الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
المزايدات المعلبة على المعاهدة

المزايدات المعلبة على المعاهدة

وقفت وزيرة الثقافة والسياحة الإسرائيلية ميرى ريغيف مشدودة وعيناها تلمعان من الدموع وهى ترى علم بلادها يرتفع فى بطولة الجراند سلام للجودو التى أقيمت فى أبوظبى. وهى البطولة التى نظمها الاتحاد الدولى للجودو. كان ذلك فى أكتوبر من عام 2018. دموع الوزيرة الإسرائيلية كانت تعنى أن دولتها وصلت. أخيرا وصلت. لقد طال الوقت. لكن توقيت الوصول كان حسب ترتيبات خاصة ومعقدة فى بلادها. إسرائيل هى من اختارت الوقت. والولايات المتحدة أعطت الإشارة.



أكثر ما يثير السخرية هو هذا الكم من المزايدات على معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية. وإذا حاولنا أن نراجع سريعا ما حدث فقد يكون علينا أن نرجع قليلا إلى الوراء لأن ما يلقى بظله الآن على الشرق الأوسط ليس عفريتا أفلت فجأة من قمقمه. وإنما هو ظاهرة طبيعية على أرض وتضاريس مهيأة وجاهزة وفى جو ومناخ يسمح ويفتح. البداية كانت إعلان أوسلو سنة 1993 ثم زاد عليه من اتفاقات تلته فى القاهرة وواشنطون ثم أخيرا بصفقة القرن. كلها اتفاقات أقبلت عليها الأطراف المشاركة فى صنعها ولكل منها أسبابه وأسلوبه. معاهدة الإمارات وضعت كثيرين فى مأزق وفى حيرة. فمعظم الإعلام العربى إما ممول من الإمارات أو قطر أو المملكة السعودية. أموال تتدفق بلا حساب. قامت دولة الإمارات فى العقد الأخير بدور كبير فى المنطقة جعل لها يدا طولى سياسيا واقتصاديا وإعلاميا. فردت مظلة الرعاية لدول ومنظمات وحركات سياسية وأحزاب وفصائل وقبائل وسياسيين وإعلاميين ومراكز بحث وفضائيات وصحف ومواقع إخبارية وشبكة عنكبوتية واسعة على السوشيال ميديا. أقامت مهرجانات سينمائية وثقافية ومعارض كتب ومسابقات رياضية. بل هى التى ترعى الأزهر – بديلا للمملكة السعودية - وترعى «وثيقة الإخوة» ما بين المسلمين بقيادة شيخ الأزهر والمسيحيين الكاثوليك بقيادة بابا الفاتيكان وسيدخل اليهود فى منظومة الاتفاقية. باختصار لقد وكل لدولة الإمارات إدارة وتمويل ورعاية القوى الناعمة فى الشرق الأوسط بتخطيط إنجليزى وقرار أمريكى. وعندما انفجر خبر المعاهدة الإماراتية الإسرائيلية ارتبك الجميع وارتجف. وأصاب الكثيرون الشلل. فهناك كم هائل من المفكرين والإعلاميين والكتاب والقيادات الإعلامية والصحفية فى مصر والعالم العربى يتقاضون أموالا مباشرة من الإمارات وهم فى موقف يحسد عليه. تأييد الاتفاقية ونيل الرضا. أم مهاجمة الاتفاقية والخروج من الجنة الإماراتية وتوقف التمويلات. أغلب الظن أن معظمهم سيتعامل وكأنه لم يحدث شىء ليتجنب الحرج وتستمر الأموال تتدفق. كما أن القيادات الفلسطينية التى تتقاضى أموالا طائلة من الإمارات وقعت فى مأزق مماثل – بعضا منهم طلب أموالا مضاعفة ثمنا للاتفاقية -. كأن المعاهدة تمت فجأة. فعلى مدار أعوام سابقة كانت المغازلات والوفود والاجتماعات والزيارات تتم ما بين الإمارتيين والإسرائليين. كلها من أجل عقد معاهدة سلام متكاملة ما بين الدولتين. ولا يوجد أى علاقة ما بين المعاهدة والقضية الفلسطينية على الإطلاق إلا من أجل حفظ ماء الوجه أمام الرأى العام. لقد قامت الإمارات بتهيئة المناخ العام لتلك الاتفاقية منذ سنوات. بل لعب الإعلام دورًا كبيرًا للتمهيد. فقد قدمت قناة ناشيونال جرافيك أبوظبى على مدار شهور ماضية أفلاما تسجيلية عن الحرب العالمية الثانية (أوبكاليبس) مركزة تماما عن الهولوكوست وعلى الجنرال هيملر قائد ال (اس – اس) المسئولة عن محارق اليهود. لقد قام الإعلام الإماراتى بدوره كاملا وعلى أكمل وجه. كانوا فى انتظار الإشارة الخضراء لبدء الإعلان. عجلت الولايات المتحدة عقد الاتفاقية لتدخل الإمارات سريعًا فى حربها ضد الصين. فهى الدولة الوحيدة التى يرتفع فيها علم التنين الصينى على مبنى فرع البنك المركزى الصينى على أرض دبى منذ نهاية عام 2016. أسرعت الولايات المتحدة برعاية الاتفاقية التى ستوقع فى البيت الأبيض لإزاحة الصين من الموانئ الإسرائيلية بعد أن اعترضت على اتفاقية شنغهاى التى تعطى للصين حق إدارة ميناء حيفا على البحر المتوسط لمدة 25 عاما. وبسقوط الحواجز على طريق الشرق. كان اتجاه الاستراتيجية الإسرائيلية