الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
درس أحمد بهاءالدين وعلى أمين: صداقة حقيقية  رغم الخلاف السياسي!

درس أحمد بهاءالدين وعلى أمين: صداقة حقيقية رغم الخلاف السياسي!

الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، والخصومة مع من يخالفك الرأى والفكر لا يعنى أن تتجاهله أو تصل درجة الخصومة إلى حد السباب والتجريح، هو له رأى وأنت رأى والقارئ هو الحكم بعد ذلك!!..ومن أعجب الأمور فى عالم الصحافة هذه الأيام أن تجد زميلا يهاجم زميلا دون أن يقرأ له!! وزميلا يقاطع آخر لأن له رأيًا مخالفًا لرأيه وكلاهما لم يكلف خاطره بقراءة رأى الآخر!!



لكن فى تاريخ الصحافة المصرية من كسر هذه القاعدة الكريهة وآمن بحق بالعبارة القائلة الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية، وأتحدث هنا عن درس مهنى وأخلاقى صاحباه هما الأستاذان الكبيران أحمد بهاءالدين وعلى أمين!

أما التفاصيل الرائعة، فقد رواها الأستاذ أحمد بهاءالدين فى مقاله «رحلة على أمين» والذى كتبه بعد أيام قليلة من رحيل على أمين فى أبريل سنة 1976 فى جريدة الأهرام، ويكتب الأستاذ بهاء قائلا:

كثيرون ممكن كانوا يعرفونه أو يعرفوننى كانوا يستغربون تلك الصداقة الحقيقية التى كانت بيننا طوال العشرين سنة الماضية، ولكن وجه الاستغراب هذا كان هو نفسه الذى يعطى تلك الصداقة والزمالة معناها الحقيقى..لم أكن أعرف على أمين إلا كقارئ من بعيد، ولم يكن يعرفنى إلا كقارئ لى، حياة كل منا مختلفة بعيدة لا يجمعها مسار واحد، وكان الخلاف السياسى بيننا كاملا، لا توجد فيه نقطة التقاء، ولكن إعجابى به - على البعد - كان مهنيا فقط! لا أعرف ماذا كان شعوره، ولكن عندما جمعت بيننا الظروف مرة عابرة، أول مرة عرض عليّ بلا مقدمات كثيرة أن أعمل معه فى الأخبار وأخبار اليوم، وعرض عليّ لدهشتى أعلى المناصب فيها وأنا ما أزال أقل من ثلاثين سنة، ودهشت واعتذرت، ولكنى شعرت أن اعتذارى لم يسئ إليه، وإن كنت قد اعتبرت بينى وبين نفسى هذا العرض شهادة لى أعتز بها!

ثم جمعتنا - مع زملاء آخرين - رحلة صحفية طالت شهرا كاملا، أول رحلة لأول وفد صحفى مصرى إلى الاتحاد السوفيتى (السابق) وكان له فى الاتحاد السوفيتى بالطبع رأى شديد العداء، فى حين كان لى رأى آخر تماما يقوم على النقد والإنصاف معا، وبالتالى كانت الرحلة طوال الشهر جدلا عنيفا مستمرا ولكن رفقة السفر تعرف الإنسان بزملائه كما لا يمكن أن يعرفهم قط لأن كلا منهم يرى الآخر طوال النهار وأكثر الليل وعدنا من الرحلة مختلفين لكن أصدقاء!

وصمدت تلك الصداقة بعد ذلك لكل ما كان يوجد من خلافات، ربما لأن كلا منا كان يرى ويحس أن ما يقوله الآخر عن اقتناع حقيقى ليس فيه ادعاء ولا تزييف مواقف، وهذا ما كان يدهش الآخرين، ولكن هذا نفسه هو ما يجعل الصداقة صداقة خالصة!

وتغيرت الظروف وقبلت يوما عرضه المتجدد حين كان يملك هو و«مصطفى» أخوه دار أخبار اليوم وعينت رئيسا للتحرير فى أكبر جريدة يومية وأسبوعية ورأيى معروف ومنشور وأنا فى الثانية والثلاثين من العمر فقط!

ولا أتحدث عن نفسى ولكن هذه الخطوة كانت شجاعة كبيرة منه، وكانت تدل على صفات أساسية فيه، أولاها إنه كان لا يتردد فى إعطاء أكبر المسئوليات والفرص للشباب وتلك صفة مهمة جدا لا نجدها إلا فى «قائد العمل» الذى يحب عمله ويثق فى نفسه، على عكس ما نراه لدى كثير من قيادات العمل الصحفى وغير الصحفى فى بلادنا، والصفة الثانية احترام الكفاءة فى المهنة والإتقان والتفانى فى العمل.

••

ويمضى الأستاذ «أحمد بهاءالدين» فى سرد تجربته مع «على أمين» قائلا: وتجاورت أنا وعلى أمين فى مكتبين متلاصقين لا يفصل بيننا إلا باب أفتحه أو يفتحه فى أى وقت طيلة ما يقرب من خمس سنوات متواصلة من 1959 إلى 1964 حين انتقلت إلى رئاسة مجلس إدارة دار الهلال كارها!!

