السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

البحث عن "علي بابا و الـ 40 حرامي"!

فى هذا المكان.. التاريخ يتوقف ليلتقط أنفاسه وسط  مَشاهد الطبيعة الساحرة الخلابة التى تتشكل معالمها بفضل الأشجار وارفة الظلال والبحيرات المائية الصغيرة والتماثيل التى تعكس أسرار هذه الحضارة العظيمة.. إنها الحديقة اليابانية التى تقع فى حلون، والتى تُعد من أهم وأقدم الحدائق المتخصصة فى القاهرة؛ حيث يرجع تاريخ إنشائها والانتهاء من تصميمها إلى عام 1922.



  فى هذا المكان التاريخ يرتد للوراء لينقل لنا حكايات وحواديت وقصصًا مدهشة عن السر وراء إنشاء هذه الحديقة ودورها فى إحياء التراث اليابانى وتعزيز العلاقات بين مصر واليابان.. فماذا وراء أسوار هذه الحديقة؟ وكيف جسدت التراث الآسيوى؟ وما هى الأساطير التى ارتبطت بها خلال العقود الماضية؟. 

الحكمة اليابانية

هناك فلسفة وحكمة عامة تشترك فيها كل الحدائق اليابانية، التى تنتشر تلك الحدائق فى العديد من دول العالم بنفس الطريقة ونفس الطراز تقريبًا، وتهدف للحفاظ على التراث اليابانى وتسجيل المعتقدات اليابانية القديمة؛ خصوصًا المعتقدات "البوذية" و"الشنتوية".

 حيث يعود تصميم تلك الحدائق إلى نوع من الفنون الخاصة الذى يعود تاريخه للعهود القديمة، فهى ليست مجرد حدائق عادية؛ وإنما هناك محددات ومكونات أساسية تقوم عليها الحكمة اليابانية فى إنشاء هذه الحدائق، ويُعتبر "الماء" على وجه الخصوص هو أهم هذه المكونات، فهو العنصر الأساسى فى تركيبة الحدائق اليابانية، ويساهم فى إعادة إبراز مظاهر الطبيعة.

 ويجسد الماء فى الفلسفة اليابانية عملية التجدد والاستمرارية فى العالم الآخر. ولهذا يتم تشييد هذه الحدائق على درجات مختلفة الارتفاع للسماح للمياه بالتدفق فى صورة شلالات صغيرة أو أحواض مصممة بطريقة رمزية. 

أمّا العنصر الثانى فى تكوين الحدائق اليابانية فيتمثل فى الصخور التى تعكس الدوام والاستمرارية وقوى الطبيعة كما تعكس الثبات والتعدد، ومن خلال الصخور تتشكل الشلالات والجداول والبِرَك.

 أمّا العنصر الثالث فهو النباتات التى تجسد مجموعة من الرموز والمشاعر الإنسانية كالفرح والتعاسة والمعاناة، وتشكل النباتات أيضًا مظهرًا مُهمّا من مظاهر الحياة والنماء والخير والبهجة والسكينة، فكل عنصر من عناصر الحدائق اليابانية إذن هو جزء أصيل لا غِنى عنه فى تصميم تلك الحدائق التى يعود تاريخها فى العالم إلى القرن الثالث الميلادى؛ حيث تُعبر عن فلسفة الحياة الشرقية فى تذوق الجمال والطبيعة الخلاقة.  

ذو الفقار باشا

يُعتبر المهندس المعمارى ذو الفقار كتخدا باشا واحدًا من أشهَر وأبرز المهندسين المعماريين الذين يرجع إليهم الفضل فى تصميم وتأسيس العديد من المعالم البارزة التى يرجع تاريخها لبدايات القرن العشرين، وكان ذو الفقار باشا كبير ياوران الملك فؤاد فيما بين عامَى 1920 و1930، وقد تولى تصميم وإنشاء الكثير من المعالم المرتبطة بقصور ومنشآت أسرة محمد على. 

وفيما يخص الحديقة اليابانية، فقد كلفه الملك فؤاد بتأسيس حديقة كبيرة على النظام اليابانى عام 1919، بهدف تجسيد ثقافة الحضارات، ولاسيما الثقافات الآسيوية القديمة، بالإضافة إلى محاولة إرضاء الدولة اليابانية بعد إعلان كوريا انفصالها عنها فى العام نفسه، ولهذا لعبت هذه الحديقة دورًا مُهمّا كنقطة التقاء بين الثقافة المصرية واليابانية.

