الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الدنيا التى اسمها «روزاليوسف» و«صباح الخير»!

الدنيا التى اسمها «روزاليوسف» و«صباح الخير»!

كانت زيارة الأديبة اللبنانية الكبيرة «ليلى عسيران» لـ «روزاليوسف» و«صباح الخير» فرصة ذهبية ورائعة لكى تقترب وتتعرف على نجوم هذه المدرسة الصحفية الكبيرة، ولم تنس وهى تدون مذكراتها «شرائط ملونة من حياتى» أن ترسم بقلمها صورة بالكلمات لهؤلاء النجوم وذكرياتها عنهم!



عن إحسان عبدالقدوس كتبت: «كان إحسان يتطلع إلىّ ويسألنى بهدوء: أنا مش فاهم أنت عايزة إيه بالضبط؟! فأضحك بسعادة صادرة من أعماق تضج بالحيوية، وأروح إلى «بهاء» وأخبره أنى أكتب فى الصحافة لا لأحقق ذاتى فيها، بل بانتظار اللحظة الخارقة الفالتة من الزمن، تلك اللحظة القادرة أن ترفعنى فوق الدنيا كموجة رياح عاتية، فأجلس مع ذاتى وأكتب الرواية!

كتبت رواية «لن أموت غدا» روايتى الأولى عن تجربتى مع أهل دار «روزاليوسف»، وليس بمقدورى اليوم بعد كل هذه السنوات أن أسجل بطريقة مختلفة خلاصة ما سطرته فى الرواية، شىء واحد أود أن أسجله اليوم، لأنه آلمنى وخيب ظنى من بين كل العاملين فى تلك الدار، إن «إحسانًا» لم يرض أن أنشر روايتى مسلسلة فى مجلته!

•••

وتمضى «ليلى عسيران» فى مذكراتها قائلة:

«ولد ابن «صلاح جاهين» فجر يومى الأول فى الدار - سبتمبر 1956 - واتفق أهلها أن يقيموا لى حفلة ترحيب فى بيت أحدهم، ولما دعوا «صلاح جاهين» أجابهم وشفتاه الغليظتان مبرطمة - أى غاضبة وحزينة - وقال: إزاى أنا عندى إحساس بالذنب، وكان تأنيب ضمير «صلاح» لأنه سيترك زوجته الرقيقة الوديعة «سوسن» فى ليلة الولادة لأول طفل لهما «بهاء» الصغير!

ولدت صداقتى بصلاح جاهين فى تلك الليلة، عندما أخذ يفضى إلىّ أنه هو ذلك الفنان ضخم الجسم، الموهوب موهبة كبرى فى رسم الكاريكاتير وتأليف الشعر والأغانى - لم يصدق أن «سوسن» التلميذة معه فى معهد الفنون رضيت أن تتزوج منه بالرغم من شكله! استمعت إليه بشغف ووجدت أن بر اءته لا توصف، فرحت، احتضنته بقدر ما وصلت إليه ذراعاى حول صدره لأقول له كم هو رائع!

وانهمك صلاح جاهين فى تكوين ثقافتى الفنية، وكأنه حملنى على كتفه وعبر السنين تولى تعريفى على أسرار القاهرة وحاراتها القديمة، على فنها وأبطالها المتفرقين والمتألقين فى ذلك النظام الجديد: ثورة عبدالناصر، وأذكر يوم أهديته «لن نموت غدا» وقرأها، كتب لى إهداء على كتاب جمع فيه الرباعيات التى نظمها: أهدى إليك كتابى فى اللحظة التى ولدت فيها فنانة!

وصلاح جاهين بالنسبة لى مثل «بهاء» لا يحصر فى كلمات، إنه عالم بذاته، رفقته تجربة مضنية غنية، معه كنت أسمع صوت الشجن، ومعه كنت أشتم رائحة مصر القديمة، وكلما تجولنا فى الحوارى والأزقة، كان يتطلع حوله وينبهنى: هل تشمين رائحة العظمة فى هذا البلد؟!

