السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ريم خيري شلبي: أبي "شيخ" طَريقة

ركب سيارته وهو شارد الذهن، يداه الاثنتان على «الموقد» وعيناه على الطريق، لكن عقله وروحه يتوحدان دائماً مع أفراد « شعبه» الذين تحوطهم ضلوعه؛ يسمعهم، يتفهم دوافعهم النفسية ويكتب ما تبوح به صدورهم؛ فى أعماله الأدبية. قطع عليه حبل استرساله؛ دخان كثيف يتصاعد أمام عينيه. «فعلها ذلك (الكبوت) الغبى مرة أخرى «قالها بضجر شديد، فتح شباك سيارته فوجد  نفسه بمنطقة «المقابر» القديمة. نزل من سيارته،  وفجأة تشكل أمامه أحد «شواهد» القبور، فى ملبس صبى قهوة أسمر البشرة، طويل، شعره أبيض كقطعة اجتزت من السحاب، اقترب منه وطمأنه أنه يستطيع أن يرتاح على المقهى، حتى يُنهى الميكانيكى عمله.   أتى له  بكرسى وترابيزة، وكعادته أخذ يقرأ كل من حوله بنظرة خففت عنه الفزع الشديد الذى سرى داخله، لمح بعض وجوه الكبار التى يعرفها جيداً، أمثال إبراهيم عبدالقادر المازنى، يحيى حقى، نجيب محفوظ، وغيرهم.  ثم رأى عم أحمد السماك صاحب المنامات التى «لا تنزل الأرض أبدًا»؛ فعشق قصصه التى يرويها بأسلوب مختلف فى كل مرة، أتى له «صالح هيصة» بالشاى السكر زيادة والشيشة «القص» – خطيئته الوحيدة فى الحياة – عشق  هذا الجو الأسطورى، وخُصصت له تلك «الترابيزة» وأطلق عليها «مكتب الأستاذ».  يومياً أصبح يقود سيارته؛ وكلما تعطلت وصعد دخانها الأبيض الكثيف؛ ابتسم  لأنه على موعد بشلة الأنس وحكاويهم. وكلما جلس على «مكتبه» يقرأ ويكتب؛ ازداد عمره، وفى يوم ركب سيارته مغادراً، لينال عقله وجسده، أخيراً قسطًا من الراحة. وترك ورقة لهيصة وغيره من أصدقاء َالقهوة مكتوبًا بها: عشتُ معكم وبكم سنوات؛ احسبها هى عمرى الحقيقى، وصيتى الأخيرة لعم أحمد السماك – على سبيل المزاح  - أن يُلقى بمياه «الشيشة»  كل يوم على رأس تربتى، حتى أستشعر بوجودى  دائماً بينكم.



إمضاء خيرى شلبى

 

فى حوارى مع ريم خيرى شلبى المُهندسة الإذاعية والشاعرة والكاتبة وصاحبة باند «هيصة» الغنائى، حاولت أن أفتش معها عما بقى من حكايات غير محكية؛ عن العم خيرى.

 لو كنت أحد أبنائه وأملك «موهبة» فكيف كان سيوجهنى؟

أول شىء سيتأكد أنك موهوب ولست موهومًا، ثم سيقول اقرأ كثيرًا، وعندما تملك محصلة ثقافية قوية سيبدأ فى توجيهك حسب نوع موهبتك ويساعدك على صقلها.

 هل فعل ذلك معك ومع إخوتك؟

الأمر بالنسبة لنا كان مختلفًا، كنا نخاف أن نعرض مواهبنا عليه، خشية أن يتشدد علينا فى النقد، ولكنه تفاجأ بى أفوز بالمركز الأول بإحدى مسابقات القصة القصيرة، كذلك أصدر أخى زين أول ديوان شعرى له، وإصرار أخى إسلام على دراسة الإخراج بالمعهد العالى للسينما، وأخيرًا إيمان أختى الصغيرة التى تعمل كمخرجة بالقناة الثقافية، وتفاجأ هو بكل ذلك وفرح جداً، وتفاجأنا أيضاً  بسوء ظننا فيه.

