السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
حكايتى مع أحمد بهاء الدين وصباح الخير !

حكايتى مع أحمد بهاء الدين وصباح الخير !

غادرت الشابة اللبنانية (ليلى عسيران) مصر لتستقر فى بيروت تواصل دراستها الجامعية، لكن مصر لم تفارقها لحظة واحدة، ولم تنس أبدا أن تروى فى مذكراتها (شرائط ملونة من حياتي) الصدفة التى جعلتها تقترب من أسرة روزاليوسف ونجومها وكان لها ذكريات وحكايات!!



 

وعن طريق صديقها البعثى السابق هيأ لها مكانا متواضعا فى دار الصياد لتبدأ مشوارها الصحفى وتمضى فى مذكراتها قائلة : 

(من يصدق أنى بدأت الصحافة فى مجلة (الشبكة) أكتب فيها عن أزياء النساء، وكان (ياسر هواري) الصديق هو أول من علمنى أصول الكتابة الصحفية وتصادقنا كالأخوة، وأصبح سرى المهنى أطلعه على منحنيات حياتى فيرفع معنوياتى وينصحني.

أما الأستاذ سعيد فريحة (صاحب دار الصياد) فقد بدا مبتهجا بوجودي، ولا أنسى كيف أصبت بالدهشة عندما اكتشفت أنه يمضى يومه بالبيجاما ينزل إلى مكتبه من بيته فى الطابق الأعلى من بناية دار الصياد ويكمل نهاره فيها وهو يحس بعفوية إنه لم يبارح منزله !!

وللأستاذ (سعيد فريحة) ناحية أخرى لشخصيته إلى جانب نهجه الوطنى ومقدرته الصحفية، كان إنسانا اجتماعيا مرحا، يستضيف فى بيته من يحلو له من ضيوفى لبنانيين وعرب، ثم يختار الباقين من زملاء الدار، وكنت أنا فى معظم الأحيان من ضيوفه، وهكذا تم تعارفى بالكاتب المصرى الشهير والصحفى اللامع. أحمد بهاء الدين)

وكان (بهاء) آنذاك رئيس تحرير مجلة (صباح االخير) الصادرة عن دار (روزاليوسف)، وجلس بجانبى صدفة، فسألنى من باب التهذيب: ماذا أكتب ؟! فأخبرته، ثم أضفت سؤالا عن المسار الوطنى فى ظل عبدالناصر، ودار بيننا حوار شيق وفاجأنى (بهاء) عندما نادى الأستاذ (سعيد) ونصحه أن يستفيد من مواهبى الوطنية فلا تقتصر على أزياء النساء، وأخبره أنه سوف يطلب منى أن أراسل (صباح الخير)!

وكان (بهاء) يعتبر فى ذلك الوقت من الكتاب المصريين القلائل الذين يتناولون العروبة بالمفهوم المتعارف عليه وذاع صيته بين المثقفين العرب!!

وهكذا تركت (ليلى عسيران) الكتابة عن أزياء النساء وتركت مجلة الشبكة لتنطلق فى آفاق أخرى وتمضى قائلة: (لم أنس) بهاء وذهبت إلى دمشق وأجريت تحقيقا حول مدى نفوذ الاتحاد السوفيتى فى سوريا، قابلت وزراء وسياسيين مهمين، ونشرت (صباح الخير) تحقيقي، فشعرت أنى خطوت الخطوة الأولى فى الإطار الذى أردته لفنسى وهو (التحقيق الوطنى السياسي)

 وكنت أكاتب (أحمد بهاء الدين) من بعد زيارته لبيروت، وتردنى رسائله بخط صغير منمنم، يختصر لهفة الشوق والرغبة فى الاستزادة من المعرفة بأسلوب خاص به، فقد ولدت بيننا بداية علاقة تضمنت حساسية شفافة، ما لبثت أن تطورت عبر السنين واللقاءات المتكررة، وتوطدت وارتفعت فوق الصداقات الأخري، وكانت لعلاقتنا (فرادتها) لما تضمنت ما هو أرفع من العواطف االعادية، لأننا – هو وأنا – غمسناها فى الهم الوطنى والممارسة الكتابية 

وكان بهاء قد حثنى فى رسائله بعد تعارفنا الأول فى بيروت أن أزور القاهرة، وشاءت الظروف أن تحقق لى رغبتي،فرافقت أمى ذات يوم إلى هناك، وجرى احتفال خاص للتلاقى معه والخروج معه، وكانت أمى هى التى فرضت تلك الشكليات فاتفقنا على موعد وقدمته لها، ولم أفهم قلق أمى على علاقتى به ! انا الجامعية التى تسافر وحدها وتعاشر من شاءت لعلها خافت على من أمور غير منظورة هى نفسها لا تعرفها!!

