السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ثقافة قبول الآخر

 المشاعر الإنسانية الجماعية هى التى تحرك التاريخ، بل من شأنها إذا كانت إيجابية أن تحد من الصراعات الدموية والعرقية، لذا فثقافة قبول الآخر عمل سياسى وثقافى وتعليمى من الطراز الأول، وتشكيل الوجدان أن يعد من الصناعات الثقيلة التى لا بُد من رعايتها لخلق  مناخ ثقافى  لقبول الآخر.. 



 فكيف تغير المشاعر الإنسانية العالم فتحيل  الصراعات إلى محاولات للتفاوض، وإقرار  السلم ؟.. وهل ثقافة قبول  آخر لاتزال تواجه الكثير من المعوقات ؟.. 

.. من أهم الكتب التى تجيب على هذه التساؤلات  كتاب «قبول الآخر فكر واقتناع وممارسة» للدكتور ميلاد حنا، والذى صدر عن دار الشروق، ورغم أن الكتاب قد نُشر منذ سنوات عديدة فإن ما حمله من أفكار ورؤى  لا يزال حيويا، ومُهمّا.

الصراعات نتيجة المشاعر !

ويحلل ميلاد حنا الصراعات الإنسانية فيقول:

 إنها فى الغالب الأعم نتيجة لمشاعر إنسانية عميقة الجذور، قد تعود لقرون، وتكون قد تراكمت لدى مجموعات بشرية تحمل غالبا صفة فكرية ثقافية، والمشاعر الإنسانية الجماعية  للشعوب أو المجموعات البشرية هى التى تحرك التاريخ، فالجماعات تترجم مشاعرها بالالتفاف حول انتماءات اجتماعية متعددة  بعضها موروث والآخر مكتسب فإذا استطعنا أن ننشر فكر وثقافة قبول الآخر  بينها فإننا نكون قد قطعنا نصف الطريق بل ونكون قد اتخذنا إجراءً وقائيا ضد الصراعات الدموية. 

خارطة لتشكيل الوجدان 

 ويرى الكاتب أن  تنمية ثقافة قبول الآخر يمكن أن تتم من خلال الاهتمام بمجالات المعرفة المختلفة، ومنها مجال الأدب والفن، والقراءة فى علوم الأديان  إذا كانت القراءة بهدف البحث عن الأرضية المشتركة بينها، فالحوار مع الآخر، وإيجاد المساحات المشتركة فكريا هى بداية المعايشة مع الآخر، وأول الطريق للتمهيد لذلك هو قبول الفرد لذاته والتصالح معها فهذا هو الأساس، وكذلك نشر الثقافة العلمية، ومفاهيم سيادة العقل فهى تخلق المناخ الثقافى لقبول الآخر. 

صراع الحضارات 

ومن الأفكار  المهمة التى طرحها الكاتب أيضا مطالبته بنشر ثقافة  قبول الآخر فى الدول الكبرى أو حسب تعبيره دول  العالم الأول قبل دول العالم الثالث ليتكون رأى عام عالمى يتفهم حقوق الشعوب فى قيم العدالة والمساواة، كما يناقش الكاتب النظريات التى طرحت  حول الصراعات البشرية.

فيذكر أن نظرية كارل ماركس حول صراع الطبقات وأنه هو محرك للتاريخ، فيما يعرف بالمادية التاريخية، وهى النظرية التى سادت فى منتصف القرن التاسع عشر، وكذلك  نظرية أخرى حديثة هى «صدام الحضارات» التى أحدثت هزة فى  تسيعينيات القرن الماضى ولا تزال عندما أصدر صموئيل هانتجتون كتابه عن «صدام الحضارات». وقال إنها التطور الأخير فى عملية تطور النزاعات فى العالم الحديث. 

 فكلتا النظريتين تعمل من مبدأ رفض الآخر، حيث يرى هانتجتون أن البؤرة المركزية للصراع فى المستقبل غير البعيد ستكون بين الغرب من جانب وبين بعض الدول الإسلامية والكنفوشية، ولذا يدعو هانتجتون إلى وضع ضوابط فى مواجهة زيادة القوة العسكرية لهذه الدول. 

