الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مصر وشرائط ملونة من حياتى!

مصر وشرائط ملونة من حياتى!

أمس واليوم وغدا لم تتغير «محبة» أهل لبنان لمصر وشعبها، ومنذ حادث انفجار مرفأ بيروت ظهر تضامن ومساندة مصر الدولة والشعب لأهل لبنان فى تلك المحنة الرهيبة. وإذا كان المواطن اللبنانى قد عبر عن حبه ومحبته لمصر طوال الأيام الماضية، فقد حدث نفس الشيء من نجوم الصحافة والفن والسياسة!



 

لايوجد كاتب أو أديب لبنانى إلا ويحمل لمصر وشعبها كل المحبة والتقدير أمس واليوم وغدا.. وفى مذكراتهم وحواراتهم الصحفية سوف تجد هذه المشاعر الفياضة.. لقد احتضنت مصر منذ زمن طويل كل موهبة لبنانية، وعلى رأس هؤلاء تأتى سيدة الصحافة «روزاليوسف»!

لكنى أتوقف هنا أمام مذكرات الأديبة اللبنانية الرائعة السيدة «ليلى عسيران» التى كتبتها بعنوان «شرائط ملونة من حياتى» الصادرة عام 1994 وقبل وفاتها بحوالى 13 سنة حيث توفيت عام 2007.

وفى تلك المذكرات التى وصفتها ليلى عسيران بقولها «الشرائط الملونة رمز.. شرائطى الملونة صورة مصغرة لنهم جيلى للحياة».. كانت مصر حاضرة وبقوة فى مسيرة ومشوار «ليلى عسيران» منذ طفولتها!

بعد سنة من انتهاء الحرب العالمية الثانية تلقت والدة ليلى رسالة من خالها الذى هاجر إلى مصر واستوطن فيها وجمع ثروة كبيرة، خبر لا يصدق سوف نسافر إلى مصر كى أتعرف على أهل أمى، سنقضى شهرا فى الصيف هناك، وسأفتش عن حقيقة الأمور، فأنا أريد التعرف أريد الاستكشاف، لأن كل جديد يبهر والمتعة تختبئ فى تلك الآفاق الواسعة التى سوف أطل عليها». سافرنا إلى مصر برا ومررنا بفلسطين وشعرت أن لهذا البلد حالة خاصة مما كنت أسمعه من أمى، أردت أن أعرف المزيد وأجابتنى أمى أنى على وشك اكتشاف بلد حضارى عظيم هو مصر.

وتمضى.. ليلى عسيران فى وصف حال أقارب أمها ثم تقول:

عمرى يدق أبواب العاشرة، أنا فى القاهرة تماما فى بقعة تنتصف شارع الملكة «نازلى» - (رمسيس) الآن - أم الملك فاروق - وبين جدران المدرسة الداخلية واظبت أرتدى  هذه الملابس ست سنوات كاملة وكل الطالبات مثلى يرتدين اللون البنى!

إن زيارتى الأولى للقاهرة كانت متعة سياحية أستجلى رونقها للمرة الأولى، أذوق أكلة الملوخية، أزور الأهرامات، حديقة الحيوانات، أتلقى هدية دمية كبيرة تنطق «ماما» كلما هززتها!!

خال أمى الأصغر يداعبنى بلهجة ساخرة يسألنى مرة: من أين أنا؟!

أسرعت أجيبه: عربية من لبنان!! يضحك ويمتحننى: عربية كارو ولا بويك؟! أنتفض وأعبس وأغتاظ!!

اللهجة المصرية فاتنة، لكنها فى أجواء أهل أمى لا تلهج بعروبة فيها الأخضر والأحمر والأسود والأبيض، كان علم مصر آنذاك أخضر وفيه ثلاث نجمات داخل هلال أبيض!!

كانت الغرفة الداخلية بالمدرسة تحتوى على اثنى عشر سريرا للطالبات الأصغر سنا كلهن مصريات و«أنا وحدى من لبنان» أتكلم بلهجة مختلفة!!

وتحكى «ليلى عسيران» عن مداعبات خال أمها عندما يسخر من زوجته التى تتكلم العربية ولاتجيدها ويسأل ليلي: إذا كانت تستطيع أن تعلمها العربى!!

وتقول «ليلى»: أصاب بالخجل وأتعثر بالإجابة، ويضحك هو مرددا الإغاظة عينها التى يوجهها نحوى رغبة فى التودد: أنت عربية؟!

فأقول عربية لبنانية!!

ويرتفع صوت الخالة، فإذا بها تتكلم للمرة الأولى منذ أن جلست إلى مائدة الطعام: يجب أن تتعلم اللهجة المصرية!

وأتذكر كيف تضحك بنات المدرسة لأنى لا أحكى باللهجة المصرية، وللمرة الثانية أشعر أنى لست كغيرى من الطالبات، أشعر بأنى مختلفة!

