنه وجد هناك عملًا يتقاضى عليه 60 قرشًا كل ليلة «بما يعادل أجر «الريحانى»  فى الشهر».. وأخبره استيفان أنه يُقدّم فقرات «خيال الظل» كل ليلة من خلف ستار أبيض مقابل هذا الأجر. وأمام الأحوال المعيشية المتردية لـ «الريحانى»؛ عرض على صديقه التوسّط للعمل فى الكباريه.

فى مساء اليوم نفسه؛ وافق صاحب «أبيه دى روز»، وكان إيطاليًّا يُدعى الخواجة «روزاتي»، على إشراك «الريحانى» فى فقرات خيال الظل مقابل 40 قرشًا فى الليلة، قبل أن يطوّر الصديقان العمل، ويقدمان روايات فرنسية مقتبسة قصيرة.. ويمكن القول إن عام 1916، كان بمثابة النقلة الكبرى فى مسيرة «الريحانى» الفنيّة؛ فابتكر آنذاك كوميديا «الفرانكو- آراب»، التى قدّمها من خلال شخصيته المبتكرة «كشكش بك» عمدة كفر البلّاص، الذى تبهره أضواء المدينة.. وعرض «الريحانى» على الخواجة «روزاتي»، تقديم شخصية «كشكش بك»، ووضع أول رواية له تحت عنوان «تعالى لى يا بطة»، وكانت عبارة عن اسكتش فكاهى يستغرق عرضه 20 دقيقة.

وحققت شخصية «كشكش بك» نجاحًا كبيرًا، وأنقذت الملهى الذى كان على شفا الإفلاس والإغلاق، وبسبب ذلك النجاح؛ زاد أجر «الريحانى» ريالًا، ليصبح 60 قرشًا فى الليلة.

وبعد مدة ابتكر «الريحانى» شخصية جديدة، هى «زعرب» شيخ الغفر الذى يُلازم «كشكش بك»، وقدّمها الممثل عبد اللطيف المصري. وتوالت العروض الناجحة بعدها مثل «بُكره فى المشمش»، و«بِستَّة ريال»، و«بلاش أونطة».. ضمَّ «الريحانى» صديقه الكاتب أمين صدقى لفرقته، لمشاركته فى الكتابة، ثم عزيز عيد، وتوالت الأعمال الناجحة؛ فارتفع أجر الريحانى إلى 27 جنيهًا شهريًّا، وكان أعلى من أى راتب ممثل وقتها؛ خصوصًا أن الملهى ارتفع صافى إيراده اليومى بفضل عروض الريحانى إلى 43 جنيهًا.

بعد فترة دبَّ الخلاف بين الريحانى وصاحب الملهى، وقرر الريحانى الانفصال؛ ما اضطر صاحب الملهى إلى إقامة دعوى قضائية ضده فى المحكمة المختلطة، يطالبه بتعويض ألف جنيه، وعدم تقديمه شخصية كشكش بك فى مكان آخر.

وقضت المحكمة فى النهاية برفض الدعوى، وإلزام الخواجة بدفع مبلغ 100 جنيه لـ الريحانى، الذى استطاع فى هذا الحكم انتزاع تسجيل رسمى لشخصية كشكش بك بصفته أول مبتكر لها، ليغلق بذلك صفحة ملهى «الأبيه دى روز»، ويبدأ صفحة جديدة فى مسرح آخر.