الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ماكرون وحلم «لبنان الكبير»

«لبنان يقايض» أحد أبرز المجموعات الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي  لمقايضة الملابس والأغراض بالمواد الغذائية أو الأغراض الأخرى والتى ذاع صيتها -عقب وقوع انفجار مرفأ بيروت الكارثي- والتى لم يكن من الصعب اقتنائها لولا تردى الوضع الاقتصادى وانهيار العملة أمام الدولار فى بلد يستورد جل طعامه وشرابه.



 

انفجار لبنان الذى سمته وسائل الإعلام بـ «هيروشيما لبنان» بسبب تخزين شحنة كبيرة من نترات الأمونيوم القابلة للانفجار خلّف دمارًا واسعًا على الأصعدة كافة، وخصوصًا مخزون لبنان من الأغذية الذى كان أكثر من 70 % منه بمنطقة الانفجار، وهرع فقراء لبنان إلى مجموعات المقايضة بحثًا عن علبة حليب للأطفال أو بعض الأغذية الجافة كالأُرز والعدس والبقوليات والمعلبات.

تشرد 300 ألف مواطن 

بلغة الأرقام يواجه لبنان أزمة خطيرة جراء تشرد نحو 300 ألف مواطن بسبب  انفجار بيروت، ويفاقم معاناتهم نقص مادتى الزجاج والألومنيوم جراء تحطم نسبة كبيرة من نوافذ منازل العاصمة، فى وقت تعانى فيه البلاد أزمة فى الدولار تعرقل الاستيراد، مما يهدد بأن يواجه لبنان أزمة زجاج حادة.

وأدى الانفجار إلى 4 مستويات، التدمير الأكثر فتكًا حدث فى ميناء بيروت ضمن قطر 1 كيلومتر، والمستوى الثانى، وكان ضمن قطر 3.2 كيلومتر ويعيش بها قرابة 750 ألف إنسان وأدى إلى تدمير واجهات أو سقوط شرفات بعض المبانى، ولكن التدمير الأكثر انتشارًا فى هذا القطر كان تحطم النوافذ، وفى القطر الثالث البالغ 5 كيلومترات، أحس الجميع بالانفجار والارتجاج الناتج عنه، وفى الرابع، وصل الصوت والإحساس بالهزة الأرضية إلى أكثر من 2 مليون إنسان، فيما قدرت الخسائر المادية بنحو 15 مليار دولار، ناهيك عن 137 قتيلًا ونحو 5 آلاف جريح وعشرات المفقودين تحت الأنقاض. 

ماكرون وسط الأنقاض

وسط الأنقاض اللبنانية ظهر الرئيس الفرنسى ماكرون وكأنه يحاول استغلال التفجير لإعادة الحلم الفرنسى القديم قبل أكثر من 100 عام بتشكيل لبنان الكبير، وقال ماكرون خلال زيارته الخميس الماضى للعاصمة اللبنانية إنه سيقترح «ميثاق جديد» وحذر لبنان من أنه سيواصل ما وصفه بـ«الغرق» إذا لم تُنفَّذ إصلاحاتٌ يضعها المجتمع الدولى شرطًا لحصول لبنان على دعم يُخرجه من دوامة الانهيار الاقتصادى.

ووسط الترحيب الجارف من بعض المواطنين اللبنانين الذين سارعوا لمعانقة ماكرون – والتقاهم قبل المسئولين السياسيين ببيروت- قال إنه يضمن ألا يذهب الدعم الفرنسى لمن وصفهم بـ«الأيدى الفاسدة». 

وقال مراقبون إن لقاء ماكرون بالرؤساء ميشال عون وحسان دياب ونبيه برى فى بيروت دعا فيه لتشكيل حكومة جديدة مستقلة واختصاصية وإعلان انتخابات مبكرة، والتحضير لميثاق وطنى تضعه خبرات مستقلة غير مرتبطة بالأحزاب، مشددًا على أن الإدارة الفرنسية حريصة على أن تباشر لجنة تحقيق دولية عملها فى كارثة المرفأ وأنه يدعم هذا الطرح.  لبنان الكبير 

قبل 100 عام فصلت الاحتلال الفرنسى لبنان عن سوريا، لتحويله لوطن للموارنة، الطائفة الأقرب لفرنسا فى الشرق، وألحقت به بعض أقاليم إسلامية كانت أقرب لسوريا، بناء على طلب البطريرك المارونى، لضمان عدم تكرار المجاعة التى عانى منها جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وظلت باريس بمثابة الأمَّ الحنون فى نظر الموارنة، وراعيًا متقلبًا فى الأغلب للبنان، حتى مع تراجع دورها لصالح صعود الدورين الإيرانى والسعودى.