وتولى ذو الفقار باشا تأسيس وتصميم الحديقة على مساحة 40468 مترًا مربًعا، أى نحو 10 أفدنة، وتم الانتهاء من تصميمها عام 1922، وكان يطلق عليها فى البداية اسم "كشك الحياة الآسيوى".. وتم تصميمها على الطراز المعمارى الآسيوى، كما راعى فى تصميمها أن تجسد الثقافة اليابانية فى شكل النافورات والطرُقات وبعض التماثيل مرورًا بالنباتات والأشجار الآسيوية، والحديقة  أشبه بمتحف نباتى وثقافى ومعمارى مفتوح.    

رموز بوذا

تم تصميم الحديقة بشكل يعكس الكثير من الرموز التى تتطلب قدرًا من الثقافة والمعرفة بالمعتقدات اليابانية القديمة، من بينها تمثال زهرة اللوتس الذى يحمل رأس "ذو الفقار باشا" مصمم الحديقة، وتلتف حول هذا التمثال مجموعة من الأفيال التى يطلق عليها "أفيال الشرق" وتتولى هذه الأفيال حراسة الحديقة!.

 وتضم الحديقة اليابانية أيضًا تمثالا فريدًا يحمل اسم "وجه الحياة"، وهو عبارة عن امرأة مغمضة العينين، تعلو شفتيها ابتسامة رقيقة تعكس حالة من الشعور بالخجل، وهذا التمثال تحديدًا يجسد مدى تمتع المرأة الآسيوية بالأخلاق، كما يعكس أيضًا تقديس الشرق للمرأة واحترامه لها.

ويضم المكان أيضًا نحو 48 تمثالا آخر لتلاميذ المعلم والحكيم "شيبة" الذى يجلس معهم ليعلمهم الديانة البوذية أمام البحيرة الكبيرة، والطريف أن الزائرين يطلقون على هذا التمثال اسم "على بابا والأربعين حرامى"!.

 وبجوار هذا التمثال يقع تمثال آخر يجسد الحكمة الثلاثية التى تحث الإنسان على عدم التدخل فى شئون الغير وهى العبارة الشهيرة "لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم".. والتمثال عبارة عن ثلاثة قردة الأول يسد أذنيه والثانى يغمض عينيه، والثالث يضع يده على فمه.

 وبخلاف هذه التماثيل تضم الحديقة أيضًا بحيرة اللوتس وكشك الموسيقى وبعض المعالم الأخرى.. ويعد تمثال "بوذا" أشهَر التماثيل الموجودة فى المكان؛ ركن فاروق

تضم الحديقة ركنًا خاصّا للملك فاروق، مكونًا من ثلاثة طوابق، تم تشييده على الطراز العربى الكلاسيكى، ويُعد هذا الركن المقر الرسمى لاستضافة الوفود الرسمية بالحديقة؛ خصوصًا فى العهد الملكى؛ حيث زارها الكثير من الشخصيات العالمية، كما زارها الملك فاروق مرات عديدة، وفى المكان كان يتم عزف النشيد الوطنى أمام الوفود الرسمية، والمكان مفروش بالأثاثات التقليدية التى تناسب المكان إلى جانب كشك الموسيقى الذى تستخدمه الفرق الموسيقية فى تقديم عروضها.   

ظلت الحديقة اليابانية خلال الحقبة الملكية مقصدًا للأثرياء وعلية القوم من الطبقات الغنية؛ خصوصًا أنه تم تصميمها بطريقة خاصة لتكون حديقة ثقافية وتراثية وليست مجرد حديقة شعبية عامة؛ حيث كانت من المعالم السياحية البارزة بحلوان، وكانت مقرّا للسياحة الشتوية حتى مطلع الستينيات من القرن الماضى بفضل عيون المياه المتدفقة طوال العام.

 لكنها مع الوقت بدأت تفقد طبيعتها الرسمية فتحولت لحديقة عامة منذ عام 1990، وفى  يناير 2005 أطلقت محافظة القاهرة مشروعًا كبيرًا لتطوير الحديقة وإنقاذها من الإهمال الذى كان قد أوشك على تشويه معالم الحديقة، وكادت الحديقة أن تلقى مصير كابريتاج حلون الأثرى الذى انهارت معالمه بسبب الإهمال الشديد، لكن المشروع الذى تبنته محافظة القاهرة نجح فى عودة الحياة للحديقة مرة أخرى؛ حيث تم افتتاحها فى يونيو 2006 بتكلفة بلغت نحو 5 ملايين جنيه.. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الحديقة مقصدًا للعامة فى المناسبات والأعياد وأيام الإجازات.