الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

الخفاش الأزرق فوق سماء بيروت

قبل 62 عام تحديدا فى يوليو 1958 اقتربت وحدات الأسطول السادس الأمريكى من الشواطئ اللبنانية لتبدأ العملية التى أطلق عليها « الخفاش الأزرق» والاستعدات من أجل نزول 14 ألف جندى من قوات البحرية الأمريكية « المارينز» إلى شاطئ بيروت، سار الجنود وراء مبدأ الرئيس الأمريكى داويت أيزنهاور القائل بأن الولايات المتحدة يحق لها التدخل فى أى بلد لوقف المد الشيوعى.



 

ورط الرئيس اللبنانى كميل شمعون وقتها لبنان بتشعباته الداخلية القائمة على حسابات سياسية تعتمد على الخارج أكثر من الداخل فى حلف بغداد، أذا تتبعنا تفاصيل هذه اللحظة سندخل إلى عالم المتاهة السياسية فمن حادثة أغتيال سبقها تزوير أنتخابات إلى بلد جديد أصبح جار للبنان يمتد من وادى النيل إلى جبال سوريا هو الجمهورية العربية المتحدة ستحيرنا المتاهة ولن نفهم ماحدث والذى كانت ذروتها دخول « المارينز» العاصمة اللبنانية بيروت فى 15 يوليو 1958 

مظلة هذا الصراع الذى حدث قبل ما يزيد عن ستة عقود كانت الحرب الباردة أسما المشتعلة فعلا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، كانت الولايات المتحدة الإمبراطورية الفتية المزهوة بإمكانياتها العسكرية والاقتصادية ألا محدودة تمد يدها لتحكم قبضتها على الشرق الأوسط فى ظل منافسة سوفيتية شرسة.

أعطت الولايات المتحدة لهذه القبضة اسم حلف بغداد والذى رفضته القومية العربية بقيادة مصر الناصرية بشدة ومن ورائها الاتحاد السوفيتى وأصبح لبنان فى تلك اللحظة من التاريخ نقطة تلاقى المتصارعين بعد أن قرر شمعون الانحياز لطرف حلف بغداد رغم أن لبنان بتركيبته السياسية والاجتماعية فى غنى عن الدخول فى هذا الصراع الضخم وكان يمكن له أن يتحول إلى واحة يلتقى فيها الفرقاء لتسوية حساباتهم الممتدة بمساحة الشرق الأوسط ومنه إلى العالم أجمع ولكن الحسابات السياسية لقادة الداخل زجت بلبنان الجميل إلى بؤرة الصراع الدولى.

مع احتلال القوات الأمريكية لمواقعها فى العاصمة اللبنانية سيطرت على الوضع الملتهب بين الفرقاء اللبنانيين المنقسمين إلى فريقين مؤيد لتوجه شمعون الغربى والآخر مؤيد للمد القومى الذى تهب رياحه من سوريا المتحدة مع مصر ولكن كانت تلك السواتر التى يتخفى ورائها طرفى الصراع الرئيسى والأصلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى 

القوة الأمريكية أمتلكت وقتها فهم لحجم استخدام القوة فوضعت السلاح جانبا وأرسل أيزنهاور مبعوثه ميرفى ليجلس مع الفرقاء فأقنع الرئيس شمعون بالأستقالة وتولى قائد الجيش المعتدل فؤاد شهاب الحكم ليرضى الجميع بهذا الحل وتستقر لبنان إلى حين ويطير «الخفاش الأزرق» عائدا إلى سفن الأسطول السادس هو وجنوده فى أكتوبر من نفس عام الأزمة 1958 

يبدو أن قدر لبنان وأفعال سياسيه وتركيبته المعقدة تتشابك جميعا لتصنع مغناطيس عجيب يجذب الصراعات الامبراطورية الكبرى إلى أرضه ويحولها إلى مختبر نستطيع من خلاله مشاهدة أرهاصات قوى المستقبل وبقايا الماضى الراحل.

