السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

فى المتحف المصرى الكبير العالم ينتظر ملوك مصر الفرعونية

على الدرج العظيم، ستتردد الموسيقات الملكيّة، فى المتحف المصرى الكبير الذى يطل على الأهرامات، سيشهد العالم عظمة ملوك مصر الفرعونية، أولئك الذين عشقوا العدالة «الماعت»، فأحبتهم شعوبهم، ووقر حبهم فى قلوب الفراعنة الأجداد منذ آلاف السنين، وها نحن الأحفاد نحتشد لنشهد الحدث الثقافى المهم ليتجلى علينا أعظم ملوك مصر، ومنهم الرعامسة، الملك سيتى الأول، وابنه الملك رمسيس الثانى، وابنه مرنبتاح، ها نحن فى انتظار توت عنخ آمون بأقنعته الذهبية، فى حضرة ملوك مصر، وفى ظلال الفن المصرى القديم فى الحفر والنحت، والأدب المصرى القديم، الأناشيد والقصائد والرسائل.



فى حضرة الملوك

سيبدأ الزائر برؤية ميدان المسلة الذى تتألق فيه أول مسلة معلقة فى العالم، ويكون الملك رمسيس فى المقدمة، الملك الذى أقام العمائر التى أصبحت مضرب الأمثال فى العظمة، لم يترك مكانًا أثريًا من الأمكنة التى أقامها أجداده الذين سبقوه إلا جدّده أو زاد فى مبانيه، أعطى مثالًا وقدوة لمن أتى بعده، فإذا رأيته بملامحه الفريدة فتذكر أنه كان زينة شباب عصره، وصفه سليم حسن فى موسوعته بأنه:  مستدير المحيا، ارتسم على فمه الثبات والحزم، طويل القامة، نبعى العود، ممتلئ الساعدين»، ووصفته قصائد شعراء عصره بأنه  «الأسد القوى المخالب، العالى الزئير، والمرسل صوته فى وادى الفرائس الوحشية، ملك الوجهين القبلى والبحرى، رعمسيس، الفهد الذى يعدو سريعًا حينما يبحث عن منازله مخترقًا دائرة الأرض فى لحظة، الصقر الإلهى العظيم، المزود بجناحين، والمنقض على الصغير والكبير حتى لا يجعلهم يعرفون أنفسهم أبدًا»، الذى تولى الحكم عام 1279 – 1213  قبل الميلاد، وسار على نهج والده سيتى الأول، وهما من أبرز ملوك الرعامسة فى الأسرة التاسعة عشرة.

فى حضرته تتبدى إلهة العدالة «ماعت» التى تتمثل فى هيئة امرأة ترتدى على رأسها ريشة، هى رمز العدالة، الماعت التى سنها رع أول من حكم العالم، وعلى نهجها سار الفراعنة من بعده، فهى أهم قربان وأثمن هدية يقدمها الفرعون للآلهة، بل كان لزامًا على كل قاضٍ ممن يفصلون فى قضايا الشعب أن يُحلى صدره بصورة «ماعت»، وعند النطق بالحكم كان ينطق به وهو يمسك بهذه الصورة فى يده رمزًا للعدالة.

وقد وصف بعض كتاب عصر رمسيس الثانى ما عاش فيه الناس من مباهج ونعم، حيث كانت تتدفق الخيرات إلى إمبراطوريته فكتب أحدهم  «حقًا، إن الإنسان ليبتهج فى السُكنى فيها إذ لا ينقصها رغيبة تخطر على بال، وقد تساوى فيها الصغير والعظيم».

أقدم وثيقة فى تاريخ العالم

لا تغادر ساحة هذا الملك المحارب الفذ إلا بعد أن تقرأ سيرته فهو الذى مد فتوحه وتغلب على أعدائه، وأمَّن حدود مصر من جميع الجهات، وعقد مع عدوه ملك خيتا أول معاهدة فى التاريخ، بل أقدم وثيقة من نوعها كما يقول سليم حسن «فالمطلع على نصوصها يجد أنها الأساس الذى سارت على نهجه أمم العالم فيما بعد فى إبرام المعاهدات، بل إن ملك خيتا زوجه ابنته رمزًا للصداقة بين البلدين، وأطلق عليها رمسيس اسم «مات نفرو رع» أى التى ترى جمال رع.