كيف كان يسير يومه؟

هو منظم جداً، ساعده على ذلك، أمى أطال الله عمرها، فلم يشعر بأى تشتت أو مضايقات منا إطلاقاً، كان يقرأ كثيرًا أضعاف ما يكتب، يقرأ كل شىء. وأحياناً يحتفظ برواية واحدة بعدة ترجمات لها، ويعى جيدًا اختلاف كل ترجمة عن الأخرى، كنا نعلم أن ما يكتبه سار على النحو الصحيح، عندما ينفصل عن عالمه ويمازحنا قليلاً، وعلى العكس إن لم يوفق أو يرضى عما كتب.

 ألف الموسيقى الفرنسى «كانى سان صانص» الكثير من المقطوعات الخلابة، منها مقطوعة للأطفال سماها «البجعة»، التف حولها النقاد والجمهور معاً، وتركوا بقية أعماله العظيمة، فهل كان مسلسل «الوتد» هو «بجعة» العم خيرى؟

 يحزننى كثيراً، عندما يُذكر اسمه، فلا يعرفه البعض، ولكن ما إن يتم ذكر اسم «الوتد»، أو اسم فاطمة تعلبة، إلا وتجد الكثيرين يشيدون بهذا العمل العظيم. أبى لم ينل حظه كما يجب، فأعمال الأستاذ الكبير نجيب محفوظ نالت بريقها بتحويلها لأعمال سينمائية وتليفزيونية وأيضاً إذاعية، أعمال كثيرة كتبها أبى، استحقت  أن تتجسد من لحم ودم بعناية وحرفية مثل «الوتد». دائماً ما تبرأ من مسلسل «وكالة عطية» لأنه لم ينفذ بعناية، ويحب مسلسل «الكومى» الذى أُخذ عن ثلاثيته «الأمالى»، وأيضاً فيلم «سارق الفرح» المأخوذ عن إحدى قصصه القصيرة.

 العم خيرى ليس بالمتشدد فكرياً.. لكنه كان أقرب للمتصوفة  فى فهمهم وثقافتهم وروحانيتهم.. حدثينى عن هذا الجانب؟

أبى كان «شيخ» طريقة فكرية إن صح التعبير، فهو أحد رواد «الواقعية السحرية» بمصر والوطن العربى، كذلك تفرد فى أدب الرحلات، وطور فن البورتريه الصحفى المكتوب، فكان يرسم بالكلمات ما يعجز عن رسمه  أمهر الفنانين، وكان له مريدون كُثر من شباب الكتاب، منهم من صحت نبوءته له ومنهم من سرقته أضواء الشهرة وحاد عن الطريق، هذا بالنسبة للجانب الفكرى.. أما الجانب الروحانى فقد سمعت منه سابقاً أنه فى شبابه انضم لإحدى الطرق الصوفية التى هذَّبت روحه وعلمته التفريق بين التشدد والتحلّم، لكنى أحب أن أصفه دائماً بجملة واحدة «إنه بينه وبين ربنا عمار كبير جداً»، فكثيراً ما كانت تأتيه أرزاق من حيث لا يدرى ولا يحتسب، وكانت دائماً بوصلته فى الإبحار فى أيام زمننا هذا؛ هو «قلبه الأبيض» النقىّ من كل غل وحقد.

 كيف كان يكتب البورتريه بهذا السحر؟

كنت ومازلت أسأل نفسى هذا السؤال! والعجيب أنى لم أجد إجابة شافية له، فهو الوحيد الذى يعلم سر هذه الخلطة العبقرية، لكن أستطيع أن أبوح لك ببعض المشاهدات، فشخوص البورتريهات هى من تطلبه وليس العكس، فعندما يتكرر اسم أحد الأشخاص أمامه أثناء قراءته للجريدة أو أثناء مشاهدة لبرنامج توك شو، نجده يحسم الأمر بجملة واحدة قائلاً: فلان الفلانى شكله عايزنى أكتب عنهُ بورتريه، ثم يشرع بعدها بمذاكرة كل ما كُتب عنه، حتى يتشبع به، ثم يشرع بهدوء وانسيابية تدفق الماء، كتابة البورتريه ببراعة لا يستطيع أن يجاريه أحد فيها.

 كلمة أخيرة؟

أقول أنى أشتاق لضحكته، ولحضنه، ولسعة أفقه، فما قال لى من شىء واختلفت فيه معه، إلا يتضح لى بعد ذلك أنه كان على حق. كل ما أستطيع أن أصفهُ به، أنه هو «سارق الفرح»،  فلا فرح ولا سعادة بأيامى مُنذ رحيله