الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
حاضـر يا أســتاذ.. تابعـى.. لــن أكتـــــب مذكراتى الصحفيـة!

حاضـر يا أســتاذ.. تابعـى.. لــن أكتـــــب مذكراتى الصحفيـة!

أظن أن خمسة وأربعين عاما من الاحتراف الصحفى والكتابة وتولى مسئوليات عديدة فى مجلة صباح الخير تكفى لكتابة بعض الذكريات ولا أقول المذكرات!!



عشت عن قرب تفاصيل مئات الحكايات والقصص الصحفية والتى كان أبطالها نجوم الصحافة سواء فى «صباح الخير» أو «روزاليوسف» أو عشرات النجوم فى صحف ومجلات أخرى!!

صحيح أن غالبية الحوارات التى أجريتها مع هؤلاء النجوم صدرت فى عدة كتب منها «صلاح حافظ الصحافة السلطان.. الغضب».. و«ذكريات يوسف إدريس».. و«الصحافة والثورة» لكن كانت هناك عشرات الحكايات جرت خلف هذه الحوارات تستحق روايتها!!

 

وفى بعض المرات سمحت لنفسى رواية بعض هذه الذكريات والحكايات فى برامج تليفزيونية أو إذاعية أو حتى حوارات صحفية، لكن لايزال هناك الكثير الذى لايزال بين ضلوعى محبوسًا بإرادتى الحرة الكاملة!!

وفى كل مرة أقرر فيها بدء كتابة هذه الذكريات سرعان ما أتراجع وأعاود التفكير فى ذلك الأمر.

وأظن أن الأستاذ الكبير «محمد التابعى» أمير الصحافة وفارسها هو صاحب الفضل فى ترددى فى الكتابة، بل ربما استبعاد الفكرة ولو مؤقتًا»!!

وتفاصيل الحكاية تعود إلى كتاب الأستاذ التابعى البديع «من أسرار الساسة والسياسة» والمقدمة التى كتبها بعنوان «الأمانة الصحفية وسر المهنة».

فى هذه المقدمة البديعة والمهمة وهى درس لكل من يفكر فى كتابة مذكراته أو ذكرياته سواء كانت سياسية أو أدبية أو صحفية إذ يقول فيها:

- اقترح علىَّ كثيرون من الأصدقاء أن أكتب مذكراتى عن الساسة والزعماء والنساء والرجال الذين عرفتهم فى حياتى.. وعن الحوادث والأزمات إلى آخره!!

ورفضت وكانت حجتى أننى لم أدون مذكراتى إلا فى فترات منقطعة متباعدة، فالتسلسل مفقود والسياق مضطرب والدقة فى الرواية غير مأمونة أو مضمونة!

ثم شيء آخر وهو الأهم عندى.. من الذى يستطيع دائما أن يقول الحق، كل الحق ولا شيء غير الحق؟!

وإذا نشرت مذكراتى فهل أقول فيها كل ما أعرف - وكل ما سمعت.. وكل ما رأيت.. وبين الذين سوف تتناولهم هذه المذكرات أشخاص قد انتقلوا إلى رحمة الله.. ونحن اليوم نحيطهم بهالة من الإجلال والإكبار.

وبينهم من لايزال على قيد الحياة ومن هو معدود من الإعلام والصفوة الممتازة فى هذا البلد.. هل أقول كل ما أعرف عن هؤلاء وهؤلاء؟!

هل أروى مثلا حديث الزعيم فلان عن الزعيم فلان.. وهو حديث مملوء غيرة وحقدًا؟! وهل أروى مثلا وأصف صور الطمع والجشع.. صور الخنوع والذل والاستمساك بالحكم بأى ثمن؟! والنفاق وعدم الوفاء.. وقصص الخلاعة والمجون وأبطالها زعماء وساسة مبرزون؟!

ثم مسألة أخرى ما هو الحد الفاصل بين ما يجوز نشره وما لا يجوز نشره؟

والأمانة الصحفية وسر المهنة؟ وما هى حدود هذه الأمانة وهذه السرية؟

ويمضى الأستاذ «محمد التابعى» قائلا:

لقد اشتغلت بالصحافة ثلاثين عامًا.. وعرفت فيها عشرات من الزعماء والساسة وربطتنى ببعضهم أواصر الصداقة والثقة، وبوحى هذه الصداقة والثقة أفضى إليّ بعضهم بأسرار كثيرة، وكشف أمامى بعضهم عن مكنون صدره، بل وعن خفايا ضعفه! فهل أروى اليوم كل ما سمعت أو بعض ما سمعت؟!

ورواية الكل قد تنفع الكل.. وتؤذى الفرد.. ورواية البعض قد لا تفيد المجموع ولا تؤذى الفرد أى الزعيم المروى عنه! وإذن ما الفائدة وما الغاية من نشر رواية ناقصة أو مبتورة؟! وفى نشر الرواية كلها فضيحة أو خيانة للأمانة!!

وفى خلال هذه الثلاثين عاما التى اشتغلت فيها بالصحافة قابلت كثيرين من الساسة وقادة الرأى العام فى مصر وفى بلاد غير مصر، بل وقابلت رؤساء دول ورؤساء حكومات، وكثيرا ما تحدث إليّ الواحد منهم وأطال الحديث ثم قال: تستطيع أن تنشر كذا وكذا.. ولكن لا تنشر كيت وكيت؟!