وتواصل «ليلى عسيران» اعترافاتها قائلة:

عشت خلجاتى وقلقى وهواجسى وتوقى إلى الإبداع، ومعه وضعت أصابعى على غير الملموس فى حديقتى السرية، وصحت فى نفسى مرارا: هاهنا مكانى، هو دنياى حيث ينقشع الغموض، فأنطلق على سجيتى، أزور مرسم الفنان «أبوالعينين» فى الخيامية، وفى الدرب الأحمر بالذات، وأجلس قربه أتأمله كيف يرسم، وفى المجلة أتأمله كيف يخطط «الماكيت»، وكلما أبديت له قلقى بأنى ربما لن أستطيع كتابة رواية، كان يشجعنى بأسلوب غير مباشر عندما يقول لى: إحنا مش حنموت بكره، لن نموت غدا!

صعب أن أسجل تاريخ أولئك الناس الذين كانوا من أبدع الإشراقات التى هلت علىّ! ألم يقل لى أبوالعينين: على مهلك علينا، لقد انقلب مجتمعنا رأسا على عقب، وبعدها تنتظرين منا ألا نكون مجانين؟!

«رجائى» ذلك الرسام العبقرى كان يحيا على رسم الكاريكاتير ليتسنى له الرسم الآخر، هو رسم لى أجمل صورة نطقت بشجن القلق فى أعماقى، فعبر عن أكثر وجوهى صدقا، ثم «طفش» راح إلى اليابان وإلى أستراليا، وصديقه النحات «صامويل» تحول اسمه إلى «آدم»، كان أفضل نحات حديث فى مصر، هاجر إلى باريس، و«بهجت» صديق العمر رسام الكاريكاتير الذى ظل مع الخط الوطنى إلى يومنا هذا، وقتها كان يتمتم تعبيرا عن قلقه وخوفه من أن يثقل «دمه» فكيف يكسب قوته بدون خفة دم!

الشاعر صلاح عبدالصبور جلس معى يعلم الله ساعات طوالا نقرأ معا روايتى الأولى «لن نموت غدا» ويدلنى على مواقف الضعف والقوة.

يا إيهاب شاكر يا صاحب رسم «عقلة الصباع» هل تذكر أننا أخذنا قطار الرابعة صباحا إلى الإسكندرية لكى نحضر معا معرض «كمال خليفة» يا أيها النحات و الرسام النقى يا كمال خليفة كنت تلبس بنطالا صيفيا فى عز البرد وتصعد على قدميك إلى مسكنك فى الطابق السادس وأنت مصاب بالسل، لكنك كلا لم تمت، أنت فى وفى فنك إذن لم تمت!

•••

وتتواصل ذكريات «ليلى عسيران» فتقول:

كافيتريا فندق «الهليتون» فى القاهرة تفتح أربعا وعشرين ساعة، إذن هناك يؤوينا بعد منتصف الليل، تعرفت إلى الصديق «يوسف إدريس» الساعة السادسة فجرا، هناك ظهر أنى مجنونة فعلا عندما أطلعته على مجموعة من القصص القصيرة التى كتبتها، ورفضت نشرها وصاح بى: ماذا جرى لك! أنت قطعا أصبت بعارض جنون، إذ كيف تخيلت هذه السريالية، لن أطلب إذنك، أخذت واحدة «المستنقع» لأنشرها فى مجلة «الكاتب» وابتسمت واشترطت شرطا: أن يرسمها «أبوالعينين» وفعلا ظهرت «الكاتب» وفيها قصة «المستنقع» ووردة رسمها «أبوالعينين»!