لقد تزوج رمسيس أيضًا من جميلة الجميلات «نفرتارى»، الملكة التى كان لها أيضًا نفوذها السياسى، فلقد تراسلت ملكة مصر نفرتارى مع ملكة «خيتا»، بما يدل على الود والإخاء، ونظرًا لسياسة رمسيس الثانى الحكيمة فقد جاءت الوفود إلى مصر، من كل القطار الآسيوية، وامتلأت العاصمة «بر رعمسيس» بسفراء الدول، والجانب، فأصبحت عاصمته ملتقى حضارات الشرق.

 أثر عصر رمسيس الثانى على الشخصية المصرية

لقد تحولت البلاد فى عهد رمسيس الثانى إلى فترة ازدهار وتألق، فقد كان لمصر أسطول عظيم، يروح ويغدو فى ميناء عاصمتها، حاملاً لمصر الخيرات من البلاد الأجنبية فكان يرد إليها الأثاث المُطعم من خيتا، والزيت من بلاد سوريا، والنحاس من قبرص، والخيل من سنجار «بابل»، وقد أدى هذا الانفتاح إلى تطور كبير فى الشخصية المصرية كما يقول سليم حسن: «فقد أخذ المصرى يتحرر من قيود الماضى فى نواحٍ كثيرة، فلم يعد يحب البقاء فى عقر داره، بل أخذ يجوب البلاد الأجنبية، ويتعرف مجاهلها، ويفتخر بمعرفة جغرافيتها، وتخطيط بلدانها حتى أصبح كل نابغ فى هذا المجال يطلق عليه «ماهر»، وكان من نتائج ذلك أن اتسع أفق تفكيره، وأخذ يدرس العلوم الرياضية والهندسية».

الأخلاق تظهر فى تضاعيف الكلام

وقبل أن تمضى إلى زيارة معالم المتحف المصرى الجديد فلا بُد أن تعرف ما قصته علينا النقوش عن الملك رمسيس الثانى ووالده سيتى الأول فى معاملة الرعية، ففى إحدى الوثائق التى تورد كلمات رمسيس المُشجعة للعمال المهرة الذين نحتوا معابده فى الصخر، وأنجزوا معبد أبوسمبل الشهير، وغيرها من معابد، والرمسيوم القصر الفاخر وهو من عجائب العمارة فيقول رمسيس للعمال: «أنتم أيها الرجال الطيبون، يا من لا يعرفون التعب، ويا أيها الحراس الساهرون على العمل طوال الوقت، ويا من ينفذون واجباتهم على الوجه الأكمل، وأنتم يا من يقولون إننا نعمل بعد التروى فنقوم بهذه الخدمات فى الجبال المقدسة، لقد سمعت ما يقوله بعضكم لبعض، وإن فيكم لبركة لأن الأخلاق تظهر فى تضاعيف الكلام».

الخبز والعطور

ولم يكتف رمسيس الثانى بالدعم المعنوى للعمال الذين شيَّدوا مفاخر عصره من المعابد والقصور؛ بل وفر لهم كل ما يحتاجون من طعام، وما يلزمهم من كساء ومن عطور فيقول لهم: «المخازن مكدسة بالغلال أمامكم، ولا يمر يوم تحتاجون فيه للطعام، وكل واحد منكم عليه عمل شهر بالتناوب، ولقد ملأت لكم المخازن بكل شىء، من خبز ولحم وفطائر، ونعال وملابس، وكذلك العطور لتعطير رءوسكم كل أسبوع، ولكسائكم كل سنة، ولأجل أن تكون إخمص أقدامكم صلبة دائمًا، وحتى لا يكون من بينكم من يمضى الليل يئن من الفقر، ولقد عينت خلقًا كثيرًا ليؤمنوكم من الجوع، وكذلك خصصت سماكين ليحضروا لكم سمكًا وزُراعًا لينبتوا لكم الكروم، وصنعت لكم أوانى واسعة على عجلة صانع الفخار مسويا بذلك أوعية لتبريد الماء لكم فى فصل الصيف، والوجه القبلى يحمل لكم حبا للوجه البحرى، والوجه البحرى يحمل للوجه القبلى حبًا وقمحًا وملحًا وفولاً بكميات وافرة، ولقد قمت بعمل كل هذا لأجل أن تسعدوا، وأنتم تعملون بقلب واحد «سليم حسن» 2000،  «موسوعة مصر القديمة»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الجزء الأول.