واليوم، مع تعزيز الهيمنة الإيرانية، والتراجع السعودى، انحدر لبنان إلى أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تُوّجت بكارثة تفجير بيروت، وبلغ اللبنانيون حدًا من السخط على قادتهم، أتاح لماكرون الفرصة لكى يجاهر برغبته فى إعادة صياغة النظام السياسى اللبنانى المهترئ وفق هوى فرنسا لإعادة الحلم القديم.

وليس سرًا أن طائفية لبنان أحد بنات أفكار المستعمر الفرنسى، وخلال تبعية لبنان للدولة العثمانية كانت فرنسا تقوى الطائفة المارونية فى مواجهة الدولة العثمانية والمسلمين والدروز، وكان نظام المتصرفية الذى كان هدفه الرئيسى تعزيز دور الموارنة بدايةً لترسيخ المحاصصة الطائفية.

ومتصرفية جبل لبنان هو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية وعُمل به من عام 1861 وحتى عام 1918، وجعل جبل لبنان منفصلًا من الناحية الإدارية عن باقى بلاد الشام، تحت حكم متصرف أجنبى مسيحى عثمانى غير تركى وغير لبنانى، وبعد تأسيس لبنان على يد فرنسا انحازت للمسيحيين والطائفة المارونية تحديدًا، مرسّخةً نظامًا طائفيًا يحابيهم، الأمر الذى أدى فى النهاية، إضافة إلى أسباب أخرى، إلى اندلاع الحرب الأهلية، والتى انتهت باتفاق الطائف، والذى أنهى الهيمنة المسيحية على البلاد، لتحلّ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين نظام المحاصصة القائم، على أساس 6 للمسيحيين مقابل 5 للمسلمين السابق.

وخلال الفترة الماضية تراجع النفوذ الباريسى مع صعود الدور المصرى ثم السورى ثم السعودى فالإيرانى، وجاء مؤتمر سيدر الأخير الذى احتضنته باريس، وخلاله اشترط المجتمع الدولى شروطًا حازمة لكى يمد يد المساعدة للبنان ارتبطت بالفساد والمحاصصة وإصلاحات ضرورية، وفى طيات الأمر كان الشرط «وقف تمدد حزب الله» وهو ما يعنى تغير المعادلة من كون لبنان منطقة نفوذ مقسمة بين إيران والسعودية وفرنسا، إذ أصبح ينظر إليه على أنه تابع لإيران.

لماكرون مآرب أخرى

ترى فرنسا فى لبنان أيقونة فرانكفونية مسيحية فى الشرق،  لكن اليوم بعد 100 عام من إنشاء فرنسا للبنان الكبير فهذا البلد الجميل بات بالفعل «مستعمرة إيرانية خالصة» ليس فقط عبر حزب الله، بل أيضًا عبر حلفاء الحزب المسيحيين، مثل التيار الوطنى الحر، أكبر حزب مسيحى فى البلاد. ويسعى ماكرون لاستغلال تراجع الدور الأمريكى واللامبالاة الألمانية التقليدية بمنطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط، لإعادة صياغة المنطقة وفقًا لرؤيته وباستخدام الإمكانات الأوروبية لخدمة مصالح باريس، فهو يحاول تنصيب نفسه متحدثًا وزعيمًا للاتحاد الأوروبى، فى ظل قبول ألمانى ما دام الرئيس الفرنسى لا يتجاوز خطوط برلين الحمر، باعتبارها أكبر ممول للاتحاد الأوروبى.

وبكلمة أخرى تهدف فرنسا لـ«تجييش» المساعدات العربية والدولية، لقاء ما تسميه تغيير ميثاق البلاد (الميثاق أشبه بتوافق على مبادئ لتقاسم السلطة والتعايش، تفضى فعليًا إلى المحاصصة) لكن لا يبدو الأمر بسيطًا إطلاقا. 

خلال العقود الماضية لعب رأس المال السعودى الهائل دورًا عبر اتفاقية الطائف فى تغيير موازين القوى فى لبنان عبر الدستور فكانت السعودية هى الممول ويد حافظ الأسد السورية هى ذراع الرياض لإجبار القادة اللبنانين على الانصياع لاتفاق الطائف، ومع ذلك رفض بعضهم مثل العماد ميشال عون هذا الاتفاق، وفرّ هاربًا من  السوريين الذين هاجموا القصر الرئاسى الذى كان يتخذه مقرًا.

والحقيقة أن اللبنانيين لا يتورعون عن سباب قادتهم السياسيين حينما كانوا يقولون فى المظاهرات «كلن يعنى كلن» لكن حين يأتى موعد تطبيق هذا الهتاف بتعيين أسماء القادة الفاسدين وانتقادهم، ترفض كل طائفة أن ينتقد أحد زعماءها، ولكن ليس لديها مانع من سب زعامات الطائفة الأخرى، ف«كل زعيم فى لبنان له شارعه».