وبعض هذه الأحاديث قد مر عليها عشر سنوات أو عشرون سنة وأتساءل اليوم: «حظر النشر» لايزال قائما؟!

هل سرية المهنة سرية مطلقة مؤبدة.. أو موقوتة بفترة من الزمن؟! وما طول هذه الفترة؟ هل تكفى مثلا العشرة أعوام أو العشرون عامًا لكى تحل الصحفى من وعده بعدم النشر؟! أى هل أستطيع أن أنشر اليوم ما وعدت منذ عشرين عاما بعدم نشره؟!

هل أستطيع أن أنشره دون أن يتهمنى أحد بخيانة الأمانة والخروج عن مبدأ سرية المهنة وهو المبدأ الذى تقدسه الصحافة ويحترمه الصحفيون؟!

ثم اعتراض رابع أو خامس: هل يستطيع الصحفى أن يقدم دائما واجب المهنة على كل اعتبار؟! هل يستطيع أن يذكر دائمًا أنه صحفى وينسى أنه إنسان؟

لقد قابلت مثلا ملك الأفغان الأسبق الملك «أمان الله» قابلته مرتين فى سويسرا فى مدينتى مونتريه وزيوريخ وكان «أمان الله» فى المقابلتين رجلا كسير الخاطر محطم الآمال.. كان يمشى تحت وابل المطر يتسكع - كما قال هو نفسه - ليقتل الوقت!

وكتبت عنه فى المرتين ورويت الحديث الذى دار بيننا.. إلا جزءًا منه.. إلا جزءًا خاصًا بزوجته السابقة الملكة «ثريا» لقد أبقيته حتى اليوم فى صدرى.

هذا الجزء من حديث الرجل الكسير الخاطر المحطم الآمال.. كتمته ولم أنشره لأننى لم أستطع أن أنسى أننى - قبل أن أكون صحفيًا - إننى إنسان.

و«فاروق» الطاغية، فاروق هذا نفسه لا أستطيع أن أكتب وأروى عنه كل ما أعرفه لأننى إنسان. لقد قاومت طغيانه وحاربته قدر ما استطعت وهو ملك وحاكم بأمره فكتبت مثلا مقالًا عنوانه «يحيا الظلم» فى آخر ساعة عدد 11 أكتوبر سنة 1950 قلت فيه بين ما قلت:

«نعم يحيا الظلم.. ظلم كل جبار عاتية معتز بسلطانه وسطوته وظلم كل كبير فاسق وكل عظيم فاجر يسرق ولا يبالى ويختلس ولايبالى.. ويحيا الظلم لأنه خير مرب للنفوس ونفوس المصريين تجيش اليوم بمعنى واحد.. لقد صبرنا طويلًا ولن نصبر بعد اليوم.. وتحملنا كثيرًا ولن نتحمل بعد اليوم».

وقرأ فاروق المقال، وأشر بالقلم على هذه العبارات ثم سأل بعض رجال ديوانه الملكى.. ولا داعى لذكر أسمائهم - سألهم: من العظيم الفاجر الذى يسرق ويعتدى على الأعراض؟!

وسكتوا عن الرد وعاد يسألهم من الذى يعنيه التابعى..؟! ولم يجب أحد منهم وابتسم فاروق ابتسامة صفراء لأنه عرف بكل تأكيد من سكوت رجال حاشيته أنه هو المقصود!

وكتبت عن فاروق بعد خلعه وطرده.. كتبت ولم أرحمه وأسهبت فى سرد قصص مخازيه وفضائحه ومع ذلك فإننى لم أنس فى كل ما كتبت أننى إنسان فلم أذكر مثلا لماذا بكى ذات يوم فى دار صغيرة فى حى جناكليس برمل الإسكندرية فى صيف عام 1937، وكان «فاروق يومئذ لايزال الملك المأمول.. لم تفسده الدنيا ولم ينس ربه ودينه.. بكى كالطفل الصغير حتى بلل الدمع خديه.. لم أكتب ولم أذكر التفاصيل، لأن فاروق بكى.. «ساعتئذ» كإنسان لا كملك ولأننى لا أستطيع أن أنسى دائما أننى إنسان!!

وبعد تفاصيل كثيرة يقول الأستاذ التابعى وهذا هو الدرس البليغ لى:

الذكريات كثيرة وما أعرفه كثير.. وما وقع لى فى حياتى مختلف الألوان والصعوبة فى الاختيار.. أيهما يصلح للنشر.. وأيهما لا يصلح؟! أيها يجوز نشره.. وأيها لا يجوز.. وأيها يرضى أصحابه وأشخاصه وأبطاله أو يسكتون عن نشره.. وأيها الذى لا يرضيهم نشره؟!

هذه هى الصعوبة.. بل هذا هو الصراع بين الصحفى والأمانة الصحفية وبينه وبين سرية المهنة ثم الصراع بين الصحفى والإنسان».

وكأن الأستاذ «التابعى» ينصحنى بعدم الكتابة - أى ذكرياتى - حاضر يا أستاذ «تابعى»!