يوسف فرنسيس الفنان الرقيق كالنسيم أهدانى لوحة سيريالية، راحت هى الأخرى احترقت فى بيتى، وناجى كامل أين هو يا ترى ذلك النحات الخجول الذى صادفته ثم رسمنى بأسلوب فرعونى، وأصر أن يهدينى تمثالا لابنة البلد من أعماله، وأخيرا عظمة الأستاذ نجيب محفوظ الباسم المتواضع الذى عمدنى الحرفوشة الأولى فى لقاء الحرافيش، سعاد حسنى، عبدالحليم حافظ، كمال الطويل، كمال الملاخ، نادية لطفى، يوسف شاهين، توفيق صالح، مسرحية الكراسى لـ«أبونيسكو» نقد رجاء النقاش! ماذا أعدد ومن؟ دنيا.. دنيا ساحرة كضوء القمر على سفح الأهرام.

ويظل «بهاء» الأكثر رزانة، الوصى الروحى صديق كل الفرقاء والنجم السياسى لتلك المرحلة، بهاء رصع روحى الصافية بالجواهر وكيف أحصى ما علمنى إياه؟!

هو سلم التوازن ما بين الجنون والعقل، أما الجنون الذى كنا نتداوله فلم يكن جنونا ضارا أو مريضًا، بل على العكس، كان يقال بمجال الإطراء، ووصف كل ما هو غير عادى! حتى إنهم كانوا يقولون عنى بتحبب: «هذه البنت مجنونة، أى تتصرف بأسلوب خارج عن المألوف، تمتلك عفوية وصراحة عارية من العقل الاجتماعى تفعل ما يحلو لها، ولا تفكر بالعيب.

دنيا «روزاليوسف» وسعت خطواتى،. فخطوت فوق العيب، مزقته، وعشت على هواى بينهم، وكان أسوأ ما قيل عنى هو «أنى مجنونة»، كنت أضحك على هذا النعت فهو يصف كل واحد منهم، إلا أن أحد كبار محررى مجلة «آخر ساعة» «جليل البندارى» كتب عنى تحقيقا وكان عنوانه «المجنونة»!

وتحكى «ليلى عسيران» عن مشاعرها الجياشة فى تلك المرحلة قائلة:

عشت فراشة أمتص الرحيق بنهم ونشوة، أخترق المخزون فى تلك النفوس التى انبسطت أمامى، ألتصق بنهم وألتهم وتفيض منى حواس جديدة تولد لأول مرة، أشعر بها وأصاب بالدهشة من أين لى هذه الطاقة، وكأنى نسيت طفولتى وسن المراهقة التى تعثرت فيها وتعذبت، لا أفهم غموضى ولا قلقى»!

لبسنى عبق تلك المرحلة الفياضة بالعطاء، وعند أحمد بهاء الذين كنت أتوالد كل يوم بفكرة، بلوحة، بومضة تضيئنى فأستريح معه، هو الذى فتح لى أسوار حديقتى السرية وبهت الغموض وتألق القلق حيوية على العطاء والتفاعل!

وبهاء هو أول من أحس بوجعى، فالإبداع موجع كلما اخترق الكيان ثم تفاعل به وانطلق جسدا جديدا، لم أكن رسامة ولا ممثلة ولا قصيدة ولا مغنية، كنت حالة وكنت جدية، وتسامى الطريقان فى ذاتى وأحدثا ضجيجا هو حريق قلقى، وبهاء هو الذى وضع قلبه الشفاف الرقيق الدقيق بين راحتى ووجهنى عقله المبدع المتفاعل بنفس التفاعل الذى كنت أتخبط فيه.

بها ء وضع يده على وجدانى فاسترحت، أهدانى عالمه، أهدانى ذروة ما اكتشفه على أرض مصر، وكأنه يدفعنى إليه لأنهل منه، فأصقل نفسى، ولأكمل نواقصى ولأصب فى دنياه نفحتى العربية كتابة وكلاما ونقاشا وانفعالا، بهاء غير موجود بين أبطال «لن نموت غدا» لأنه بطل كل الأزمنة!

انتهت شهادة ومذكرات الأديبة الكبيرة ليلى عسيران التى رحلت عن عالمنا فى أبريل سنة 2007، وتبقى رواياتها ومذكراتها عملا أدبيا لا يموت!