الاستقرار الذى صنعه «الخفاش الأزرق» انتهت صلاحيته بعد 17 عاما مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بين نفس الفرقاء بالتأكيد تغيرت فى هذه المدة تفاصيل المشهد فى الشرق الأوسط ولكن هذه التفاصيل ماهى ألا طلاء جديد غطى جذر الصراع الأساسى بين الإمبراطورية الامريكية والدولة العظمى التى تنافسها الاتحاد السوفيتى واستمرت الحرب بالوكالة بين الطرفين على الأراضى اللبنانية لمدة 15 عام.

جاءت لحظة نهاية عذابات لبنان وشعبه مع توقيع أتفاق الطائف فى 1989 وأيضا عند لحظة الطائف سنجد مزيد من التفاصيل المتعلقة بالداخل اللبنانى والإقليمى الشرق أوسطى وقد تأخذ العين عن جذر الصراع الحقيقى لكن عين المتابع للبنان يجب أن تذهب فى هذه اللحظة إلى أوروبا وتحديدا برلين فتزامنا مع توقيع أتفاق الطائف كان جدار برلين يسقط معلنا انهيار الاتحاد السوفيتى لتنتهى الحرب بالوكالة بين الأمريكان والسوفيت على الأرض اللبنانية. 

 ينسحب فى انكسار العلم الأحمر المزين بالنجمة الحمراء وحامى منجل الفلاحين ومطرقة العمال من فوق قبة الكرملين فى شتاء 1991 ليكن الشتاء الأخير فى حياة الاتحاد السوفيتى لتحقق الإمبراطورية الأمريكية أنتصارها الكامل على خصمها ويغلق مسرح الحرب الباردة أبوابه ويعود الممثلين إلى منازلهم انتظارا للعمل فى عرض جديد مع مخرجين جدد. 

بعد اختفاء العلم الأحمر ووضعه فى مخازن التاريخ انطلقت الولايات المتحدة فى سعادة وقوة غير محدودة تمارس دورها الإمبراطورى دون منافس وأصبح الشرق الأوسط بالنسبة لها « أفيش» دار عرض هوليودية تطلق من خلالها أسماء أفلامها العنيفة الدموية يساعدها فى عملها الحمقى والوكلاء فمرة تكن عاصفة الصحراء وأخرى تختفى العاصفة ويظهر الثعلب فتكن ثعلب الصحراء وقد تلجأ المخيلة الأمريكية إلى الكلاسيكية فترفع رايات الحرية باسم الاحتلال أو تجد فى الطقس وتقلباته ملهم لها فتطلق علينا ربيع عربى فوضوى مدعية فى بلاهة أن من رحم الفوضى سيولد الاستقرار.

شعرت الولايات المتحدة فى لحظة ما أنها أمتلكت كل شىء بل وصل بها الامتلاك إلى درجة الملل من الشرق الأوسط وتعقيداته فحتى لو تركته فمن سينافسها فيه وينافس عنواين أفلامها الهوليودية البراقة ؟ لكن بنفس منطق التشويق فى سيناريوهات أفلام هوليود كان هناك بطل أخر قادم من آسيا يصنع قوته الذاتية ويدرس فى دقة أسباب وضع العلم الأحمر للسوفيت فى مخازن التاريخ ووصل البطل إلى السبب أنه الاقتصاد.

انطلق البطل الصينى إلى الساحة الدولية بعلم أحمر مشابه لعلم السوفيت ومرصع بالنجوم متمسكا بالشعارات الشيوعية لكنها كانت مجرد شعارات فرأس الذئب السوفيتى الطائر قالت له عليك باقتصاد السوق وقواعده الرأسمالية ودع شعارات الشيوعية تواسى علم السوفيت المعلق فى مخازن التاريخ.

استهانت الإمبراطورية بالتنين القادم لها من أعماق الحضارة وفى نفس عام سقوط الجدار البرلينى قررت ذبح التنين فى مهده حتى لا يزعجها مستقبلا، أطلقت عليه النسخة الأولى من ربيعها فى ميدان «تيان من» ببكين ولكن التنين الذكى لم يستسلم وبكل ما يمتلك من قوة أنهى كل تقلبات الفصول وأكمل طريق بناء قوته وأبتسم للامبراطورية أبتسامة غامضة بل وأنحنى بأدبه المعهود معتبرا أن ما حدث سوء تفاهم غير مقصود بين قوتين على نفس طريق الرأسمالية وما هو إلا وكيل مسكين للإمبراطورية الأم.