ولن يتخل القادة اللبنانيون عن دورهم السياسى ويقبلون بالمحاصصة ويتابعون أناسًا آخرين (نشطاء مثلا) عبر شاشات التلفاز يحكمونهم بسهولة، فالأمر بحسب مراقبين يحتاج لانتخابات طبيعية تفكك التركيبة الطائفية لمجلس النواب، فهو لن يكون مقبولًا من المسيحيين أصدقاء فرنسا التاريخيين، والذين سيتضررون من أى انتخابات غير طائفية، لأن الوضع الحالى يعطيهم أكثر من وزنهم السكانى، فالنظام الطائفى اللبنانى خلقته فرنسا قبل أكثر من 150 عامًا، لإعطاء الموارنة وزنًا نسبيًا أكبر من حجمهم فى البلاد.

أما الأطراف الدولية التى يُفترض أن تموّل أى خطة لدعم الاقتصاد اللبنانى، مثل السعودية وأمريكا، فهدفها الأساسى هو القضاء على حزب الله، وافتراض أن الحزب الذى نشأ فى ظل الوجود السورى والاحتلال الإسرائيلى سيتراجع أمام مظاهرات المحتجين أو ضغوط دولية أمر يبعث عن الضحك فالحزب لن يترك سلاحه طواعية، وهو ما يهدد بحرب أهلية جديدة، فحزب الله يريد استمرار سيطرته هو وحلفاؤه على مفاصل الدولة، وعدم المساس بسلاحه أو مصالح طائفته أو حلفائه، فى مقابل تقديم تنازلات شكلية تسهّل التمويل القادم من الخارج.

وثيقة ماكرون 

دعا ماكرون لوضع وثيقة تأسيسيّة تكون بمثابة عقد سياسيّ واجتماعيّ جديد للبنان وفى حال لم تصدر قبل نهاية هذا الصيف، فإنّ فرنسا ستلغى أيّ إمكانيّة لمساعدة لبنان ماليًا، ناهيك عن مخرجات مؤتمر سيدر الذى عقد فى باريس عام 2018، وقرر منح لبنان منحًا وقروضًا بقيمة ١٢ مليار دولار شريطة إجراء الإصلاحات، وستحضر باريس تواصلها مع لبنان بلجنة مدنيّة من الحراك تمثّل الشعب اللبنانيّ وليس الإدارة السياسيّة التى تُدير الدولة منذ سنوات.

وترمى الوثيقة الكرة فى ملعب البطريرك المارونى مار بشارة بطرس الراعى والذى لعب دورًا كبيرًا فى صياغتها انطلاقًا من طرحه الأخير حول ما سماه «حياد لبنان»، والذى حظى بدعم دولى وعربى، وقد تم عرض الوثيقة على المرجعيات الدينيّة، المسيحيّة والإسلاميّة، و«مار بشارة» وأهم ما فيها بند «الحياد المسلح» الذى تلتزم بموجبه لبنان الحياد تجاه أى معارك حاصلة خارج حدودها الجغرافية، ملتزمة فقط بمبدأ «الدفاع عن النفس» تجاه أى عدوان مسلح، ويكون رد العدوان من قبل «الجيش اللبنانى» فقط، الأمر الذى سيترتب عليه رفع قدرات الجيش اللبنانى العسكرية والمالية، واللوجيستية، والذى ستتولى واشنطن وباريس ودول أخرى دعمه، وأن هذا البند يحتاج لموافقة وتنازل من حزب الله وقبوله بالصيغة الجديدة، إضافة إلى  تنفيذ اللامركزيّة الإداريّة عبر خطّة كاملة تُعيد بلورة عمل المؤسسات والهيئات والمصالح والمجلس على مختلف الأراضى اللبنانيّة، وإنقاذ المسار الاقتصادى والاجتماعى عبر تعزيز دور المنشآت الحيويّة الأساسيّة وتغيير إداراتها بناءً على نظام الكفاءة والجدارة بدلًا من الطائفية والمحاصصة المذهبية، والحفاظ على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين  فى مجلس النواب ومجلس الوزراء والتعيينات الإداريّة لمنع التفريط بها، فضلًا عن احترام المواطنيّة والتعدديّة وإشراك المرأة.

ويشير المراقبون إلى أن الوثيقة الفرنسية بمثابة إعلان توازن جديد فى لبنان وعليه القبول بها والتفاهم على ملف السلاح لاحقًا فى حال حصول اتفاق إيرانى – أمريكى فى المنطقة، ومن ثم على حزب الله التراجع عن الإمساك بمفاصل الدولة بحكم الموافقة الروسية والتى ستدفع طهران لاحقا للموافقة.