الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات من مذكرات «كشكش بك»

اكتظّت المَسيرة الفنِّية لـ«نجيب إلياس ريحانة»، الشهير بـ«نَجيب الرّيحانى»، أحد روّاد المسرح والسينما فى الوطن العربى،  بالعديد من العثرات والعوائق؛ لكن بفضل إيمانه الشديد بموهبته، وولعه الكبير بالتمثيل، استطاع تجاوز تلك التحدّيّات.. وحفلت مسيرة الريحانى بعشرات المواقف والحكايات الطريفة، التى مثّلت فصلًا مُهمًّا فى تاريخ الفن بالوطن العربى،  سواء ما يتعلق بالمسرح أو السينما.



 

ويبدو أن اختلاف الآراء حول شخصية «الريحانى»، طال أيضًا مذكراته بعد وفاته؛ فـ«مذكرات الريحانى» محل خلاف بين الباحثين إلى الآن.

وهناك سيرة ذاتية منسوبة لـ«الريحانى» نشرتها مؤسسة «دار الهلال»، فى عام 1949، بعد وفاته مباشرة، وأعيد نشرها بمجلة الكواكب الثالث من يونيو 1952 إلى الرابع من نوفمبر 1952، قبل ضمّها بعد ذلك فى كتاب عن دار الهلال.

وتضمّنت تلك المذكرات مقدمة لصاحبها، وأخرى لصديقه بديع خيرى،  امتلأت بعبارات المدح والثناء، مع ذكر بعض المواقف النبيلة لـ «الريحانى».

ورُغم المواقف والحكايات التى ذُكرت بتلك المذكرات؛ فإنها وصفت من بعض الباحثين بأنها «مُلفّقة» و«زائفة» واتهموها بأنها «محاولة لتشويه شخص نجيب الريحانى،  وتصويره بطريقة هزلية، لا تتناسب مع قيمته الفنيّة».

ورأى آخرون أن المذكرات تجاهلت مواقف بارزة فى حياة «الريحانى»، وأضافت وقائع أخرى لم تحدث، موضّحة أنها لم تقدم ما يثبت أنها كُتبت بخط صاحبها ولو «مقصوصات صغيرة»!.

وأصدر الباحث شعبان يوسف دراسة، فى 2017، تضمّنت مذكرات أخرى لـ«الريحانى»، وصفها بأنها «الأقرب إلى الصواب»، واقتبسها من كتاب بعنوان «مذكرات نجيب الريحانى.. زعيم المسرح الفكاهى».

وقال الباحث: إن المذكرات التى أفرد لها كتابه؛ صدرت عن «دار الجيب»، لصاحبها فوزى العنتبلى، الذى كان صديقًا للريحانى، وأنه عثر عليها صدفة عند بائعى الكتب بسور الأزبكية.  

وبخلاف ذلك؛ أُنتج فيلم تسجيلى عن حياة «نجيب الريحانى»، فى عام 2008، للمنتج والمخرج الراحل محمد كامل القليوبى،  وبمشاركة «جينا»، ابنة «الريحانى».

وفى هذا الفيلم؛ أعاد «القليوبى» تقديم مذكرات كتبها «الريحانى»، ونُشرت فى حياته بمجلة «الاثنين»، فى عام 1937، وهى تتشابه بشكل كبير مع مذكرات «دار الهلال».

الشيخ بحر

من حُسن حظ «الريحانى» تلّقيه تعليمه الأساسى بمدرسة «الفُرير»؛ فنبغ فى دراسته، وأتقن اللغة الفرنسيّة، الأمر الذى ساهم فى اطلاعه على روائع الأدب الفرنسى، وبرع فى إلقاء الشعر العربى والفرنسى، بدرجة أبهرت معلميه فى المدرسة.

وتأثّر «الريحانى» بروّاد الشعر العربى مثل المتنبى،  وأبى علاء المعرى،  وأيضًا الأدب الفرنسى مثل ڤيكتورهوجو، وجان دو لاڤونتين، وموليير. 

ومن هنا أحب «الريحانى» فن التمثيل، واضطلع بأدوار مسرحيّة مدرسيّة، قبل أن يترأس الفرقة التمثيليّة بمدرسته. 

يقول «الريحانى»: «ويكفى أن أقفز بهم إلى سن السادسة عشرة، حين غادرت مدرسة الفرير بالخرنفش، بعد أن تزوّدت بالمئونة الكافية من تعليم وخبرة، وكنت فى عهدى أميل إلى دراسة آداب اللغة العربية، وأتوسّع فى الحصول على أكبر قسط من فنونها ولاسيما الشعر وتاريخ الشعراء».

ولم يكتفِ «الريحانى» بالتعليم المدرسي؛ فأحضرت له الأسرة مُعلّمًا خاصًا يُدعى «الشيخ بحر»، ويرجع له الفضل فى شغف «الريحانى» المبكر بفن التمثيل؛ فكان هذا المُعلّم يُقدّم دروسه بصوت جهورى،  وأداء تمثيلى.

وهنا يقول الريحانى: أما كيف تولّدت عندى هواية التمثيل فقد نشأ ذلك من إعجاب أستاذى الشيخ بحر بى وبإلقائي؛ كذلك كانت المدرسة تُكلّف طلبتها بين وقت وآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها، وكثيرًا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار المهمة فى هذه الروايات».

حتى تلك اللحظات؛ كانت حياة «الريحانى» تسير بشكل طبيعي، فبعد تخرّجه فى المدرسة، اندمج فى سلك موظفى البنك الزراعى بالقاهرة، وهناك كان «الريحانى» على موعد بمصادفة غريبة، كان لها الأثر الأكبر فى قلب موازين حياته الروتينية.