 بل ويرى أن الحضارات الأخرى غير الغربية سوف تستمر فى السعى للاستحواذ على الثراء والتكنولوجيا، والآلات والأسلحة والمعرفة التى تشكل معالم الحداثة، كما ستحاول التوفيق بين هذه الحداثة، وبين قيمها وثقافتها  كما ستحاول تعزيز قوتها الاقتصادية والعسكرية ولذا سيجد الغرب نفسه مضطرًّا لتوفيق  أوضاعه مع تلك الحضارات، والتى صارت  عصرية وحديثة، وعلى الغرب المحافظة على القوة الاقتصادية والعسكرية اللازمة لحماية  مصالحه بالنسبة لهذه الحضارات..

ويصف هانتجتون الحلول لهذا الصراع كما يراه فيقول بضرورة المحافظة على استمرار التفوق العسكرى الغربى فى شرق وجنوب آسيا ووضع ضوابط فى مواجهة زيادة القوة العسكرية للبلدان الإسلامية والكنفوشية، والعمل على تحاشى الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية ذاتها حتى لا تتحول إلى حروب كبرى. 

 وفكرة صراع الحضارات التى طرحها هانتجتون يراها الكثيرون تصدر عن مبدأ «رفض الآخر» بل إضعافه، وخشية  من أن تكون الحضارات الأخرى غير الغربية عصرية وحديثة فيضطر  الغرب لتوفيق أوضاعه مع تلك  الحضارات. 

مصر نموذج فريد 

 ويتناول ميلاد حنا فى كتابه ثقافة قبول الآخر فى مصر نموذجًا فيقول تتمتع مصر بنجاح قبول الآخر، وهذه النعمة الإلهية  تتمثل  فى «الوحدة الوطنية» التى تعبر عن العلاقات الحميمة بين الديانتين الرئيسيتين فى مصر وهما الإسلام والمسيحية، فمصر هى نموذج فريد بين دول المنطقة فى  ثقافة قبول الآخر لأن مصر لها من الميراث الحضارى والفكرى ما مكنها من تحقيق ذلك. 

 فالمرحلة الفرعونية بما لها من آثار وعلوم وفنون كانت ركيزة مشتركة للثقافة الموحدة التى تربط بين أبناء الوطن جميعًا ومن ثم تكونت هذه الأساسات  لقبول الآخر تاريخيا، وصار من الممكن تشييد البناء الحضارى المصرى، وكذلك الحقبة اليونانية الرومانية 332 ق. م، فسرعان ما استوعب المصريون كل حكامهم المنتمين من ناحية العِرق والسلالة إلى اليونان، وكان الحكام اليونانيون يعبدون الإله آمون إله الفراعنة، بل وأقام الحكام اليونانيون عشرات المعابد لآلهة المصريين القدماء حتى صارت هذه المعابد من دندرة فى قنا إلى كوم أمبو، ومعبد فيلة فى أسوان جزءًا  من التراث الفرعونى ذاته، وفى عصرهم صارت الإسكندرية ومكتبتها  الشهيرة مركز إشعاع للمنطقة كلها بل وللعالم. 

 وتفاعلت الحضارة المصرية القبطية، والحضارة المصرية الإسلامية معًا فكان للأثر القبطى  الذى استمر عشرين قرنا حتى الآن، والأثر الإسلامى الذى بدأ فى القرن السابع عام 641م وحتى الآن أكبر التأثير فى ثقافة ووجدان المواطن المصرى، فهو تكوين متفرد وخصب لتفاعل هذه المراحل والحضارات مما يجعل مصر نموذجًا  للتفاعل الثقافى، وقبول الآخر منذ  أقدم العصور، وهذه النعمة الإلهية هى كنزنا الذى لابُدّ أن نحافظ عليه، ونتعهده بالرعاية، فالموهبة المصرية  فى استيعاب الآخر، والحوار معه  هى موهبة أصيلة، وعميقة الجذور فى الوجدان المصري.