سنوات من أكثر سنوات الثورة فى أزماتها وأحداثها الكبرى وتقلباتها وما كان يثيره هذا كله من خلافات وتناقضات، وكان الحوار بيننا يوميا وكان الاشتراك فى إخراج الصحيفة وإنتاجها يوميا، وأحيانا يكون الاقتراب اليومى الشديد أكثر إفسادا للصداقة من العلاقة المتقطعة على البعد، ولكن هذا لم يحدث فى حالتنا قط! ولم أشعر بأى أزمة تواجهنى فى عملى وكلانا من جيل مختلف ورأى مختلف وحتى طبيعة شخصيته مختلفة، فأنا هادئ شديد التأنى وهو مندفع شديد الاندفاع بل كنت أجد الفرصة دائما متاحة!

وجاء وقت اضطر «على أمين» فيه أن يعيش خارج مصر تسع سنوات (بعد سجن شقيقه مصطفى أمين) أكثرها فى لندن وأقلها فى بيروت، وفى البداية كان مجرد الاتصال به يعتبر مخاطرة لما يجرى من شبهات!! وكان من طبيعة عملى السفر الكثير، وفى أول مرة ذهبت إلى لندن وهو فى منفاه سألت عليه وعلمت من أصدقائه إنه يتحاشى الاتصال بالصحفيين من أصدقائه إذا جاءوا حتى لا يحرجهم رغم تلهفه الطبيعى على رؤيتهم!

واتصلت به وتعمدت أن تكون لقاءاتنا فى الأماكن العامة حتى لا يشعر بأنه مضطر أن يرى صديقًا له سرًا!! وشعرت أن هذا التصرف من جانبى كان بديهيا كان له فى نفسه وقع كبير، وقد كان من النوع الذى تؤثر فيه هذه التصرفات البسيطة تأثيرا شديدا، ولاتنمحى من ذهنه ولا من قلبه أبدا!

وهكذا صارت لقاءاتنا طيلة هذه السنوات التسع كثيرة، فلما عاد لم يكن بالنسبة لى عائدا من منفى أو خارجا من حجر صحي!!

ويجب أن أعترف إننى كنت أحسده بينى وبين نفسى على طاقته الهائلة، بل، طاقاته الفائضة التى كانت تكفى عشرة أشخاص آخرين، فهو فى سنه تلك وبأمراضه التى تعد على أصابع اليدين العشر، كان يندفع فى كل شيء بطاقة عجيبة وحماس عنيف وعناد قوى دون أن يحسب حسابا لأى شيء آخر!

وهو لهذا كان شخصية متطرفة ولكنها شخصية صريحة جدا وواضحة جدا وشفافة، يحب بصراحة وعنف، ويكره بصراحة وعنف، لا يحاول لثانية واحدة أن يخفف منه من قبيل الدبلوماسية والمجاملة «إن حبا أو حربا» فهو كتاب مفتوح أمامك وليس فى قلبه ركن مظلم واحد يخفى فيه شيئا، ولا يحاول أن يخفف من غلوائه فى الحب.. فى الحرب.. فى الوداد فى العناد!!

••

ورغم الخلاف والتباين الفكرى بين على أمين وأحمد بهاء الدين فإنه يعترف!

ولا شك أن تاريخ الصحافة المصرية العربية إذا كُتب يوما وذكر فيه عشرة أعلام فسيكون واحدا منهم، فقد اشترك بغير شك فى تأسيس مدرسة صحفية متكاملة لها ما لها وعليها ما عليها ولكنها مدرسة كان لابد أن توجد!

إنها مدرسة الصحافة الجماهيرية الواسعة الانتشار وليقل البعض إنها صحافة الإثارة ولكنها صحافة مطلوبة فى كل بلد، والناس مدارس ومشارب وأذواق.

ولست محتاجا إلى أن أتحدث عن حبه الأسطورى لمهنة الصحافة وتفانيه فيها كان يعتقد أنها أعظم مهنة فى الدنيا، يأكل ويشرب وينام صحافة وفى إسراف شديد حتى كنت أمازحه كثيرا حين نختلف وأقول له: أنا أرى أن الصحافة مجرد وسيلة إلى غاية، أما أنت فكل شيء وسيلة إلى غاية واحدة هى الصحافة!

والخلق فى الصحافة والتجديد فى الصحافة والفناء فى الصحافة!

وكنت كثيرا ما أقول له مداعبا: لقد دمرت حياة فلان وفلان، فهذا كان أستاذا ممتازا فى الجامعة وذاك كان يمكن أن يكون خبيرًا متخصصا فى كذا، ولكنك بطغيان حب الصحافة عليك وبطغيان شخصيتك عليهم حولتهم إلى صحفيين.

وكان يندهش لأنه كان يعتقد أنه بتحويله شخصاً نابهاً إلى صحفى قد أهداه أعظم هدية فى الحياة. وكان لا يعترف بقيمة لخصم له إلا فى حالة واحدة إذا كان صحفيا ممتازا»..انتهى المقال ويبقى الدرس الغائب فى شارع الصحافة الآن وهو ببساطة أن الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية!!