وتمثّلت تلك الصدفة فى شخص استطاع أن يرسم ملامح بدايات «الريحانى» الفنيّة، هذا الشخص هو الكاتب والممثل «عزيز عيد»، الذى زامل «الريحانى» فى عمله بالبنك الزراعى بالقاهرة، ولكن لم تمنعه وظيفته عن ممارسة التمثيل.

وتجدر الإشارة إلى أن «الريحانى» نشأ لأب عراقى كلدانى يُدعى إلياس ريحانة، وأم مصريَّة قبطيَّة أرثوذكسيَّة اسمها لطيفة بُحلُق، وكان أحد ثلاثة أبناء لِوالديه.

وعاش الريحانى فترة طفولته، حتى السنوات الأولى من صباه فى كنف والديه بحى باب الشعريَّة، فى وسط القاهرة؛ حيث كان والده يمتلكُ مصنعًا للجبس، يدُرُّ عليهم ربحًا وفيرًا، حتى مات والده، وعمر الريحانى يقترب من الـ16 عامًا.

واستكمل الأخ الأكبر توفيق، الذى كان يعمل حينها كاتبًا فى المحكمة، رعاية أسرته، حتى حصل «الريحانى» على شهادة البكالوريا «الثانويّة العامّة»؛ ليلتحق بعدها بوظيفة فى البنك الزراعى،  ويساعد شقيقه الأكبر فى الإنفاق.

سنة أولى غرام

يحكى «الريحانى» فى مذكراته بعض ملابسات «سنة أولى غرام»، بعد أن هوى قلبه فى شباك السيدة «ص.ق»، وكيف كانت النهاية الطريفة لهذا الحب.

ويسرد ذلك قائلًا:«كُنّا نجلس فى قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبدالعزيز، الذى تحوّل إلى سينما أولمبيا بعد ذلك، وكان بين الممثلين من زبائن القهوة الممثل القديم على أفندى يوسف، الذى أصبح بعد ذلك من عتاة متعهّدى الحفلات».

ويستطرد:«كان لعلى «قطقوطة» من بين الممثلات ما تزال إلى اليوم فى عنفوان «الشيخوخة» تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت فى الماضى تأوى إلى مثل هذا الموضع من قهوة إسكندر فرح، وتلك القطقوطة هى السيدة «ص.ق»

«وكان على يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة؛ فلمّا كنت أذهب لأشاركهما الحديث، كانت نظرة فابتسامة؛ فشبكان!!، وظلّت أواصر الصداقة تنمو بينى وبين الفتاة، مثلما كانت تتراخى بينها وبين صديقها، دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئًا».

وبدأ الشك يدق أبواب على يوسف، و«يلعب الفأر فى عبه»، كما يصف «الريحانى»؛ فشرع فى مراقبتهما، دون أن يُبدى له شيئًا.

وقتها كان «الريحانى» بعمر السابعة عشر، وأكثر وسامة من غريمه على يوسف، كما كان موظفًا مضمون الدخل، بعكس منافسه، الذى كان «يا مولاى كما خلقتنى»، بوصف «الريحانى».

ورأى «الريحانى» أن تلك السمات شجّعت قلبه على المضى قدمًا، والاتفاق مع «الغزال النافر»، على تمضية عُطلة نهاية الأسبوع بالإسكندريّة بعيدًا عن عيون على يوسف، ورقابته المشددة.

يقول «الريحانى»: «حصل الرضا والاتفاق بينى وبين محبوبى على أن نُغادر القاهرة ظهر السبت إلى الثغر بالإسكندرية، والعودة صباح الاثنين»، وكان يوم الأحد هو عُطلة نهاية الأسبوع بالبنوك حينها.

وحدث ما لم يتوقعه «الريحانى»؛ فزاره صديقه «يوسف» قبل أن يُغادر مكتبه بالبنك، وألح عليه لإقراضه مبلغًا من المال لارتباطه بنزهة مع بعض الأصدقاء.

وأمام هذا الوضع؛ منحه «الريحانى» ما طلب «وأنا أحمد الله على زحلقته، وأدعو بطول العمر لهؤلاء الأصدقاء الذين شغلوه عنى فى هذا الظرف السعيد».

بعد انتهاء العمل؛ اتجه «الريحانى» إلى محطة القطار ليجد محبوبته فى انتظاره؛ فاستقلا القطار إلى الإسكندرية، ولكن عادة تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن؛ فعلى بُعد خطوات من محطة الإسكندرية، صُدم «الريحانى» بما لا يخطر على بال أحد.

ويُعبر «الريحانى» عن ذلك الموقف بطريقته الساخرة: «ما كدت أسير خطوات متأبطًا ذراع المحبوبة، حتى برز أمامى عزرائيل فى ثياب صديقى الملعون على يوسف.. لقد اقترض مالى،  واشترى تذكرة السفر، وجاء معنا فى عربة أخرى بالقطار نفسه».

وهنا يكتشف «الريحانى» «مقلب» صديقه:«راح يمدُّ إيده بالتحية، وهو يشكرنى على قيامى بدفع نفقات السفر، لحضرته، وحضرة بسلامتها الست المصونة والجوهرة المكنونة، التى استلبها منى،  وتركانى أعض بنان الندم، وذهب العاشقان، وامتطيت أنا قطار القاهرة، وجئت أضرب أخماسًا فى أسداسٍ».