الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شارلمان الأكبر.. أول طريق النجومية؟!

تناولنا فى الحلقة الأولى نشأة نجيب الريحانى، وأول قصة حب مرّت به ولم تكتمل، والتحاقه بوظيفة بالبنك الزراعى، الذى تعرّف فيه على صديق عمره الكاتب والممثّل عزيز عيد؛ فكان أكبر داعم له فى بداية مسيرته الفنية.



استقال عزيز عيد من البنك الزراعى، فى عام 1908، وألّف فرقته التمثيلية الأولى بالشراكة مع الممثّل سليمان الحداد.

اتخذت الفرقة الجديدة مسرح إسكندر فرح بشارع عبدالعزيز فى القاهرة مقرًا لها. وقدّمت الفرقة عددًا من المسرحيات المُعرّبة عن الفرنسية مثل «ضربة مقرعة»، و«الابن الخارق للطبيعة»، «وليلة الزفاف».. وغيرها.

وبحكم زمالة «الريحانى» بـ «عيد»؛ فإنه أدّى أدوارًا ثانوية بتلك المسرحيّات، لكنه وقتها كان يُميل إلى الدراما، ويبغض الكوميديا؛ فعشق قصائد هيجو، وأشعار المتنبى، ولزوميات أبى العلاء المعرى.

وبسبب حب «الريحانى» للتمثيل، ومشاركته بمسرحيات فرقة عزيز عيد؛ أهمل عمله بالبنك الزراعى؛ فقررت إدارة البنك الاستغناء عنه.

وبعد فصله من البنك؛ اتخذ «الريحانى» قهوة الفن، التى كانت تقع أمام مسرح إسكندر فرح، مقرًا له. هناك؛ طلب منه صديقه أمين عطا الله السفر معه إلى الإسكندريّة للانضمام لفرقة شقيقه سليم عطا الله الجديدة، مقابل أربعة جنيهات شهريًّا، وهو أول مرتب ذو قيمة يتقاضاه «الريحانى» من التمثيل.

غيرة فنية

أول ما قدّمت فرقة سليم عطا رواية «شارلمان الأكبر»، وبطبيعة الحال؛ فإن دور البطولة أسند إلى صاحب الفرقة، فيما أدّى «الريحانى» الدور الثانى، متمثلًا فى الشخصية الثانية.

فى هذه المسرحية؛ أبهر «الريحانى» الجمهور بأداء شخصية «شارلمان»، إلى حد تفوّقه على شخصية البطل؛ خصوصًا فى مشهد الحوار بين الشخصيتين بنهاية الفصل الثالث.

وبعد إسدال الستار؛ صعدت مجموعة من الأدباء وأصدقاء سليم عطا إلى المسرح ليقدموا التهنئة لـ «الريحانى» ويمتدحوه، مع إبداء إعجابهم من الأداء الفريد للشخصية، الأمر الذى ترك أثرًا جميلًا على «الريحانى»، ولكن الفرحة لم تكتمل بسبب ما حدث فى اليوم التالى.

يقول «الريحانى»: «فى صباح اليوم التالى استدعانى الأستاذ سليم مديرنا؛ فقلت يا واد جاك الفرج، وظللت أخمّن مقدار العلاوة، ودخلت على مديرى باسمًا، معلّقًا نفسى بالآمال، إلى أن ابتدرنى المدير قائلًا: أنا متأسف جدًا يا نجيب أفندى لأن الفرقة استغنت عنك»!

صُدم «الريحانى» من قرار الفرقة غير المتوقع «وهل يعتبر النجاح جرمًا يعاقب عليه الممثل؟»، وإزاء ذلك قرر أن يعود إلى القاهرة، ويمكث على «قهوة الفن»، فى انتظار وقائع القدر.

شقاء وبحث 

كانت البداية المتعثّرة فى مسيرة «الريحانى»؛ سببًا فى بحثه مجددًا عن وظيفة جديدة ينفق منها على شئونه ولكن تلك الفترة قال الريحانى: «عثرت على وظيفة بشركة السكر بنجع حمادى، وتسلمت عملى هناك، مبتعدًا عن العاصمة وما فيها من شقاء، تاركًا خلفى ذلك الوسط الخبيث، والتمثيل الذى أعشقه وأتمناه».

ومرة أخرى؛ يُفصل «الريحانى» من عمله بعد سبعة أشهر، ويعود إلى القاهرة خاوى اليدين، كما لم يعد له مجال فى منزل أسرته بعد أن ضاقت والدته من أفعاله، وإصرارها على هجره للتمثيل؛ فأقفلت بابها فى وجهه.

تدهورت أحوال «الريحانى» إلى حد يومين بدون طعام: «ولو كان أمرى قاصرًا على الجوع وحده لهان، لكننى لم أجد كذلك مكانا آوى إليه كلما أدركنى الليل، وكنت أقضى الليالى وحيدًا».

وفى تلك الفترة؛ اعتاد «الريحانى» قضاء ساعات النهار بـ «قهوة الفن» إلى موعد إغلاقها فى الساعة الثانية صباحًا، ثم السير إلى الجزيرة عابرًا كوبرى قصر النيل، والخلود إلى النوم على الرصيف حتى الصباح، ومن ثم العودة إلى القهوة.

ويحكى «الريحانى» أنه فى ليلة من الليالى تعثّرت قدمه فى شخص آخر لجأ إلى رصيف الشارع ليستريح، ويقضى ليله، فإذا هو الكاتب محمود صادق سيف، الذى كان يُعانى من ظروف «الريحانى» نفسها.