قضيت ست سنوات أتعذب بالأكل، البذنجان، والكوسا والقرنبيط، خضروات كنت لا أطيق طعمها، فطعمها كان أفظع من أن يطاق!!

وذات يوم طلبت الخالة من ليلى أن تشترى لها قمصان نوم، وتكمل:

- فرحت استقللنا المترو ومن شباكه كنت أتفرج كالسجين على الدنيا الغامضة حولى وأرقب كيف ننتقل من مصر الجديدة مدينة الشمس «هليوبوليس» إلى مصر، لماذا يسمى المصريون القاهرة مصر؟!

وتمضى ذكريات ليلى عسيران القاهرية وكيف أحبت الفول المدمس وزيارات نادى مصر الجديدة ولعب البينج بونج والسباحة فى حوض السباحة وتتسلل إلى داخل أسوار المدرسة روايات الجيب وقصص الحب والذهاب مع خالها لتناول الغداء فى جروبي.. ووقوعها فى الحب عندما اقتحم حياتها إنه كاتب وطلب منها أن تقرأ له هذه الرواية!!

وفى إحدى المرات تسأله: لماذا لم تكتب شيئا عن مصر؟! ضحك وقال إنه لا يفهم ماذا أقصد؟!.. وتنمو وتكبر قصة الحب! «وطرقنا كل شوارع مصر الجديدة فى سيارته وبعدها أستقل تاكسى لأعود إلى بيت الأخوال».

وتكتب «ليلى عسيران» لأمها فى بيروت ترجوها أن تكون هذه السنة هى آخر سنة لها فى القاهرة.. و«أمضيت الأشهر الباقية كسيرة النفس».. وتضيف:

وصلت بيروت أحمل حزنى وسنوات أضافتها التجربة إلى سنى حياتى.. وتلتحق بالكلية دنيا أخرى محررة من العيب، وتخوض غمار المناقشات السياسية المختلفة فى كلية بيروت للبنان، وتقع فى هوى شاب ملتزم بحزب البعث!!

وطوال تلك الفترة لم تغب مصر وأحداثها عن بال وفكر ليلى عسيران فتقول: 

فى تلك السنة تزاحمت الأحداث فى أيامى عبدالناصر عقد صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا، ازدادت حماسة الناس، تحدى الولايات المتحدة وشعرنا أن عبدالناصر يرفع سقف الوطنية الذى كان منخفضا إلى فوق، حيث تتجسد الكرامة.

وتشارك «ليلى» فى المظاهرات المؤيدة لمصر، وتنخرط أكثر فأكثر فى الفعاليات السياسية وتلتقى بالأستاذ «مؤسس الحزب» فى دمشق وتعترف قائلة:

حديثه سقانى أبعادا وسعت مداركى وشعرت أنى بين يدى خصوصيات إحدى الشخصيات التاريخية فى عصرنا، وكثيرا ما كنت أسأل الأستاذ: لماذا استطاع عبدالناصر أن يستوعب حماسة الجماهير أكثر مما استطاع الحزب؟، وتناقشنا حول دور الشخصية التاريخية والحزب التاريخى.. وسادت الحزب فى لبنان حماسة فائقة لعبدالناصر.

وتقرر ليلى عسيران تترك الحزب نهائيا بعد أن خاب أملها من مساره وتكمل:لم أسع ولا مرة للوصول إلى عبدالناصر عن قرب لا كمناضلة ولا كصحفية إلا أننى كغيرى من ملايين البشر اعتبرته زعيم الأمة العربية، وتأثروا بما كان يدعو إليه، هناك من عارضه وحاربه وأبغضه إلا أن الجميع اعترفوا بعظمة شخصيته، فقد خلق سابقة فى التخاطب المباشر مع الناس، أنشأ علاقة حميمة بينه وبين الناس، فكان الواحد منا يحس أن ذلك القائد الشامخ ينساب بعفوية معنا، ولقد أرست عفويته هذه علاقة عميقة دخلت العقل والوجدان وفتن بها الناس بشتى طبقاتهم!!

وأخيرا تقول ليلى عسيران: ولقد أنهض عبدالناصر بثورته طبقة مهمة من المثقفين المتفرقى الاتجاهات الوطنية وانضم إليهم رهط واسع من الفنانين والأدباء والشعراء، مصر عبدالناصر أضحت تسجل ذكريات جديدة حافلة، متحفزة جنونية صاخبة ساحقة مع كُتاب ورسامى دار «روزاليوسف» واندمجت فى بداية تكوين حضارى مكمل لمصر الغنية أصلا بتراثها!!

ولأبدأ الحكاية إذن من البداية!

ولحكاية «ليلى عسيران»

مع نجوم روزاليوسف

وصباح الخير بقية!!