صدق الغرور الأمريكى الابتسامة والإنحنائة وعادت الإمبراطورية الأمريكية لعبثها المعتاد فى الشرق الأوسط والعالم متناسية هذا الصينى المبتسم فى غموض، لكن قبل أعوام قليلة تحولت ابتسامة التنين الصينى الغامضة إلى ضحكة ساخرة من الإمبراطورية المغرورة فاقتصاده الذى راهن عليه أصبح هو الأقوى فى العالم وفتحت يد الاقتصاد القوى كل أبواب القوة الامبراطورية أمام التنين ليتحول إلى تنين مدجج بأحدث الأسلحة والأساطيل والعلوم والذكاء الصناعى وتكنولوجيا المعلومات.

وقف حكماءالإمبراطورية الأمريكية مذهولين مما فعله التنين الصينى فى سنوات معدودات وتنازعهم الرأى هل نحتويه أم نقضى عليه؟ بين إجابة الاحتواء والقضاء اندفعوا فى جنون إلى شواطئ التنين على بحر الصين الجنوبى محاولين تحجيم انطلاقه متناسين هذا الشرق الأوسط المزعج بخفافيشه وعواصفه وثعالبه وربيعه.

وقف التنين الصينى مراقبا أساطيل الأمريكان التى تحوم حول شواطئه وعلى وجهه نفس الابتسامة الغامضة تنازل الأمريكى عن غروره ولم يستهين هذه المرة بالابتسامة الصينية وعاد لحكمائه يسألهم فلم يجدوا أجابة واضحة وصريحة تفسر سر الابتسامة الغامضة لكن جاءت الأجابة من الشرق الأوسط. 

استدرج التنين الصينى الأمريكى المغرور حتى شواطئه والتف فى دهاء من ورائه ليضع كل ثقله فى هذا الأوسط ليتحالف مع الوكيل الإيرانى وحرسه الثورى الذى مزق عقده القديم مع الإمبراطورية الأمريكية. 

 وقع التنين الصينى معاهدة شراء كاملة لإيران لمدة 25 عام مقابل 400 مليار دولار وتسليم جميع الموانئ الإيرانية المطلة على الخليج العربى للسيد الصينى الجديد ولأول مرة تصل طلائع القوات الصينية وفق المعاهدة إلى طهران ليجد الأمريكى المغرور أن الابتسامة الغامضة تحولت إلى نار تخرج من فم التنين لتحرق ظهر الإمبراطورية العارى فى الشرق الأوسط.

لم يكتفى الوكيل الإيرانى ببنود المعاهدة ولتحقيق مزيد من المكاسب ولضمان عمر أطول لنظام الملالى فى طهران عرض على التنين تحقيق حلم كل إمبراطورية صاعدة وهو التحكم فى خطوط مواصلات البحرالمتوسط بعد أن أعطى للتنين موانئ الخليج المطلة على هرمز وسيفتح للتنين الصينى الطريق إلى بيروت من خلال عملائه المتاجرين بشعارات المقاومة وتم الاتفاق وفتح الطريق.

انتبه الأمريكى المصدوم على نصيحة تأتى من الإليزيه العريق الشرق الأوسط يضيع من أيديكم وخروجكم منه سمح للآخرين بالتواجد، خرج الرجل القوى وزير الخارجية مارك بمبيو لاعنا المعاهدة الصينية / الإيرانية مهددا بأن الأمان فى الشرق الأوسط أنتهى بسببها ولن تسمح الولايات المتحدة بأى تغيرات أرغى وأزبد بمبيو طويلا لكن بلا فائدة فالتنين يتحرك فى ثبات وقوة داخل الشرق الأوسط بمساعدة وكيله الإيرانى. 

فى تلك اللحظة عاد المغناطيس اللبنانى العجيب للعمل من جديد جاذبا الصراعات الإمبراطورية على أرضه أسترجعت الامبراطورية الأمريكية عارية الظهر والمتأكلة فى الخليج أحداث العام 1958.. 

فدوت أصوات الأنفجارات وعاد الخفاش الأزرق يحوم من جديد فوق سماء بيروت.