فرصة جديدة

ذات يوم؛ عرض «سيف» على «الريحانى» فرصة لكسب المال، وذلك بعد أن عرض عليه صاحب مكتبة المعارف أن يُعرّب أجزاء بوليسية عن الفرنسية من رواية «نقولا كارتر»، مقابل 120 قرشًا عن كل جزء.

وطلب صديق «الريحانى» مشاركته العمل:«بما أنك تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا بنا نشترك فى العمل ونقتسم الثمن مناصفة كل أسبوع».

ومن حسن الحظ أن صاحب المكتبة كان يُدير أيضًا فندقًا أعلى المكتبة، فاتفق الصديقان معه على استئجار غرفة نظير خمسة قروش عن الليلة تُخصم من الأجر.

ظلَّ «الريحانى» على هذه الحال فترة، قبل أن يلتحق بفرقة الشيخ أحمد الشامى، كمترجم وممثل، بمرتب أربعة جنيهات شهريًّا، على أن يُعرّب الروايات لها عن الفرنسية.

وكانت فرقة «الشامى»، تجوب المحافظات المصريّة لعرض أعمالها، وكانت الإدارة تستأجر بيتًا أثناء إقامتها فى كل مدينة لإقامة أعضاء الفرقة، وسمّته «بيت الإدارة».

فى تلك الفترة؛ ترجم «الريحانى» للفرقة روايتى «الابن الخارق للطبيعة»، و«عشرين يومًا فى السجن»، وجاب معها بعض مدن الصعيد قبل العودة للقاهرة، ثم الاتجاه شمالًا إلى طنطا.

فى صباح أحد الأيام، وأثناء استرخاء «الريحانى» على مرتبة متهالكة افترشها على الأرض بـ«بيت الإدارة» فى طنطا، طرقت سيدة الباب، ولم تكن غير والدة «الريحانى»، والتى رأته فى أحوال يُرثى لها.

عُقد لسان «الريحانى» من هول الصدمة:«وا خجلاه.. لقد كنت أتمنى أن تشق الأرض وتبتلعنى فى تلك اللحظة، حتى لا ترانى أمى على هذه الحال».

وكان سبب الزيارة تسليم «الريحانى» خطابًا من شركة السكر تدعوه فيه إلى العودة للعمل مرة أخرى، وبالفعل عقد رحاله إلى نجع حمادى «وأنا أقسم جهد أيمانى أننى لن أعود للتمثيل مهما حدث».

وظلَّ «الريحانى» فى عمله قرابة العامين هانئًا مرضيًّا؛ خصوصًا بعد ارتفاع راتبه إلى 14 جنيهًا شهريًّا، الأمر الذى ساعده على ادخار مبلغ 200 جنيه فى تلك الفترة، ولكن خطابًا من صديق قديم جعله يعيد التفكير فى أمر العودة للفن مرة أخرى.

الأجور تغيرت

فى عام 1912؛ تسلّم «الريحانى» خطابًا من صديقه عزيز عيد، يخبره فيه عن تغير أحوال التمثيل، وأن جورج أبيض، المسرحى الشهير، عاد من أوروبا، وينوى تأليف فرقة بعد دراسته الفن الحديث فى الخارج.

رُغم ما احتواه الخطاب من مشوّقات؛ فإن «الريحانى» خشى المغامرة مرة أخرى، وفضّل الاستمرار فى عمله بنجع حمادى، ولكنه بعد وقت لاحظ اهتمام الصحافة بالتمثيل، ونشر الصحف أخبار الممثلين بثناء.

ويحكى صاحب المذكرات:«عملت على الحصول على إجازة أقضيها فى القاهرة لأرى عن كثب هذا الفن الذى أزهرت أيامه، وجئت إلى العاصمة بإجازة شهرين، ورحت أشاهد تمثيل جورج أبيض».

وعاد «الريحانى» إلى نجع حمادى بعد انقضاء الإجازة، بعدما أنفق كل مدخراته على حضور المسرحيات، والتنزه بالقاهرة، إلى حد اضطراره إلى الاقتراض لشراء تذكرة السفر!

أثّرت زيارة القاهرة فى نفس «الريحانى»، وزادت من حدة حنينه إلى الفن؛ فلم يهنأ له بال، ولم يرتاح له فؤاد طوال فترة وجوده فى نجع حمادى بعيدًاعن القاهرة حاضرة الفن، وهو ما ترجمه فى مذكراته.

يقول: «كنت أجبر صديقى الدكتور جودة، طبيب الأسنان، على الإنصات لى حينما كنت أقف أمامه لألقى قطعة تمثيلية مما رأيته فى زيارتى الأخيرة للقاهرة، وكنت أوجع دماغه فى كل سهرة، بأقوال لويس الحادى عشر، وصرخات عطيل، وتأوهات الملك أوديب».

ويستطرد:«بعدها؛ وفد إلى نجع حمادى المهندس الظريف محمد عبدالقدُّوس منقولًا إلى مدرسة الصنايع هناك، وائتلفنا وقتها ائتلافًا تامًا؛ حيث كان عبدالقدوس من هواة التمثيل، وحاله كحالى فى جنون الفن».

ويصف «الريحانى» اجتماعاته مع «عبدالقدُّوس» بأنها كانت «جنان فى جنان»؛ فـ«أنا أجلس كمتفرج أثناء تقديمه منولوج، ثم يأتى دورى لكى ألقى مقطوعة تمثيلية فيما يحتلُّ هو دور المتفرّج.. وهكذا، إلى يأذن الليل بالرحيل».

واستمرّت تلك السهرات إلى أن غادر «عبدالقدوس» نجع حمادى، وترك صديقه فى وحشة، يفتقد فيها ليالى السمر!