يواجه آفقًا مفتوحًا حيث ينطلق السهم الاستراتيجى إلى الخليج. وهو القوس الواسع بعرض السماء للمستقبل الإسرائيلى. وفى التصور الاستراتيجى فهو نوع من البينولوكس – الاتحاد الاقتصادى الذى يجمع بلجيكا وهولندا ولوكسمبرج - وهو بداية محددة حتى يتضح اللا محدود فى خطط سوق شرق أوسطية تكون إسرائيل ركيزة ترتيباتها فى مجالات الإنتاج والتبادل التجارى والسياحة والخدمات من المواصلات والاتصالات إلى الكهرباء والماء. بحيث تكون هى الواسطة وهى القاعدة والعقدة وذلك هو شكل المستقبل المطلوب. وبه يتحقق السلام المرتجى. إسرائيل ترى أنها أعطت كل ما تريد أن تعطيه وهى الآن تدخل مرحلة الحصول على فوائد السلام. السلام من وجهة النظر الإسرائيلية هو السلام الأقصى. ليس مجرد نبذ الحرب والاتفاق على الحدود وتبادل السفراء. هذه كلها خطوات فى إطار السلام العادى. السلام الأقصى حدود مفتوحة بغير قيد. تجارة وتعاون علمى وتكنولوجى واتفاقيات ثقافية وسياحية ومشروعات مشتركة فى كل المجالات. حرية لانتقال رؤوس الأموال والأيدى العاملة. حركة بلا نهاية وسلام بلا حدود. وسوف تجتمع وفود من دولة الإمارات وإسرائيل خلال الأسابيع المقبلة لتوقيع اتفاقيات ثنائية تتعلق بقطاعات الاستثمار والسياحة والرحلات الجوية المباشرة والأمن والاتصالات والتكنولوجيا والطاقة والرعاية الصحية والثقافة والبيئة وإنشاء سفارات متبادلة وغيرها من المجالات ذات المصالح المشتركة ما بين الدولتين. وكان لا بد من الإضافة إلى الاتفاقية لتبريرها لجماهير غير مستعدة بالوجه الأكمل لاتفاقيات مع إسرائيل فى الوقت الراهن ما يجعل الاتفاقية عند البعض مغامرة. وعند البعض الآخر خيانة للقضية الفلسطينية. كان لا بد من التغطية على عيوب قد تظهر بتعليب وتغليف لامع براق للاتفاقية. هكذا زادت جرعات كثيرة من السكر. سكر وقف ضم الأراضى والقدس وغيرها وأضيفت طبقات سميكة من اللون وحاول الزجاج أن يقدم نفسه بمواصفات الماس. كان القادة الفلسطينيون ممن يحلقون فى الأوهام يرفعون لشعبهم التوقعات بأكثر مما هو مطلوب أو مبرر. وكانت النتيجة أن القرار السياسى لا يصبح مرهونا بالحقائق. وإنما يصبح مرتهنا للوهم. ذلك الارتهان للوهم يتحول على الفور إلى ميزة للطرف الآخر فى الصراع. لأنه يستغله لصالحه قيودًا على حركة الآخر وبالتالى مرونة هائلة لصالحه. إسرائيل ستقوم بإدارة الصناديق السيادية الخليجية. كل ما نراه أمامنا أو كان سرًا يقع تحت مظلة أمريكية وإدارة تنفيذ إنجليزية وهى ضمن المخطط الأكبر لمواجهة التمدد الصينى للشرق الأوسط. لقد عادت الولايات المتحدة مهرولة للشرق الأوسط بعد أن غادرته بغرور وتعالٍ بعد أن زرعت فيه الفوضى. لكن الانتشار والاستحواذ الصينى جعلت الولايات المتحدة تعود لتسد الثقوب التى تسلل منها التنين واحتلت مواقع وعقدت صفقات واستحوذت على دول. أهم ثلاث دول للولايات المتحدة فى الوقت الحالى فى المنطقة فى حربها هى دولة الإمارات وسلطنة عمان والسودان. عمان بموقعها الجغرافى وموانيها ونفوذها. والسودان لموقعها الجغرافى ومدخل مهم لإفريقيا والتى يمكن أن تستقبل على أرضها (الافريكوم) – القيادة العسكرية الأمريكية فى إفريقيا - وهى مسئولة عن العمليات العسكرية الأمريكية وعن العلاقات العسكرية مع 53 دولة فى إفريقيا عدا مصر. بعدما غادر موقعه فى ألمانيا. السودان يمتلك موارد وفيرة ومساحة شاسعة على البحر الأحمر وموانئ مهمة. الثلاث دول هى الأهم فى الاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط. وأخرجوا مصر من المعادلة. فمصر تكلفتها عالية. كما أن لها مشروعًا آخر يعد له يدخل مع إسرائيل وإثيوبيا. الحرب الدائرة شرسة تحتاج للتروى وتحتاج لإعلان الانحياز. فالقوتان العالمتان الآن تعامل بقية الدول أما حليفًا أو عدوًا. حرب أشرس وأضخم من الحرب الباردة الأمريكية السوفيتية. لن تسمح تلك الحرب بسياسة عدم الانحياز. فكم المصالح والتشابك واختلاف الثقافات والأيدلوجيات والحضارات جعلت المعادلة لا تقبل القسمة على اثنين. الصين تريد العالم كله لا اقتسامه. وستحقق ما تريد إما آجلا أو عاجلاً. لا داعى ولا وقت للمزايدات العربية المعلبة المعتادة. العالم يتشكل من جديد لمائة عام قادمة. وعلينا أن نتعامل بجدية ومهارة وإخلاص مع الأمر الواقع.