فإذا استوثقت أنك قد ملأت عينيك من ملامح الملك رمسيس الثانى، وحملت من عبير تاريخه قبسا فيمكنك أن تقرأ كل ما كُتب عنه لتعرف أكثر عن الملك الذى حكم مصر لسبعين عامًا فعاشت فى كنفه فى رغد وسعادة، ولا تمضِ قبل أن تصافح عيناك تماثيل الملوك مرنبتاح ابن رمسيس الثانى، والملك سيتى الأول أبيه، خير ما أنجبت أسرة الرعامسة من ملوك.

وتأمل عشرة تماثيل للملك سنوسرت الأول والتى تم اكتشافها بمنطقة «اللشت» بالفيوم، فإذا غادرت الدرج العظيم فإنك لا بُد أن تزور قاعة الملك الذهبى توت عنخ آمون.

الملك الذهبى

توت عنخ آمون هو آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة من سلالة التحامسة، وهو الذى نقش على لوحة تذكارية بالكرنك ما أنجزه من أعمال ووصف نفسه فيها بأنه من أصلح أحوال البلاد «لأن الإله نفسه قد صوَّرنى، وأرواح عين شمس مجتمعة قد سوَّتنى، وإننى ملك رصين مُخلد، وحاكم يعمل لسعادة آبائه الآلهة، ويسيطر على أرض حور «مصر»، وتنحنى أمامى البلاد الأجنبية إجلالًا، وقد أعدت بناء ما هدته الأزمان الغابرة، وقضيت على الكذب ودعمت الصدق».

وقد حكم توت عنخ آمون مصر لمدة تسعة أعوام، وقد شيد جانبًا كبيرًا من معبد الأقصر، والصور التى أمر بنقشها على أثاثه الجنائزى يصفها سليم حسن فى الجزء الخامس من موسوعته فيقول: «ترينا هذه الصور مواقف لتوت عنخ آمون تفيض بسالة وإقدامًا، وأخرى تتدفق حبًا وحنانًا، تلمس فيه عاطفة العاشق، ووله الزوجة المغرمة الوفية»، وقد كان سعيدًا مع زوجه الملكة الشابة عنخس إن آمون ولهما صور على محرابه الذهبى، وهما فى نزهة لصيد الطيور، وهى تبين اهتمام ملوك الأسرة الثامنة برحلات الصيد فيما تركوه من آثار، وبخاصة أمنحتب الثالث، ومن قبله «تحتمس الثالث».

وقد صوَّر الفن رحلات صيد توت عنخ آمون فى لوحات بديعة، وقد خلد للبلاد مجدًا فنيًا عظيمًا. 

إن المتحف المصرى الجديد سوف يضم نحو خمسة آلاف قطعة تُعرض كاملة لأول مرة، ومنها قناع الملك الذهبى، وأغطية الأوانى الكانوبية الخاصة بتوت عنخ آمون، وتماثيل الآلهة التى تم العثور عليها بمقبرته وهما لـ «دواموت أف» وحورس الكبير، والمراوح الملكية التى عُثر عليها بمقبرته وهى من الخشب المصفح بالذهب، وتمثال للإله أنوبيس حامى الجبانة وحارسها عند الفراعنة القدماء.

وقد وصف هذه القطع الأثرية وصفًا جميلًا د. زاهى حواس فى كتابه «الملك الذهبى توت عنخ آمون»،  2009 ، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 144، وأشار إلى رحلات الملك توت عنخ آمون إلى الخارج منذ عام 1961 حيث سافرت قطع عديدة للعرض فى متاحف أوروبا، وروسيا، وكندا، واليابان، وأمريكا، وإنجلترا، والاتحاد السوفيتى.

الملك توت عنخ آمون الذى بهر الجميع، ووصفه هوارد كارتر الذى اكتشف مقبرة الملك فقال فى كتابه «اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون»: «لم نحلم قط بأى شىء مثل ذلك الذى رأيناه حجرة مليئة بالقطع الأثرية، تبدو كأنها متحف كامل، بعضها مألوف، وبعضها لم نر مثله قط، وكل القطع الصغيرة والكبيرة كانت منقوشة باسم الملك، تمثالان بالحجم الطبيعى للملك، وكانا يقفان فى مواجهة بعضهما كحارسين يرتديان نقبة ذهبية، وصنادل ذهبية، وكل منهما مسلح بمقمعة وعصا طويلة وعليهما الكوبرا المقدسة الحامية» هوارد كارتر: 2016 «اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، المركز القومى للترجمة  ونقله إلى العربية ثروت عبد العظيم، ص 208، ص 209.