وبدا منذ اللقاء الأول أن أمى استراحت إلى (بهاء) ذلك الإنسان الذى سيظل أقرب الأصدقاء إلى قلبى ووجدانى الفنى والسياسي، ورضيت أمى أن أرافقه طيلة ذلك النهار الأول معه فى القاهرة، وانطلقنا أنا وهو بطبيعة الحال لزيارة دار روزاليوسف!

وصلنا المبنى الذى تصدر منه المجلة، ووقفت أمام الباب على مستوى الشارع، فكانت لحظة نقاش بألف لحظة من عمري، كم كان سنى وقتها؟! ربما التاسعة عشرة!!

وقفت أمام دار روزاليوسف بضع لحظات أخرى وأنا أتأمل السلم الحجرى الصاعد أمامى إلى صالات التحرير، وانتابنى شعور أنى على وشك القيام بتجربة غير عادية، وهى أن أصعد هذا السلم مع (أحمد بهاء الدين) بالذات وأضع قدمى على كل درجة قديمة مجوفة لكثرة من تسلقها كُتاب وصحفيون وفنانون جاءوا مثلى إلى هذه الدار كمبتدئين!

لحظة انطبعت صورتها واضحة فارقة فى مخيلتى وعاشت حية مؤثرة فى وجدانى حتى اليوم وأتذكر أنه عندما انتقلت دار روزاليوسف إلى مبناها الجديد (فى شارع قصر العيني) غطى على حزن غامض مكرب وقيل إلى أن الطالع السيئ سوف ينال منها، ولاحظت بين زيارة وأخرى إلى القاهرة أن علاقة العاملين فى الدار قد تبدلت بصورة ما، وكانوا هم أنفسهم يقولون أنهم يشعرون وكأنهم أضاعوا شيئا من ذاتهم فى المبنى الجديد !!

وتمضى (ليلى عسيران) فى سرد مشاعرها وذكرياتها قائلة: أما زيارتى الأولى بصحبة بهاء فقد رفعتنى إلى فوق السحاب، وربما هبطت إلى الأرض عندما جلست فى مكتبه وأنا أكاد ألا أصدق أننى بلحمى ودمى فى قلب الدار!!

عرفت منذ لحظة اللقاء الأولى مع صحفيى الدار ورساميها، أنى أدخل إلى اسرار (حديقتى السرية) ! انطلقت معهم بعد التعارف السريع على سجيتي، وشعرت كأنى عرفتهم طيلة عمري، ولم تمتد يد خفية لتعتصر قلبى حذرا، كما كنت أحس بالغربة الشديدة تجاه الآخرين من الناس العاديين لأنهم لا يفهمونني! كنت أفتش دوما عن بطولة ما فى هؤلاء الآخرين، وعندما لا أجدها أتركهم، حتى لو جرحتهم كانت قسوة الشباب تملى على تصرفاتى الهجواء، لأننى كنت إنسانة لا تناقض نفسها، بل تدفع ثمنا غالبا للصفاء والصراحة والصدق، فتزعجنى ملامح الزيف عند غيري، فأكسر وأحكم على العلاقات المحيطة بى بلا رحمة!

وظلت أمى المطلق الوحيد فى حياتي، وعندما بدأت أعى ذاتى ازداد ارتباكى بالحياة، خفت منها، وشعرت وقتها أن حديقتى السرية قد اكتمل تكوينها من حيث لا أدرى ! كنت أتمنى أن أحيا حياتين أو ثلاثة لكى أحقق كل الآمال المودعة فيها، وعىّ الأول هو الذى أوجد لى تلك الرحاب التى أسميها حديقتى السرية!

حديقتى هى الأحلام والرؤى والهواجس غير المنظورة، هى شتى النمنمات الفسيفسائية التى تشغل أعماق أحلامى وأسراري) وفى ظروف ساعات لا أكثر تحولت (دار روزاليوسف) إلى المكان الذى أحدث المعجزة، وانبسطت فيه حديقتى السرية، فلم أعد واحدة مع فريق منهم وأخرى مع نفسي، لم يعد هناك عالمان، بهتت الغربة وانطفأت نار الوحدة المشتعلة، وامتلأ الفراغ، دخلت عليهم كالعاصفة، ولم أكن مجرد تلك اللبنانية التى تكتب عن العروبة وتتكلم بلهجة مصرية، بل تلك الطاقة المتفجرة التى اندمجت بعفوية نادرة مع الكتاب والرسامين والمفكرين وأقامت الدنيا وأقعدتها.

ولحكاية ليلى عسيران مع نجوم روزاليوسف وصباح الخير بقية