كأس التمنى

فإذا أسرتك الأرائك المذهّبة، وجوانبها المنحوتة، وخواتم الملك الذهبية المزخرفة بالترصيع، وأقواسه المزينة بكثافة الذهب المرصعة بالأحجار الكريمة الملونة، وإذا استأثر بك جمال العرش الذهبى فائق الجمال المصنوع من الخشب الموشح برقائق الذهب فلا تنس أن ترى كأس التمنى الخاصة بالملك توت عنخ آمون  فعليها كل ما يستحقه الملك الشاب من صفات جميلة فقد كُتب عليها بالكتابة الهيروغليفية «ليحيا حورس، الثور القوى، محسن الولادات، الرتبان، جميل القوانين، مُخضع الأرضين، حورس الذهبى، مرتدى التيجان، مصلح الأراضى، ملك مصر العليا والسفلى، سيد الأرضين، نب خبرو رع إله كل مظاهر رع، واهب الحياة». والكأس كما يصفها هوارد كارتر منحوتة من المرمر، على شكل زهرة لوتس، وعلى بدن الكأس نجد اسم توت عنخ آمون فى خرطوشين داخل مربع.

إخناتون

ومن أهم ما تراه فى المتحف المصرى الجديد رأس الملك إخناتون وهى من الحجر الرملى وترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة، لا تنس رؤية جمال هذا الملك الذى حكم مصر (1352 – 1336) قبل الميلاد، فهو القائد الروحى الأول، فقد كانت عقيدته فى التوحيد لها أثر بالغ فى العالم الشرقى كله فكان المصرى القديم فى عهده يتعبد لإله واحد «آتون»، وقد انتشرت هذه العقيدة جنبًا إلى جنب مع العبادة الرسمية.

كما ترك عصره لمصر ما يُعرف بفن إخناتون الذى كان يدعو إلى الحرية فى العمل وعدم التقيد بالتقاليد القديمة فأصبح المثّال والرسام حرًا طليقًا، ولذا نجد فى مقابر ومعابد هذا العهد خليطًا من فن الأسرة الثامنة عشرة وفن عهد إخناتون معًا.

لقد كانت عاصمته هى تل العمارنة (على مقربة من ملوى الحالية بصعيد مصر).

ومن آثار إخناتون لوحة يبدو فيها هو وأسرته يتعبدون لقرص الشمس «آتون»، وقد أقام إخناتون معبدا لآتون فى الأشمونين، وفيه صورة لزوجته نفرتيتى، والأميرة مريت آتون تتعبدان لقرص الشمس، ويذكر سليم حسن  فى الجزء الخامس من موسوعته  «أن إخناتون أول ثورى عالمى كان مقتنعا فى قرارة نفسه بأن فى مقدوره أن يضع عالم الديانة والفكر والفن والحياة فى قالب جديد بعزم ثابت لا يُقهر».

 وقد بقى من آثاره ما شيّده من معابد مثل معبد الشمس فى الكرنك، ومعبد فى أرمنت كما شيد قصرا أطلق عليه «الفرح فى الأفق»، وهناك بالمتحف المصرى الجديد صندوق من المرمر الجميل فريد فى بابه من آثار إخناتون، وهو الصندوق الذى كانت توضع فيه الأحشاء وهو مختلف عن صناديق الملوك الآخرين. 

فى المتحف المصرى الجديد تكتشف فى كل أثر روحًا مُجددة، وآثارًا تدل على عظمة ملوك مصر، الفراعنة الذين وقرت فى قلوبهم العدالة «ماعت»، وحب الفنون من نحت وتصوير، وتماثيل، خلدت نظرتهم إلى الحياة، والعالم الآخر الذى استعدوا فيه لحياة أخرى ثمينة فاحتشدوا له بكل ما أحبوا فى دنياهم، وخلدوه فى أعمالهم، المتحف المصرى الكبير أهم حدث ثقافى تستعد له الآن مصر، بل ينتظره العالم.